المادة    
فهَؤُلاءِ نماذج نتحدث عن بعضهم:
  1. ابن رشد الحفيد وعلم الكلام

    فـابن رشد الحفيد هو: مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن رشد، من أكبر من يسمون بفلاسفة الإسلام، بل هو في الحقيقة أكبر الفلاسفة الذين ظهروا في القرون الوسطى كما يعبر عنها في التاريخ الأوروبي، والغربيون يعتبرونه الرجل، أو الفيلسوف المؤثر في الفكر الغربي كله، ويسمونه المعلم الثاني عَلَى أساس أن المعلم الأول هو أرسطو، فإن ابن رشد أضاف إِلَى كلام أرسطو الشيء الكثير: حذفاً وإضافة ونقداً وتعديلاً.
  2. ابن رشد والأشاعرة

    وقد نقد منهج الأشاعرة نقداً شديداً وبين ما فيه من تناقض وخلل واضطراب وهذا حق، لكن لم ينقده لأنه مؤيد لمنهج الكتاب والسنة كما فهم الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه عَلَى الشرح، وملخص رأي ابن رشد الذي يخالف فيه رأي الأشاعرة كما ظنه الأرنؤوط أن الأشاعرة يرون أن كلام الفلاسفة باطل أو كثير منه باطل، وأنه يجب أن يردوا عليه، وابن رشد يرى غير ذلك.
    فهو يرى أن الفلسفة التي يسميها الحكمة والشريعة لا يتعارضان، يعني: أن ما جَاءَ به الوحي، إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله لا معارضة ولا منافاة ولا تناقض بينه وبين ما قرره أرسطو من العقليات في الإلهيات، وليس الكلام في الطبعيات، ولا في الرياضيات؛ بل الكلام في الإلهيات، فيقول ابن رشد: إن الحكمة للشريعة رضيعة، فكلاهما أختان من الرضاع، وكلاهما يدعون إِلَى أمر واحد، ويتفقان في منهج واحد، ومن هنا اشتغل بالدفاع عن الفلسفة وأنها لا تتعارض مع الشريعة.
    ولذلك ألَّف كتاباً اسمه" فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " ذكر فيه أن الشريعة والحكمة -أي الفلسفة وهي ليست بحكمة بل هي ضلال- متصلتان تؤديان نفس الغرض ونفس المنهج، وهذا الكلام أكثر ضلالاً ممن يقول إنه يرد عَلَى الفلاسفة من غير منهج الكتاب والسنة.
  3. ابن رشد الحفيد وموقفه من الإلهيات

    يقول ابن رشد: (ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به) وهذه فلتة لسان أراد الله تَعَالَى أن يظهر بها الحق، وإلا فبالنظر إِلَى حياته ومنهجه يعلم أنه لا يقرها، لكنه قالها لحكمة من الله عَزَّ وَجَلَّ وهو الإقرار بالحق، والإِنسَان لو ترك فطرته عَلَى السجية لنطقت بالحق، فهو يقول: إذا كَانَ الأمر أمر الإلهيات، فمن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به، يريد: من أهل العقول، ومن أهل الآراء.
    وأما الحق الخالص النقي في باب الإلهيات هو في كتاب الله، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورَسُول الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل النَّاس عقلاً وفهماً لم يكن يعلم عن هذا الأمر شيئاً حتى أنزل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليه جبريل بالرسالة، ولهذا قال تعالى: ((وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى))[الضحى:7] فحصلت له الهداية من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بهذا النور، وإلا فما كَانَ يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولم يكن يعرف عن ربه -عَزَّ وَجَلَّ- هذه المعرفة العظيمة قبل أن ينزل عليه الوحي، وهو أكمل النَّاس بلا شك عقلاً وفهماً, وصحابته الكرام هم أعظم النَّاس رأياً وعقلاً وفكراً، ومع ذلك كيف كانت حياتهم في الجاهلية؟! فلما نزل القُرْآن واتبعوا الرَّسُول وأخذوا من نوره، واقتبسوا من العلم الذي جَاءَ به أصبحوا أعقل النَّاس وأعلم الناس، وأفضل النَّاس وأكمل النَّاس في الإلهيات وفي معرفة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فمن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به من غير الرسل، ومن غير طريق الوحي؟ لم يأت أحد بشيء أبداً.
  4. امتحان العلماء للآمدي

    قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/134): قرأت بخط الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام قَالَ: كَانَ شيخنا القاضي تقي الدين سليمان يحكي عن الشيخ شمس الدين ابن أبي العز أنه كَانَ يحضر مجالس سيف الدين الآمدي، قَالَ: فأردنا أن نمتحنه، لأنهم رأوه يتخلف عن الصلاة، فلم يدروا أيصلي الرجل أم لا؟ فوضعنا الحبر في رجله فمكث أكثر من يومين وهو باق لم يذهب! فعلموا أنه لا يتوضأ ولا يصلي- نسأل الله العافية- فماذا كَانَ يقول الآمدي؟ كَانَ يجلس ويقرر المسائل العظيمة في علم الكلام وفي الأصول، وفي الجدل والمناظرة والبحث حتى أن العز بن عبد السلام يقول: ما تعلمت أصول البحث والمناظرة إلا من السيف الآمدي، وكان يحفظ المستصفى وغيره من كتب الأصول وهي من أعقد وأصعب العلوم، وله كتاب اسمه: الإحكام في أصول الأحكام، في الأصول.
    فكان متبحراً في العقليات وفي الجدليات، وفي النظريات، وفي علم الكلام، وفي الأصول لكن كَانَ حاله في الدين ما ذكرنا، وليس الأمر كما قال الأرنؤوط: "ثُمَّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه، ونسبوه إِلَى فساد العقيدة، وانحلال الطوية"، ليس الأمر كذلك، وإنما اجتمع العلماء أو الفقهاء، وكتبوا عليه محضراً لفساد العقيدة والطوية وميله إِلَى آراء الفلاسفة فكان ما كَانَ هذا الرجل سيف الدين الآمدي، كَانَ إمام الأشعرية في عصره، وإمام علماء الكلام في عصره، وكان يقول العز بن عبد السلام: لو أن زنديقاً جَاءَ ليجادل الْمُسْلِمِينَ لوجب أن ينبري الآمدي لمناظرته، لقوته في الجدل وفي الحجج العقلية، لكن حاله في نفسه كَانَ كما نقل عنه الذهبي.

