المادة    
أما الخونجي فهو مُحَمَّد بن ناماور بن عبدالملك الخونجي أبو عبد الله فضل الدين توفي (646) أو (649) كَانَ من أعلم أهل زمانه بالفلسفة أو ما يسمى بالحكمة؛ وكان قد ولي قضاء مصر وكان ينشر هنالك فلسفته وعلم الأوائل -أي: علم اليونان- وأشهر كتاب كتبه الخونجي كشف الأسرار عن غوامض الأفكار كتبه في الفلسفة ويظن أنه كشف الأستار عن الأفكار الغامضة ووضحها وجلاها للناس، وعند الموت قَالَ: "ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إِلَى المرجح" ثُمَّ استدرك عَلَى نفسه فقَالَ: "الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً " نعوذ بالله من علم لا ينفع.
والخسرو شاهي وابن أبي الحديد والخونجي كلهم متعاصرون في زمن واحد.
والخسرو شاهي كان من أجل تلامذة الفخر الرازي، والرازي له كتاب الآيات البينات وشمس الدين الخسرو شاهي له تلخيص الآيات البينات وهو أشعري شافعي.
وابن أبي الحديد شيعي رافضي ومع ذلك فإن له كتاب اسمه شرح الآيات البينات، فتستنتج أنه يشترك في الاقتباس من علوم الفخر الرازي فقد جمع الرازي في كتبه بين مذاهب الرافضة والأشعرية والفلسفة والجامع المشترك لهذه المذاهب الفلسفة.
ومما يذكر أن رجلاً يهودياً يسمى يوسف بن ميمون كان من كبار الفلاسفة في الأندلس، ألف كتاباً في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ينفى صفات الله ويقرر الإيمان بالله عَلَى طريقة الفلاسفة، واسم كتابه المقدمات الخمس والعشرون ذكر خمساً وعشرين مقدمة في ذلك الشأن.
واهتم تلاميذ الرازي والذين كَانَ منهم شمس الدين بهذا الكتاب، وأخذوا يشرحونه ويستدلون به، حتى جَاءَ الكوثري الذي كَانَ من آخر كبار علماء الضلال والمحرفين والمؤولين فاهتم أيضاً بنشر هذا الكتاب
هو ومؤلف مستشرق يهودي كَانَ يعيش في مصر قبل قيام دولة إسرائيل اسمه إسرائيل ويلفنسون، فاشتغل الكوثري بهذا الكتاب وقدم له وأثنى عليه، وهكذا تجد ميل أهل البدع من الأشعرية والرافضة إِلَى الفلسفة والفلاسفة ويجمعهم عَلَى ذلك التعلق بعلوم اليونان وإنكار صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعداوة مذهب السلف الصالح.

قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[ومن يصل إِلَى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق كما قال أبو يوسف رَحِمَهُ اللهُ: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب" وقال الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقَالَ: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل عَلَى الكلام" وقَالَ: لقد اطلعت من أهل الكلام عَلَى شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يُبتلى بالكلام". انتهى.
وتجد أحد هَؤُلاءِ عند الموت يرجع إِلَى مذهب العجائز فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كَانَ يقطع بها، ثُمَّ تبين له فسادها أولم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب؛ والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كَانَ طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله: {إذا قام من الليل يفتتح الصلاة: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم} خرَّجه مسلم]
توسل صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكلَّ الله -سبحانه- هَؤُلاءِ الثلاثة بالحياة: فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إِلَى أجسادها، فالتوسل إِلَى الله -سبحانه- بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان] إهـ.

