المادة    
يذكر المُصنِّفُ في قول الإمام الطّّحاويّ: [وتعالى عن الحدود والغايات] فالمعنى الذي أراده الشيخ رَحِمَهُ اللهُ من النفي الذي ذكره هنا حق؛ لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إِلَى بيان ذلك -فبين أولاً كلمة الحد- وهو أن السلف متفقون عَلَى أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته.
قال أبو داود الطيالسي: كَانَ سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر].
والمصنف نسب هذا القول إلى أبي داود الطيالسي، ولم يشر أين ذكره، ولم أستطع أن أعرف في أي كتاب ذكره أبو داود الطيالسي، ولكن سفيان وشعبه وحماد، كل هَؤُلاءِ الأئمة لا يمثلون ولا يشبهون ولا يحدون وأمثال هذه العبارات موجودة ومنقولة بكثرة.
وأشمل مرجع في ذلك هو كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ المُسمى الحموية الكبرى لأن الفتوى الحموية المعروفة هذه تسمى صغرى، ثُمَّ سميت كبرى لأنه أضاف إليها كلاماً جديداً ونقولاً طويلة، فسميت الحموية الكبرى، وهي موجودة في أول المجلد الخامس من مجموع الفتاوى وذكر شَيْخ الإِسْلامِ نقولاً طويلة عن عدد من الأئمة الذين ينقلون عن السلف بالسند مثل الهروي وأبي عبدالرحمن السلمي وأبي الشيخ الأصفهاني وابن عبد البر وابن أبي زمنين وغيرهم كثير.
وممن نقل وتوسع في ذلك أيضاً: الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ نقل عن عدد كبير ما يدل عَلَى هذا
  1. السلف كانوا لا يحدون

    الشاهد لِمَا يريد الشيخ هي كلمة الحد "كانوا لا يحدون" ما معنى أن السلف كانوا لا يحدون أو لا يثبتون الحد؟ يروون الحديث ويقولون بلا كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
    قال المصنف: [وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز عن الإحاطة خلقه، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده] يعنى أن مراد المُصنِّف في نفي الحد عن الله، أن الله سبحانه يتعالى أن يحيط أحد بحده، أي: أن يحيط أحد بصفته وبكيفيته، والمعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم.
    ولهذا يقول السلف الصالح: وإنه تَعَالَى فوق عرشه بذاته بائن من خلقه، وهذه العبارة تدخل فيما قاله المصنف: [إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد] كما احتجنا أن نقول: هو عَلَى العرش بذاته، فزدنا كلمة (بذاته) كما قال ذلك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة الرسالة: وهو عَلَى عرشه المجيد بذاته؛ لأن من النَّاس من يقول: وهو عَلَى عرشه في الأرض، والدليل قال تعالى:((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ))[الأنعام:3].
    فقال هو هنا وهنا، هو فوق العرش وفي الأرض والمعنى الصحيح للآية: هو الله الإله المعبود في السموات وفي الأرض ومثل هذه الإشكالات عند الحلولية وأمثالهم، فاحتاج السلف إلى إيضاح ذلك فقالوا وهو عَلَى عرشه بذاته، وهو مع مخلوقاته بعلمه، ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))[الحديد:4] أي:بعلمه ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ))[قّ:16] فالآيات في العلم ثُمَّ قَالَ: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))[قّ:16] "إذ" ظرف، والظرف متعلق بالفعل ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ))[قّ:17] أي: الملكان اللذان يكونان لقبض الروح.
    إذاً: الله مع المخلوق بعلمه وبملائكته، لكن بذاته هو عَلَى العرش، فأراد السلف أن يزيلوا اللبس عن العبارات التي هي حق ويستخدمها أعداء المذهب الصحيح والمخالفون له في معنىً باطل، فوضحوا الأمر أكثر بقولهم: بائن من خلقه.
  2. معاني الحد

    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [سئل عبد الله بن المبارك بم نعرف ربنا؟ قَالَ: بأنه عَلَى العرش، بائن من خلقه، قيل بحد؟ قَالَ: بحد] فكيف ينفي الحد؟ وهنا قول لبعض السلف بأنه يُحد.
    يقول: [ومن المعلوم أن الحد يقال عَلَى ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره] وهذا المعنى الأول، وهو ما يتميز به الشيء وينفصل به عن غيره.
  3. المعنى الذي لا يجوز أن يكون فيه منازعة