    فالأمر إذاً ليس أمر عقليات ولا كلاميات أو حفظ مسائل ومتون، وإنما الأمر أمر إيمان ويقين، والعلم إذا لم يثمر الإيمان واليقين وتقوى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وخشيته في السر والعلن فلا خير فيه، بل هذا دليل عَلَى أن ذلك العلم خبيث، وإن كَانَ العلم حقاً، وكانت النية لغير الله عَزَّ وَجَلَّ فإن صاحبه لا ينتفع به، فكيف إذا اجتمع الأمران: علم لا ينفع، ونية فاسدة نسأل الله العفو والعافية.
    ويقاس عَلَى هذا نظريات علم الاجتماع، وعلم النفس، والقوانين الوضعية بجميع أنواعها، وأكثر هذه العلوم التي تسمى العلوم الإِنسَانية، التي لا تثمر هدى ولا صلاحاً، ولا فلاحاً ولا خيراً لمن يقرأها. فتجد أحدهم يتعمق فيها ويناقش الأدلة، ويرد من كلام هذا، ويأخذ من كلام هذا، ويؤلف المجلدات، أو يحصل عَلَى أعلى الشهادات، وكلها لا خير فيها، ولا فائدة من ورائها أبداً، والفرق بين هذه العلوم وبين علم الكلام: أن علم الكلام كَانَ النَّاس في ذلك الزمن ينظرون إليه بمنظار الدين، حتى في أوروبا، فقد كَانَ رجال الدين يمثلون حال الكنيسة التي تتحكم في كل شيء، وفي كل علم، بخلاف دين الإسلام فهذه العلوم عندما كانت لأنها تسمى علوماً إلهية، وتتعلق بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ، كَانَ النَّاس كانوا يتجهون إليها، فكان الواحد منهم -أي من علماء الكلام- يظن أنه يتعلم علم الكلام ليدافع عن الدين، وليعتقد اليقين -كما مر- وأن هذا علم نافع، وأنه مثل علم النحو، وعلم الفقه ونحو ذلك من العلوم، التي طورت ودونت وأحدثت لها مصطلحات جديدة.
    أما العلماء المعاصرون اليوم في الاجتماع والقانون والنفس وأمثال ذلك فإنهم يأخذونها عَلَى أنها آراء لهم، لا أنها تقرب إِلَى الله، فلا يقولون: إنها هي الحق الذي يريده الله، بل يأخذونها عَلَى أساس أنها هي العلم الإِنسَاني الذي لو انتظمت الحياة عليه لصلحت الحياة الإِنسَانية؛ لأنهم يؤمنون مسبقاً بأن الدين لا دخل له في شئون الحياة، ولا يمكن أن ينظم الحياة، ولا يصلح في عصر الحضارة والتطور، لكن يقولون: إن الإِنسَان ارتقى في الماديات، وفي التقنية، وكذلك ارتقى في القانون وفي الاجتماع وفي الفلسفة، ويريدون أن تتواكب العلوم الإِنسَانية مع الزمن الحضاري، وذلك لأن الجانب الإِنسَاني قاصر جداً عن مجاراة التفوق في الجانب المادي؛ لأن الجانب المادي هو مما خُلِق عقل الإِنسَان ليعمل فيه، أما الجانب الآخر فهو مما حجب عنه العقل البشري، فالنتيجة واحدة لا إيمان ولا تقوى، ولا خشية ولا صلة بالله تَعَالَى.
  5. توبة أبي حامد الغزالي في آخر عمره

    أبو حامد الغزالي: هو الذي مر الحديث عنه، وانتهى آخر أمره إِلَى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، وألف في آخر عمره كتاب إلجام العوام عن علم الكلام كتبه ليبين أن علم الكلام لا يؤدي إِلَى الثمرة التي يظنها النَّاس منه، عَلَى ما في كتابه من اضطراب وتناقض سبق أن أشرنا إليه.
    والمهم أنه أقبل عَلَى حديث رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومات وصحيح البُخَارِيّ على صدره، وأول منزل، وآخر منزل يجب عَلَى الإِنسَان أن يسير فيه من منازل الطريق هو الكتاب والسنة، وليس الأمر كما قال رَحِمَهُ اللَّهُ: أن أول المنازل هو التصوف.
  6. أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي

    ثُمَّ يقول المصنف: [وكذلك أبو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الرازي]، الفخر أو فخر الدين، وقد ترجم له الحافظ الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ في الميزان في حرف الفاء وأخذ باللقب وقد أورد الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ في اللسان إشكالاً في ترجمة الآمدي، وقَالَ: إنه أي الذهبي أدخل ترجمة الآمدي وترجمة الفخر الرازي في الميزان وهما مما لا يدخل في موضوع الكتاب، وهذا نقلاً عن ابن السبكي صاحب طبقات الشافعية، عندما لام الحافظ الذهبي بقوله: لماذا تدخل الرازي في كتاب الميزان؟!، وكتاب الميزان وضع فيه الرجال المتكلم فيهم من الرواة. والفخر الرازي ليس من أصحاب الرواية، ثُمَّ اعتذر عنه فقَالَ: ولعله أراد أن يبين أمره لأنه عنده من المبتدعة. والآمدي أيضاً ذكر في قسم السيف الآمدي.
    يقول الحافظ ابن حجر: ذكره باللقب دون الاسم، كأنه يشعر بالتقليل من شأنه فالله أعلم،
    يقول الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللَّهُ- في لسان الميزان في ترجمة الشهرستاني: إن الشهرستاني له شيء من الرواية، ومع ذلك لم يدخله الذهبي في الميزان، فَيَقُولُ: إذا كَانَ الأمر أمر بيان لأهل البدع فليدخل كل أهل البدع، وإن كَانَ الأمر أمر الرواية فإن الرازي لا رواية له، وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كثيراً ما يسمي الرازي بابن الخطيب، لأن أباه كَانَ خطيب الري، وهي من أكبر المدن في بلاد الفرس، ويُقَالَ: إنها هي التي تسمى اليوم طهران، والنسب إِلَى الري رازي، وهو خطأ مخالف للقياس؛ لأن الزاي هذه زيادتها مخالفة للقياس، وهكذا وقع الاصطلاح: أنهم يزيدونها، والرازي ألف كتاباً سماه أقسام اللذات يقول فيه هذه الأبيات:
    نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال.
    وكما بينا أن إقدام العقول وخوضها فيما لم تخلق له نهايته ضلال، وغايته لا خير فيه، يقول الرازي:
    وأرواحنا في وحشة من جسومنا            وحاصل دنيانا أذىً ووبال
    وقد بينا لماذا توجد الوحشة والجفوة بين الروح والجسد وبيان ذلك وموجزه، أن الجسد يمشي وفق ما أمر الله، ووفق النظام الكوني، والأمر الكوني الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، وجعل للروح الأمر الشرعي، فمن مشى متبعاً للشرع، وجعل قلبه وروحه متفق مع الشرع اتفق قلبه وجسمه، أو اتفقت روحه وجسمه، فلم يكن هناك وحشة بين الروح وبين الجسد.
    أما إذا جعل الإِنسَانُ الجسدَ يمشي، وهو بطبيعته يمشي وفق الأمر الكوني، لكن لو اختار لقلبه طريقاً غير طريق الإيمان بالله، فهنا تحصل الوحشة، ولهذا تجد الذين ينتحرون وهم في غاية النعيم الجسدي من الأموال والملذات الدنيوية، وكل ما يطمح إليه الجسد موجود، فينتحر بسبب وجود الوحشة والتنافر بين الجسد والروح، بين القلب وبين هذه الحياة، لا يأنس ولا يطمئن لهذه الحياة أبداً لأنه لا راحة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى واتباع أمره، ونسبة الانتحار في المجتمعات الفقيرة نادرة جداً، ولكن نسبة الانتحار في المجتمعات الثرية عالية جداً، وكفى بهذا عبرة للإنسان إذا تأمل.
    وليعلم أن الحياة السعيدة هي في الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأن أعظم تنمية يجب أن تسعى إليها جميع الشعوب، ويسعى إليها جميع الأفراد هي تنمية الإيمان بالله - عَزَّ وَجَلَّ- لأنه هو الذي ينمي السعادة والراحة، والطمأنينة، وهو الذي يعقب أيضاً الرخاء في الحياة الدنيا، والنماء فيما يرزقه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كما قال نوح عَلَيْهِ السَّلام لقومه: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً))
    [نوح:10-12] فالتنمية المادية، والرخاء المادي، والثروة الاقتصادية الوفيرة كل ذلك يأتي تبعاً للإيمان بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فالإيمان بالله هو الأساس لسعادة الدنيا والآخرة فتلتئم النفس والروح مع الجسد، ويلتئم الفرد مع المجتمع، وتلتئم الحياة البشرية مع الكون الذي يحيط بها، لأن الصلة بالله عَزَّ وَجَلَّ موجودة، وكل مافي الكون خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وعندما ننظر كيف كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه نجد التآلف يصل بين المؤمن بالله عَزَّ وَجَلَّ وبين الماديات، ليس فقط مع الأشخاص، فالمنبر -جذع النخلة- يحن؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الخطابة عليه، وجبل أُحد قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحبه ويحبنا؛ لأن له إحساس، يحب أو يبغض سُبْحانَ اللَّه! فالقصد أنه إذا وجد الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ وجد التآلف حتى مع الأمور المادية، فأصلح أيها العبد العلاقة مع الله عز وجل، وأصلح صلتك بالله عَزَّ وَجَلَّ فإن هذا الكون كله خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وكل هَؤُلاءِ البشر عبيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُسخٍرهم كما يشاء، لكن إذا أفسدت العلاقة مع الله عز وجل، وقطعت الصلة بالله -عز وجل- وجدت النفرة مع الزوجة ومع الأولاد، ومع الزملاء في العمل، ومع الحياة جميعاً، كما قال تعالى: ((الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف:67] يتلاعنون في النار، ويتخاصمون، وكل منهم يلوم الآخر وهكذا كل محبة في هذه الحياة الدنيا.
    يقول الرازي:
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أنا جمعنا فيه قيل وقالوا
    هذا هو علم الكلام: قيل وقالوا، فإن قيل قلنا؛ لكن هل هذا الكلام يصدر عن يقين وعن اعتقاد، وهل هذا الكلام نافع أو هو علم مثمر؟ قلنا: ليس شيئاً من ذلك.
    فكم قد رأينا من رجال ودولة            فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
    وكم من جبالٍ قد علت شرفاتها            رجال فزالوا والجبالُ جبالُ
    وهنا حصل ما نسميه بيقظة الروح، أو يقظة الضمير، وذلك عندما يتفكر الإِنسَان أين مصير الناس، وهذا من أكثر ما يورث اليقين في القلب، ولو أن الرازي فطن إِلَى هذا الأمر وحده - كما ذكر في هذه الأبيات- لأغناه، وهذه العبرة كررها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القُرْآن ولأنها عظيمة، ولأنها مؤثرة، وهي التفطن والتفكر في الأمم الذين خلوا من قبل ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ))[آل عمران:137] انظروا إِلَى الآثار التي خلفها الذين من قبلكم، الرومان، الفرس، الصينيون، الآشوريون، البابليون، الفينقيون، الفراعنة، أمم وحضارات ودول ذهبت وزالت كما يقولون: سادت ثُمَّ بادت، هذا هو المصير، ألا يكفي أن يثير هذا الأمر العبرة في كل ذي قلب وفي كل ذي عقل ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) [قّ:37] والرازي في لحظة اليقظة يقظة الضمير أو يقظة الروح، استطاع أن يعبِّر عن هذه القضية، وعن هذه العبرة وهكذا الحياة هذا شأنها، لو تأمل الإِنسَان إِلَى البحر كم ركبه؟ وكم طوى فيه؟ والأرض التي نَحْنُ فيها، كم علاها من أقوام، وكم صار فوقها، وربما كَانَ أحدهم يتبختر في مشيه، وكأنه لن يموت وكأنه كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)) [الاسراء:37] ثُمَّ في الأخير أين هو الآن؟ كما قال المعري -وكان من كبار الملاحدة-:
    خفف الوطء ما أظن أديم            الأرض إلا من هذه الأجساد
    معنى قوله: أن من مات فهو أديم الأرض والطبقة العليا من الأرض، فتراب الأرض ما هو إلا ركام الأجساد التي كانت تسير عليها ثُمَّ ماتت وبادت، وفي زماننا لو أمكن النَّاس أن يبنوا عَلَى المقابر العمائر لفعلوا، فلا حول ولاقوة إلا بالله! ولم يكتفوا بذلك بل عصوا الله فوقها؛ فوق مقابر الذين عصوا الله وهلكوا -نسأل الله العفو والعافية، نسأل الله البصيرة في أمرنا.
  7. اعتراف الرازي بحقيقة التوحيد وخاصة في الأسماء و الصفات