الشرح:
يذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن من يصل إِلَى مثل هذه الحال إن لم يدركه الله برحمته وإلا تزندق، ومات عَلَى الزندقة، وبعض الزنادقة ما مرقوا من الدين وخرجوا منه إلا لما اشتغلوا أول أمرهم بعلم الكلام، ولذلك يقول الإمام أبو يوسف -رَحِمَهُ اللهُ- وهو صاحب الإمام أبي حنيفة: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب".
وهذا الكلام المنقول عن أبى يوسف قد نقله المُصنِّفُ في أول الكتاب وأيضاً نقله في موضع آخر، فهو يستشهد به أكثر من مرة -رَحِمَهُ اللهُ- لأنه من الكلام النفيس الذي يقوله هَؤُلاءِ العلماء، الشاهد أن علماء السلف كـأبي يوسف والشَّافِعِيّ يقولون مثل هذا الكلام الذي يحمل الدرر، والذي إذا قرأه الإِنسَان أخذ منه العبرة والعظة.
وقد ذكرهما الحافظ ابن عساكر بسنده إِلَى كل منهما في كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام الأشعري صفحة (333) و(335) إلا أن الكلام الذي نُقل عن أبي يوسف نقل أيضاً عن الشعبي، ولكن الراجح أنه لـأبي يوسف، وليس للشعبي لأن وفاة الشعبي متقدمة ولم يكن في عصره قد اشتهر علم الكلام، فالصحيح أنه لـأبي يوسف.
ومعنى قوله: من طلب الدين بالكلام تزندق وذلك لأن علم الكلام يفضي إلي الشك والحيرة وهي الزندقة أو بابها ومن طلب المال بالكيمياء أفلس وكانوا يظنون أنه عن طريق الكيمياء يمكن تحويل المعادن الخسيسة إِلَى معادن نفيسة، وهذا عجزت عنه الكيمياء الحديثة، لأن الذهب لا يمكن أن يستخرج من الرصاص وإلا فالكيمياء الحديثة أقدر عَلَى ذلك ولو أمكن ذلك لما كَانَ هناك أزمة ذهب أو أزمة عملة صعبة كما يسمونها، لكن الذهب هو الذهب فطلبوا استخراج الذهب من غيره وفي هذا جهد ومشقة وضياع وقت وعمر.
والثالثة: من طلب غريب الحديث كذب، أي: أن الإِنسَان إذا أراد أن يجمع الحديث، واستكثر من غرائب الحديث اضطر إِلَى أن يكذب؛ لأن غريب الأسانيد أو غريب الألفاظ أو كلاهما أصبح مطلوباً، وهو ظاهر في المتأخرين أكثر منهم في المتقدمين، وهذه الثلاثة التي ذكرها أبو يوسف نتيجتها واحدة وهي الخسارة.
  1. نقل ابن عساكر لكلام الشافعي

    الرد عَلَى أهل الشبه في القديم والحديث في أي زمان ومكان إنما يكون بالكتاب والسنة أو بما دل عليه الكتاب والسنة ثُمَّ يقول: الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل عَلَى الكلام.
    فإن هذا من روائع كلام السلف نقله ابن عساكر في نفس الموضع تقريباً صفحة (335) كأن قائلاً أو سائلاً قال للإمام الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ما رأيك في أهل الكلام، وبم تحكم عليهم؟
    فذكر أن حكمه فيهم هو أنهم يزجرون ويردعون ويعزرون ويمنعون من الخوض في هذه العلوم، وهذه العقوبة إنما يستحقونها بناء عَلَى إعراضهم عن الكتاب والسنة واشتغالهم بعلم الكلام الذي يزعمون أنه لولا اشتغالهم به لما استطاعوا أن يدافعوا عن العقيدة ويذودون حياضها وذلك لما كثرت الشبهات، وكثرت الفتن أما السلف الصالح فلم يكونوا يشتغلون بذلك لقلة الشبهة في أيامهم!.
  2. الرد على شبهة أهل الكلام

    الرد عَلَى أهل الشبه في القديم والحديث في أي زمان ومكان إنما يكون بالكتاب والسنة أو بما دل عليه الكتاب والسنة ثُمَّ يقول الشَّافِعِيّ: " لقد اطلعت من علم أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله" بل وصل الأمر بهم إِلَى إنكار جميع أسماء الله وصفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ بل وصل الأمر بالغلاة من الجهمية والقرامطة إِلَى أن يقولوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، وهذا الكلام الذي يقوله فلاسفة اليونان.
    وكان يقول أفلاطون: الله تَعَالَى كامل والكامل لا يفكر في الناقص فإذا قلنا: إن الله يعلم أحوال النَّاس أو يطلع عليها أو يراقبها أو يحصيها فنكون قد انتقصنا الله، وهذا لا يقوله إلا الزنديق المجوسي أو اليوناني المشرك الوثني.
    ثُمَّ يقول الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام". فجعل الشرك بالله والاشتغال بالكلام في منزلة واحدة؛ لأن الفتنة بهما هي أعظم أنواع الفتنة؛ فالشرك أعظم الذنوب؛ لأنه توجه بالعبادة لغير الله، فهو شرك في الطلب والإرادة والقصد، والاشتغال بعلم الكلام شرك في الأسماء والصفات، وصاحبه يصرف النَّاس عن معرفة الله المعرفة الحقيقية إِلَى الضلالات والبدع والآراء الباطلة.
    ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وتجد أحد هَؤُلاءِ عند الموت يرجع إِلَى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كَانَ يقطع بها، ثُمَّ تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها] كما قال أبو المعالي الجويني: وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور -البلد التي كَانَ فيها-.
    فغاية ما في الأمر أن الواحد منهم عند الموت يقول: أنا أموت عَلَى دين العجائز، أما الدقائق والغوامض التي ألفوا وأفنوا الأعمار فيها فهي إما قد ظهر لهم فسادها، وإما أنهم غير متأكدين من صحتها، مع أنهم كانوا في حياتهم يجزمون بها ويوالون ويعادون عليها كانوا يقولون: هذا هو الكتاب وهذا هو الحكم من لم يعتقده فليس عَلَى عقيدة الإسلام الصحيحة.
  3. طعن الرازي في البخاري ومسلم وفي كتابيهما والرد عليه