    [والله تَعَالَى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى] بالمعنى الأول [لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً] فهو تَعَالَى مباين للخلق منفصل عنهم ليس شيء من خلقه في ذاته وليس شيء منه أو ذاته في خلقه [فإنه ليس وراء نفيه] نفى الحد بهذا المعنى [إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته] إذا قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا معدوم وليس بموجود.
    والمعنى للحد الثاني [وأما الحدَّ بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتفٍ بلا منازعة بين أهل السنة].
  4. التوفيق بين ماورد عن السلف من نفي الحد وإثباته

    وقد ورد عن الإمام أَحْمَد وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعن غيرهم من أئمة السلف عبارات فيها إثبات الحد وعبارات فيها نفي الحد، فكيف توفق بين النفي والإثبات للحد؟
    الجواب: أننا نقول: الحد له معنيان، المعنى الأول بمعنى المباينة والانفصال، وهذا هو مراد من أثبته، فإذا قالوا: بحد، أي: نثبت أن الله عَلَى العرش يُحد، أي: بمباينة وانفصال عن المخلوقات، لأن المخلوقات محدودة بلا شك ولها نهاية، وهو سبحانه لا يحل فيها ولا تحل فيه، والمعنى الآخر هو: معنى القول أو العلم، وهو المعنى المنفي، هل يحده المخلوقون؟
    فَيَقُولُ: ومرادهم بقولهم ليس له حد، أي أن المخلوقين لا يستطيعون أن يحدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي أن يعلموا له حداً، بمعنى أن يعلموا أن له كيفية لأن عقولهم تتقاصر عن ذلك، فإذا لا تناقص في كلام السلف، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، فهم أعلم النَّاس وأثبتهم وأوثقهم، ولكن المسألة أن كلمة الحد لها معنيان.
  5. قول أئمة التصوف : نحن على مذهب الإمام أحمد في العقيدة

    قال أبو القاسم القشيري في رسالته، الرسالة وهي من أقدم الكتب المؤلفة في شرح أحوال أهل التصوف وأقدم منه كتاب اللمع للطوسي، قيل توفي في نهاية القرن الرابع.
    ثُمَّ تلاه القشيري فألف كتاب الرسالة ينقل عن أئمة الصوفية أمثال الجنيد وسهل بن عبد الله ورويم، والمحاسبي وأمثالهم ما يقولونه وهَؤُلاءِ كانوا -بعضهم أو كثير منهم- يظهرون عبارات السلف الصالح في الأسماء والصفات؛ لأنهم كانوا ينتسبون إِلَى أهل الحديث إما حقيقة وإما ادعاءً والله أعلم بالبواطن، أمثال هَؤُلاءِ يقولون: إنهم عَلَى مذهب الإمام أَحْمَد في العقيدة.
    ولكننا نهتم بالتربية والتزكية وبالأذكار والأوراد، لكننا في باب الصفات عَلَى عقيدة الإمام أَحْمَد ومنهم القشيري وهو ينقل عن الشيخ أبى عبد الرحمن السلمي وهو أقدم طبقة من طبقة القشيري وقد ألف في التصوف، وهو من الناحية الحديثة رجل وضاع وكذاب، لكن عند الصوفية إمام جليل معتبر لا يداني رتبته عندهم إلا قليل.
    وهو ينقل بالسند عن أئمة التصوف ونحن لا نأخذ منه الحديث، لكن نأخذ نقوله عن أئمة الصوفية على أنه رجل من الصوفية يكتب عنهم، وله من الكتب المطبوعة مثلاً الملامية أو الملامتيه [يقول: سمعت أبا منصور بن عبد الله بسنده إِلَى سهل بن عبد الله التستري وهو الإمام المتصوف المشهور، يقول وقد سئل عن ذات الله فقَالَ: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى، ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه ينظر إليه المؤمن بالأبصار، من غير إحاطة، ولا إدراك نهاية] اهـ.
    وهذا الكلام يسوقه القشيري لغرض، ويسوقه المُصنِّف هنا لغرض، أما القشيري فيسوق هذا الكلام ليدلل عَلَى أن أئمة التصوف هم في العقيدة عَلَى مذهب السلف وهذا هو مقصوده.
    فَيَقُولُ: إن ذات الله تَعَالَى موصوفة بالعلم وليس مجرد إثبات لصفة العلم لله؟ لا. لكن توصف بالعلم، أي نَحْنُ نعتقد في الله عَزَّ وَجَلَّ صفات من خلال العلم أي من خلال ما يرد إلينا من الكتاب أو السنة وليست بالرأي، وإنما يوصف الله بالعلم أي بالدليل والله أعلم، هذا ظاهر العبارة.
    قوله: [غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا] كلام حسن مأخوذ من معاني القرآن، وقوله: [وهي موجودة بحقائق الإيمان] أي: وجودها ثابت بحقائق الإيمان في القلب، من غير حد ولا إحاطة ولا حلول.
    فـسهل يريد أن يقول: نَحْنُ معاشر الصوفية وأئمة الصوفية لسنا حلولية ولا اتحادية، يقصد نفسه ومشائخه وطبقتهم ومن قبلهم كـالجنيد والمحاسبي وأمثاله.
    فَيَقُولُ: نَحْنُ عَلَى مذهب أهل السنة ونحن نصف الله بهذا الشيء وينقل ذلك عنه القشيري لهذا الغرض، والمصنف ينقل هذا الكلام لغرض أن السلف ورد عنهم إثبات الحد وورد عنهم نفي الحد، هذا هو المقصود، ونحن -أهل السنة - لنا نقولات غير هذا النقل، فقد نقل الشيخ سليمان بن سحمان في حاشيته عَلَى كتاب لوامع الأنوار البهية (1/201) نقولاً كثيرة عن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وغيره أنه ورد عن السلف إثبات الحد ونفيه، وهذا يدلل عَلَى صحة ما ذهب إليه المصنف.
  6. الخطأ الذي وقع فيه بعض شراح كلام الطحاوي