    ثُمَّ يقول الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية -وهما قريبان من بعض- فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً -وهذه المقولة مقولة مجرب عالم بصير- ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، بل الصواب محصور فيها وحدها، في طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10]وكما هو معلوم أن أمر العقيدة يدور عَلَى مسألتين: عَلَى النفي والإثبات، ماذا نثبت لله عز وجل، وماذا ننفي عنه؟ بالأخص في موضوع الأسماء والصفاتفَيَقُولُ: إذا قرأت في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10] الآيات.
    أفهم بجلاء وبوضوح أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فوق المخلوقات، عالٍ عَلَى جميع المخلوقات سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أن الرازي له كلام شديد وطويل في نفي العلو، فَيَقُولُ: دعك من هذا كله واقرأ في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10] وإذا بك تجد نفسك مؤمناً بعلو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وبجميع الصفات، التي وردت في الإثبات ثُمَّ قَالَ: واقرأ في النفي ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] الآية تكفيك من أن تقول: ليس بجوهر ولا عرض، ولا مادة ولا مركب ولا متحيز، فكل كلمة من هذا الكلام تحتمل تفصيلات ونقاشات؛ لكن الله تَعَالَى يقول: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] فتكفيك هذه في النفي، وفي التنزيه لله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وقوله: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) [طـه:110].
    فإذا عرفنا أننا لا نحيط بالله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- علماً فهذا موجب لعدم الخوض في أمر من أمور الغيب، وفيما يتعلق بصفاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لأن علمنا قاصر محدود عن إدراك هذه الأمور، فنؤمن به كما أخبر، ونتبع قول أعلم النَّاس به وأتقاهم له وهو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قلنا: إن العلم الصحيح يورث التقوى، فعندما كانت معرفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحة حقيقية أورثت التقوى، فأصبح بذلك أعرف النَّاس بربه وأخشاهم وأتقاهم له، وكذلك كل من كَانَ عَلَى طريقتة ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر:28] فكلما كَانَ الإِنسَان أكثر علماً، كلما كَانَ أكثر خشية، كما قال سفيان رَحِمَهُ اللَّهُ: في تفسير هذه الآية
    ثُمَّ يقول الرازي: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
    والمشكلة أنهم يقولون هذا الكلام الصريح الجلي ويأتي تلاميذهم وينسون هذا الكلام، ويأخذون بما في كتبهم، وهكذا الجويني رأى مارآه الرازي ثُمَّ أعلن توبته كما سيأتي، ثُمَّ جَاءَ أبو حامد الغزالي تلميذه وأخذ يسلك المناهج وفي الأخير تاب أبو حامد، وعندما جَاءَ من بعده الرازي لم يقل: نبدأ من حيث انتهى الغزالي، فنبدأ من صحيح البُخَارِيّ بل بدأ بما نهى عنه الغزالي وألف في ذمه كتاب إلجام العوام عن علم الكلام ثُمَّ جَاءَ الرازي واشتغل طول عمره في علم الكلام، وفي الأخير عند الموت وإذا به يقول: هذا الكلام، ويقول: أقرب الطريق طريقة القرآن، ثُمَّ أتى الإيجي صاحب المواقف الذي هو حجة في علم الكلام عند أكثر أهل الكلام في هذا العصر، فترك كلام الرازي الأخير، وأخذ ينقل من كلامه في الأربعين، ومن كلامه في التفسير.