    الرازي الشيخ الكبير، شيخ المتأخرين من أهل الكلام وإمامهم لما كتب كتاب أساس التقديس لم يسلم منه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان مما قَالَ: إذا أخذنا بالروايات التي في الصحيحين وغيرهما في الأسماء والصفات، فإن هذا هو مذهب المشبهة والحشوية، والبُخَارِيّ ومسلم ما كانا يعلمان الغيب! هكذا يطعن بغير حجة وبغير علم في الرجال أو في الروايات الصحيحة، فيزعم أنه لا يبعد أن الزنادقة قد أدخلا في كتابيهما أحاديث -أي في الأسماء والصفات- ولم يعلما من هَؤُلاءِ الزنادقة! كيف لا يدري البُخَارِيّ ومسلم ما في كتابيهما وهما مرويان بالسند؛ بل إنك تجد الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ -وهو متأخر- يترجم في سير أعلام النبلاء لرجل ويقول: ومن طريقه روينا كتاب أبي داود أو كتاب البُخَارِيّ أو كتاب مسلم، ويأتي بالسند من القرن الثامن حتى يصل إِلَى البُخَارِيّ ومسلم وغيرهما.
    ثُمَّ تجد الرازي يقول: إن أبا هريرة قال كذا وخطأه فلان في كذا، وعَائِِِشَةَ استدركت عَلَى بعض الصحابة كـابن عمر وعَلِيّ وغيرهما، ويأتي ببعض الروايات التي حصل فيها نوع من الخلاف بين الصحابة -رضوان الله تعالى- عليهم ليستشهد بها عَلَى أنه لا يؤخذ قولهم في هذه المسائل وأن الضبط لم يكن دقيقاً!

    وقد رد عليه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه نقض التأسيس الذي يُسمى بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ومطبوع بعض الكتاب، ولعله يخرج كاملاً -إن شاء الله- وهو كتاب عظيم ونفيس جداً في الرد عَلَى كتاب أساس التقديس للرازي، وكتاب الرازي مطبوع أيضاً طبعة قديمة في مصر. المقصود أن هذه الأمور التي كانوا يقطعون بها ويوالون فيها ويعادون من أجلها ويتهمون غيرهم ومخالفهم فيها بأنه عَلَى مذهب الحشوية أو النابتة أو غير ذلك، يقر أصحابها عند الموت بأنها كانت باطلاً وخطئاً.
    ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب-] يعني: إذا قدر الله تَعَالَى وكتب لهم حسن الخاتمة قبل الموت وسلموا من الموت عَلَى هذه البدع يكونون [بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب] بعد أن كانوا في حياتهم ينافسون أهل العلم وينتقدون أهل العلم كما كَانَ الرازي ينتقد البُخَارِيّ ومسلم وهما من هما في المكانة والثقة والتثبت، فهم الآن عند الموت يريدون أن يموتوا عَلَى دين العجائز، عَلَى دين أتباع أهل العلم من العجائز والصبيان والأعراب، حتى المعاصرين منهم المتعمقين في الكلام وأساتذة الكلام المتمرسين فيه في أرقى الجامعات التي تدرس علم الكلام يقولون: دين العجائز هو أصح الأديان! فإذا كَانَ دين العجائز أصح الأديان فلماذا تتعلمون علم الكلام؟! لكن المؤمنون الصادقون وعلماء السلف وأئمتهم عَلَى دين الراسخين في العلم الذين يكشفون الشبهات والذين يقيم الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهم الحجة عَلَى الناس، وأتباع أهل السنة من العجائز وغيرهم هم أفضل من أولئك، فكيف بأولئك العلماء الأجلاء الذين جعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في كل زمان فترة، مقيمين للحجة ينفون عن هذا الدين انتحال المغرضين وتأويل الجاهلين والمبطلين؟!