    أطلق الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ النفي فقَالَ: [وتعالى عن الحدود] والعبارة تحتمل الحق وتحتمل الباطل، مما فتح الباب لأي رجل مبطل بأن يقول: إن الإمام الطّّحاويّ ينفي الحد بمعنى ينفي المباينة وهذا ما وقع لبعض الشراح فَقَالُوا: إن الإمام الطّّحاويّ ينفي الحد لأنه قَالَ: [تعالى عن الحدود].
    إذاً هو يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، أو أنه في كل مكان؛ لأنه نفى عنه الحدود، وهذا خطأ ولبس في فهم العبارة جَاءَ نتيجة استخدام لفظة محتملة، والألفاظ المحتملة لا تستخدم -كما قلنا- إلا ومعناها مبين أو مفصل، فإذا احتجنا أن نستخدم عبارة لم ترد في الكتاب والسنة فلا نستخدمها إلا مفصَلة أو موضَّحة، فلما أرادوا أن يوضحوا أن الله تَعَالَى فوق العرش وأن ينفوا الحلول والممازجة بينه وبين خلقه، قالوا كما قال ابن المبارك: هو فوق العرش، بائن من خلقه بحد، أي: مباينة بانفصال، والحد في اصطلاح المناطقة هو التعريف.
    يقول لك ما حد الإِنسَان؟ أي: ما تعريفه؟ وما حقيقته؟ وتجد في كل علم حده أو تعريفه أو صفته أو ما أشبه ذلك، هذا تابع للمعنى الثاني أو مشتق منه، من غير حدٍ ولا إحاطة ولا حلول، أي: من غير كيفية، ومن غير معرفة يعرفها البشر أو يطلع عليها البشر، فيما تعلق بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما هي موصوفة بالعلم، أي: عن طريق الخبر الغيبي الذي جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى قوله: [وتراه العيون في العقبى] أي في الآخرة.
    يقول: [ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته] وهذه أيضاً معاني صحيحة وردت في الكتاب والسنة، فيريد أن يقول: نَحْنُ عَلَى هذا المذهب الصحيح، وهو أن الأدلة الشاهدة عليه سبحانه في ملكه وفي قدرته ظاهرة، أما ذاته تَعَالَى فقد حجبها وحجب الخلق عن معرفتها.
    يقول :[وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه آياته -الليل والنهار وكافة المخلوقات- فالقلوب تعرفه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والعيون لا تدركه] ثُمَّ قَالَ: [ينظر إليه المؤمنون بالأبصار] أي: تراه العيون في العقبي. كما قَالَ: [من غير إحاطة ولا إدراك نهاية].
    كما قال عَزَّ وَجَلَّ: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ))[الأنعام: 103] فكأنه يشرح هذه المعاني القرآنية الصحيحة بألفاظ من عنده ويقول: إننا لم نخرج عن مذهب السلف. هذا هو المقصود.