    وهكذا نجد الخطأ يتكرر، وهذا من أعجب العجب! فالعاقل يتعظ بغيره، لكن هَؤُلاءِ لا يتعظون بقول الرازي: من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. الذي يتعظ بغيره لا يحتاج أن يجرب، ثُمَّ ضم إِلَى هذه العبارة قول أبي حامد الغزالي: "وهذا يعني ذم علم الكلام إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن النَّاس أعداء ما جهلوا" لأن أهل الحديث يكرهون علم الكلام.
    يقول: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام -يعني: نفسه- ثُمَّ قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إِلَى منتهى درجة المتكلمين] أي خذ هذا الذم لعلم الكلام ممن بلغ هذه الدرجة، وبعد هذا أين من يعتبر؟ وأين من يتعظ؟ فهَؤُلاءِ أربعة: ابن رشد، الآمدي، الغزالي، الرازي قد قالوا هذا الكلام.
  8. حيرة الإمام الشهرستاني وتوقفه

    الخامس أبو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني، وهذا أيضاً لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث قال:
    لعمري لقد طفت المعاهد كلها            وسيرت طرفي بين تلك المعالم
    فلم أر إلا واضعاً كف حائر            على ذقن أو قارعاً سن نادم
    ووقع الشيخ شعيب أيضاً في نفس الخطأ -غفر الله لنا وله-، عندما قَالَ: هو مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني من فلاسفة الإسلام! وكذا عرف من قبله، فهل في الإسلام فلاسفة؟! لا يوجد فلاسفة للإسلام، ولا يصح إطلاق هذه العبارة، فالإسلام له علماؤه الذين يتبعون الكتاب والسنة، أما من اشتغل بالفلسفة فهو من المبتدعة الضَُّلال، وكما ذكرنا أن ابن السبكي اعتذر للذهبي -رَحِمَهُ اللَّهُ- عن إيراد الرازي والآمدي في الميزان ثُمَّ ابن حجر في اللسان، فقَالَ: لأنهم من أهل البدع فيريد أن يبين حالهم، وإلا فليسوا من أهل الروايات فالغرض هو بيان أنهم من أهل البدع، هكذا اعتذر ابن السبكي عَلَى تعصبه لهَؤُلاءِ.
    ثُمَّ يأتي الشيخ شعيب -يغفر الله لنا وله- ويكون أكثر تعصباً حين يقول: من فلاسفة الإسلام! ومعنى هذه الكلمة أن هذا الدين يحتاج إِلَى فلاسفة، يحتاج إِلَى أناس يتعمقون في هذه العلوم، ويأتون بما يخالف الكتاب والسنة، فإن جاءوا بما يوافق الكتاب والسنة لم يعدوا فلاسفة بل فقهاء، فالفقيه هو الذي يستنبط من الكتاب ومن السنة، وإن جاءوا بعلوم اليونان وأباطيلهم فهذه هي الفلسفة، ومن هذا شأنه فليس من الدين في شيء، بل هو مبتدع مارق، ولا يضاف إِلَى الإسلام، ولا ينسب إليه.

    القصد أن الشهرستاني كَانَ إماماً في علم الكلام عَلَى مذهب الأشعري، وكان إماماً في نحل الأمم ومذاهب الفلاسفة، وكان عَلَى معرفة عظيمة بأقوال الفلاسفة والنحل والفرق، ولهذا ألف كتاب الملل والنحل، وقد ذكر الإمام الذهبي في السير، وابن حجر في لسان الميزان أن الشهرستاني أخذ الكلام عن أبي نصر القشيري، وأبو نصر القشيري هو ابن القشيري صاحب الرسالة.
    وهَؤُلاءِ وغيرهم كانوا في زمنهم عَلَى عداوة شديدة مع أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الذين كانوا يسمون أحياناً أو في بعض الكتب بالحنابلة، فكانت المعركة قائمة بين القشيري وتلامذته، وبين أهل السنة أو المسمون بالحنابلة ومن كَانَ معهم، وكان معروفاً عند العامة وعند الناس، أن من انتحل طريق ابن القشيري ومنهجه أنه من أهل البدع كما هو موضح في ترجمة ابن القشيري في كتاب المنتظم لـابن الجوزي، فالمراد أن هَؤُلاءِ هم شيوخه.
    يقول ياقوت الحموي في وصفه: الفيلسوف المتكلم صاحب التصانيف، كَانَ وافر الفضل كامل العقل ثُمَّ يقول: ولولا تخبطه في الاعتقاد ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم لكان هو الإمام.
    ونقل الحافظ ابن حجر في اللسان قريباً من قول ياقوت عن الخوارزمي.
    ونقل أيضاً عن ابن السمعاني في اتهام الشهرستاني بالإلحاد، وهما أفضل وأوثق من ياقوت، وقول ياقوت: لولا تخبط الشهرستاني في الاعتقاد ومناصرته لـأهل الإلحاد لكان هو الإمام لم يكن فيه الصراحة في النقد ولعل ذلك بسبب المحبة أو الهوى أو الميل أو التعصب المذهبي لأن بعضهم كانوا شافعية، وهذا شافعي، فتجدهم يصفونه بأعظم الأوصاف لأنه شافعي المذهب أو أشعري مثلهم، وهذا من الهوى الذي لا نجده عند علماء الجرح والتعديل الذين جعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ميزاناً ومعياراً لمعرفة النَّاس والحكم عليهم، هذا من فضله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حماية لهذا الدين دون تعصب لأي أحد كائناً من كان، من تصانيف الشهرستاني كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام قال في بدايته: لما وجدت النَّاس في حيرة وضلال وشكوك ورأيتهم محتاجين إِلَى علم صحيح وعقيدة صحيحة ألفت هذا الكتاب! وليتأمل عنوان الكتاب مع أبيات الرازي مع ملاحظة أن الشهرستاني توفي عام خمسمائة وثمانية وأربعين، وتوفي الرازي عام ستمائة وستة، والرازي قطعاً اطلع عَلَى كتاب الشهرستاني، وتأمله، وهو من أعظم الكتب في مذهب الأشعرية وفي عقيدتهم.
    فعندما قال الرازي:
    نهاية إقدام العقول عقال             وغاية سعي العالمين ضلال
    فكأنه يقول: ما كنا نعتبره النهاية في الإقدام في العلم وفي العقيدة، وغاية ما ألَّفه علماؤنا في هذا المذهب هو ضلال ووبال وخسارة ولا فائدة فيه، إِلَى أن قال:
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
    والشهرستاني ذكر في أول هذين البيتين أنه ما ألَّف هذا الكتاب إلا ليحل هذه المشكلة، يقول: (لعمري لقد طفت المعاهد كلها) مر عَلَى معاهد العلم وعلى الحلقات.
    (وسيرت طرفي) -أي: عيني- بين تلك المعالم، فرأى النَّاس المشتغلين بعلم الكلام، فقَالَ:
    فلم أر إلا واضعاً كف حائر            على ذقن أو قارعاً سن نادم
    أي: وجد أنهم في حيرة وفي ندم وفي تخبط سواء كَانَ الغزالي أو الجويني، وقبلهم الأشعري وعندما قَالَ: سأؤلف هذا الكتاب، ليقطع الريب، وليأتي بالعلم الصحيح، سُبْحانَ اللَّه! وهل هذا مما وكل إلى الشهرستاني أو إِلَى من هو أجل وأعظم منه؟ لا والله، فلم يرجع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاس لمعرفة الحق واليقين والهدى إِلَى الشهرستاني ولا غيره، وإنما هو في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أنه -وهو يعبِّر عن حال هَؤُلاءِ الناس- قَالَ: كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من اتعظ بغيره" ورأى مصير هَؤُلاءِ، وهنا مسألة نريد أن ننبه عليها لها أثرها بالنسبة للشهرستاني وهي أن مقولة ابن السمعاني في الشهرستاني: أنه كَانَ متهماً بالميل إِلَى أهل الإلحاد.
    وكذا قالها الخوارزمي وياقوت الحموي.
    وفسرها ابن حجر -رَحِمَهُ اللَّهُ- فقَالَ: وكان الشهرستاني مائلاً إِلَى مذهب الإسماعيلية وهم الذين يسمون أهل الإلحاد، وكان إلحادهم مشهوراً عند العامة والخاصة، عند أهل السنة، وعند الأشعرية، وعند المعتزلة بل حتى عند الشيعة الإثنى عشرية، يعتبرون الشيعة الإسماعيلية ملاحدة، فكان الشهرستاني مائلاً إِلَى قول الملاحدة وكانوا في تلك الفترة -أي فترة القرن السادس- لهم انتشار ووجود كبير، وهذا أيضاً مما يعين عَلَى فهم نفسية الرجل، ومع ذلك يعتبره بعض النَّاس من أئمة أهل السنة، ويقولون: كتابه نهاية الإقدام من أعظم ما كتب في نصرة مذهب أهل السنة، سُبْحانَ اللَّه كيف يكون من كَانَ متفلسفاً متكلماً مائلاً إِلَى نصرة الإسماعيلية من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟!
  9. توبة الجويني وسببها

    والسادس: أبو المعالي الجويني، والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- لم يراع الترتيب التاريخي، يقول الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إِلَى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور!..".
    هذا الكلام ذكره الحافظ الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ في ترجمة أبي المعالي في سير أعلام النبلاء.
    وذكره شَيْخ الإِسْلامِ في التسعينية في علم الكلام.
    وذكره الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً في فتح الباري، في كتاب التوحيد، والكلام مشهور عن الجويني ..
    ولمَّا تاب الجويني من علم الكلام ألف كتاب اسمه النظامية وهي الرسالة التي ألفها باسم نظام الملك وزير السلاجقة يقول فيها: "لما رأيت علماء الإسلام وهم الصحابة والتابعون منصرفين عن التأويل وهم أعلم النَّاس بالدين، وأحرصهم عَلَى حفظه...ثُمَّ قَالَ: ولو كَانَ ذلك خيراً لكانوا أسبق إليه من غيرهم".
    وهذا دليل فطري منطقي سليم، لصاحب المنطق السليم الصحيح، فلا يمكن أن تُطبق القرون الثلاثة المفضلة عَلَى عدم التأويل، ويكون ذلك خطأً أو مفضولاً أو مرجوحاً ثُمَّ يأتي بعد ذلك من يؤول ويقول: تأويله هو الأعلم والأحكم والأسلم لا يمكن ذلك أبداً، وعلى هذا بنى رسالته النظامية، وهو يميل فيها إِلَى التفويض كما مر- ويظن أن مذهب السلف هو التفويض المطلق، يعني: تفويض المعنى والكيفية، وتقدم الفرق بينهما وأن السلف يفوضون في الكيفية، وأما المعاني فهم يثبتونها لصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما فهمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح، والمفسرون وعلماء اللغة.

    وكان موقف من المواقف سبباً من أسباب توبة الجويني، وذلك أنه لما وقف عَلَى المنبر وتكلم في أمر العقيدة وفي نفي العلو كَانَ أبو جعفر الهمذاني جالساً في المسجد فَقَالَ له: أيها الشيخ " دع عنك هذا، دعنا من الجدل ومن النقاش ومن العقليات، وأخبرنا عن الضرورة، التي يجدها الإِنسَان حين يدعو الله عز وجل.
    فما من داع يدعو الله إلا ويجد ضرورة أن يتجه إِلَى العلو فقَالَ: ما سر هذه الضرورة الفطرية المغروسة في كل نفس فأخذ الجويني يلطم بكمه في المنبر ويقول: حيرني الهمداني حيرني الهمداني ونزل من عَلَى المنبر،
    وهذه واقعة ثابتة ومشهورة، نثبت بها أن علم الكلام مصادم للفطرة السليمة.
    فالفطرة المغروسة في كل نفس، أن الإِنسَان إذا دعا يتجه إِلَى العلو، وليس هناك من حل يدفع هذه الضرورة إلا الإيمان فعلاً بأن الله تَعَالَى فوق مخلوقاته، وعند الموت أخذ الجويني يوصي تلاميذه، وهذه الوصية كَانَ عَلَى الغزالي أن يعمل بها، وكان مما يقَالَ: إنه ما من تلميذ غلب شيخه حتى طمس ذكره في حياة شيخه كأبي حامد الغزالي في حياة الجويني؛ لأن الشيخ خفتت سمعته وتضاءلت وهو حي لمَّا نبغ الغزالي في وفرة ذكائه وسعة إطلاعه، ومعرفته ودقته في العلوم فيقول الجويني لأصحابه: "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم".
    يعني أنه كَانَ يقول: هذه العلوم نقلية، وهذه العلوم علوم الحشوية والنابتة فنحن نتركها ونأخذ بالعلم اليقيني المحقق، بالعقل وبالدليل، وبالحجة وبالمجادلة، وبالنظر وما أشبه ذلك، فقَالَ: "خليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه".
    ومن هنا نعلم أن علماء الإسلام ينهون عن علم الكلام، وأن هذا أقدم عَلَى علم الكلام وهو يعلم أن علماء الإسلام ينهون عنه، والجويني مذهبه شافعي، ومن أكثر الأئمة الذين ثبت عنهم ذم علم الكلام الإمام الشَّافِعِيّ كما ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر بالسند في كتابه " تبيين كذب المفتري " وكما ذكر المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا، فـالجويني، والغزالي، والجويني، ومعظم أئمة الأشعرية شافعية، وتراهم يُقدمون عَلَى هذا العلم وهم يعلمون أن إمام مذهبهم ينهى عنه.

    ثُمَّ يقول الجويني بعد ذلك عندما حصحص الحق وجاء اليقين، وأصبح الإِنسَان في حال إقبال عَلَى الآخرة، وإدبار من الدنيا وعندما لا ينفع الجاه ولا العلم، ولا التلاميذ، ولا الشهرة، ولا أقوال الناس، في تلك اللحظة التي يتخلى فيها الإِنسَان عن كل شيء وتتضح له حقيقته ونفسه وتنتهي كل البهارج والزخارف، يقول: والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني: يسأل الله الرحمة وألا يبتلى عند الموت، وألا يكون اشتغاله بعلم الكلام وخوضه فيما نهى عنه علماء الإسلام سبباً لسوء الخاتمة عافانا الله من ذلك؛ لأن الإِنسَان عند الموت غالباً ما يختم له بما كَانَ يشغل به نفسه في الدنيا، كما ذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الجواب الكافي أمثلة كثيرة في ذلك فكل من كَانَ مشغولاً بشيء في الدنيا تمثل عند موته سواء كَانَ مشغولاً بالتجارة أو بالعشق أو بالمال أو بالمتاع الزائل، أوبالأغاني أو بالمنصب؛ لأن الموت فراق لما يحب الإِنسَان فأي شيء كَانَ الإِنسَان يحبه، ويتأمل فيه يتذكره عند الموت، ومن كَانَ متعلقاً بالله، ومتعلقاً بالمساجد وبالذكر، فإنه يتذكر ذلك ويأتيه ذلك عند الموت، ونِعْمَ ما يتذكر حينئذ.
    يقول: والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، أبعد هذا الخوض وبعد هذا الإطلاع، وبعد ما ألف كتاب الشامل -وهو كتاب ضخم، ومطبوع حققه الدكتور علي سامي النشار وبعض تلاميذه- وكتاب الإرشاد -وهو مطبوع أيضاً- بعدما ألف هذه الكتب وظن أنه بَيَّن للناس الاعتقاد الصحيح وقال بوجوب التأويل، وبوجوب أخذ العقيدة عن طريق العقل وعرضها عَلَى العقل وفي الأخير يقول: وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، وياليتها تحصل، إذا حصلت لكل علماء الكلام فهذا حسن؛ لأن الأمهات والعجائز عَلَى الفطرة السليمة، بل تراهم يقولون في نهاياتهم إذا سلموا من العذاب: إنهم بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب!
    هذا هو حال من أعرض عن كتاب الله، واتخذ أي منهج آخر من مناهج الضلال، يريد الإِنسَان منهم أن يعود إِلَى أول منزلة، منزلة الفطرة
    ((وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً)) [النحل:78] يريد أن يكون بمنزلة الأمي الذي لا يعلم شيئاً، فأما من علَّمه الله وفقهه في الدين حتى أصبح لديه من اليقين ما تبدوا أمامه كل الشبهات الفلسفية والكلامية مثل الهباءة في الهواء لا يأبه لها ولا يلتفت إليها فهذا الذي أراد الله به خيراً، وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه حال المؤمنين، وحال طلبة العلم الصادقين نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا منهم.
  10. الخسروشاهي

    قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
    [وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوماً، فقَالَ: ما تعتقده؟ قَالَ: ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ، فقَالَ: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقَالَ: نعم، فقَالَ: اشكر الله عَلَى هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما اعتقد؟ وبكى حتى أخضل لحيته ولـابن أبي الحديد، الفاضل المشهور بـ العراق.
    فيك يا أُغلوطةَ الفِكَرِ            حارَ أَمري وانقضى عمري
    سافرتْ فيكَ العقول فما            ربحتْ إلا أذى السفر
    فلحا اللهُ الأولى زعموا            أنك المعروف بالنظر
    كذَبوا إنَّ الذي ذكروا            خارجٌ عن قوة البشر
    وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إِلَى المرجح، ثُمَّ قَالَ: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.
    وقال آخر: أضطجع عَلَى فراشي وأضع الملحفة عَلَى وجهي، وأقابل بين حجج هَؤُلاءِ وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء] اهـ.

    الشرح:
    مر بنا: ابن رشد، والآمدي، والغزالي، والرازي والشهرستاني، والجويني.
    بقي الخسرو شاهي وشمس الدين الخسروشاهي قد عرَّفه المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- فقَالَ: [وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي] توفي سنة 652 هجرية، وهذا شمس الدين الخسرو شاهي دخل عليه يوماً بعض الفضلاء ووجده مشتغلاً ومنهمكاً بالعلم الذي حذر منه، ونهى عنه شيخه فخر الدين الرازي وقَالَ: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فهذا المسكين اشتغل بالذي لا يشفي عليلاً، ولا يروي غليلاً، فزاره بعض الفضلاء من العلماء فَقَالَ الخسروشاهي للرجل: ما تعتقده؟
    فقال الرجل: ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ، أعتقد في الله عز وجل -وفي الإيمان وفي الإلهيات- ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ.
    قَالَ: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟
    قَالَ: نعم، فهذه مسلمات لا مجال للشك فيه فَقَالَ له: اشكر الله عَلَى هذه النعمة، ثُمَّ قَالَ: لكني والله لا أدري ما أعتقد؟ والله لا أدري ما أعتقد؟ والله لا أدري ما أعتقد؟ وأخذ يبكي حتى اخضلت لحيته، أي: حتى أغرق لحيته بالدموع وهو يبكي، يقول: لا أدري ما أعتقد، أنت الذي تعتقد ما يعتقده الْمُسْلِمُونَ احمد الله عَلَى هذه العقيدة، واحمد الله عَلَى هذه النعمة.

    وبهذه القصة وبالتي قبلها يعلم الإِنسَان أن الإيمان والحق واليقين لا يكون إلا باتباع منهج الكتاب والسنة، فالفطرة التي عليها الْمُسْلِمُونَ موافقة لما في الكتاب والسنة، وزيادة عَلَى ذلك ما يعلمه علماء التفسير، وعلماء الحديث، والفقهاء في الدين، من أمر الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن علم صفات الله وأحوال الآخرة، وغير ذلك هو أضعاف ما يعتقده العامة.
    أما هَؤُلاءِ القوم فإنهم لا يدرون ماذا يعتقدون، فإذا أراد أن يعتقد مثلاً مسألة القدر، وهو عَلَى مذهب الرازي والخسرو شاهي والجويني مذهب الأشعرية، فيمر عَلَى الكسب فلا يقدر عقله أن يحلله، أو أن يستوعبه، وإذا نظر إِلَى النَّاس الذين يعيشون في الدنيا وجدهم مؤمنين بالقدر، مطمئنين للإيمان بالقدر، فيظل غارقاً في الشبهات والنَّاس من حوله خيرٌ منه.
    وقل ذلك في أي باب من أبواب العقيدة فإنهم يبنونها عَلَى حجج واهيات يسهل الرد عليها؛ كما أتى عليها شَيْخ الإِسْلامِ فهدم بنيانها لأنها ليست عَلَى شيء.
  11. الإمام الجيلاني وقصة الرجلين

    وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ قصة قريبة من حال هذا في أيام عبد القادر الجيلاني وهي أنه جَاءَ إليه رجلان: أحدهما عَلَى مذهب المعتزلة، والآخر عَلَى مذهب الأشاعرة، وقالوا له: ياشيخ إننا في حيرة من أمرنا، وإنه ترد لنا واردات وتخطر لنا خاطرات، ولا ندري ما الجواب عليها فهل عندكم من يقين؟
    وقد كَانَ الشيخ الجيلاني معروفاً بأنه يربي المريدين- فقَالَ: نعم، عندنا يقين لا تأتيه هذه الخواطر ولا هذه الوساوس، فاحتارا.
    فأما المعتزلي فإنه ترك الاعتزال ودخل مع الشيخ عبد القادر حتى أصبح من كبار طلاب الشيخ، ووجد اليقين في الإيمانيات.
    وأما ذلك الآخر فإنه قَالَ: لا. وشك في الأمر، ثُمَّ تركه وبقي عمره في الحيرة وفي الشك.
    والقصد أنهم يتعجبون ممن يمتلك اليقين في أبواب العقيدة، وهم مع خوضهم البحر الخضم لم يصلوا إليه!
    وهذا هو حال الملاحدة اليوم في الغرب، فالنَّصَارَى بالذات في الدول الأوروبية لا يعلمون ديناً غير دين النَّصَارَى.
    ولو قلت لأحدهم: أيها أفضل دين النَّصَارَى أو الإسلام أو البوذية؟
    فإنه يقول لك: لا توجد نسبة، دين النَّصَارَى دين عظيم وممتاز! والإسلام همجية، والبوذية همجية! فهو يتصور أن أعظم دين وأفضله دين النصرانية.
    فإذا سألته هل أنت تؤمن بالنصرانية؟
    فإنه يقول لك: لا؛ أنا إنسان أؤمن بالعلم فقط، ولا أؤمن بالدين؛ لأن فيه خرافات وكذا وكذا، والنتيجة تصبح أنه لا يؤمن بأي دين، فيكون حائراً ملحداً.
    ثُمَّ يقول لك: أحسن شيء أنني لا أتكلم في الغيبيات والفلسفات بل أبقى إنساناً عملياً، أفكر في الأمور العملية فقط، مثل النظرية التي مشت عليها أمريكا الفلسفة العملية.
    فتقول: أنت لا تنظر إِلَى الشيء من حيث أنه خطأ أو صواب، حق أو باطل فهذا لا يعنيك، يعنيك فقط، هل له ثمرة عملية موجودة؟
    ويقول لك: لا تحكم لي عَلَى هذا العمل أهو أخلاقي أو غير أخلاقي؟ أصواب أم خطأ؟
    بل قل لي: هل توجد ثمرة مادية أم لا؟
    وهكذا إذا أتيت إِلَى عالم الفلك وقلت له: عندما تتأمل في الكون وفي المنظار تتأمل المراصد وترى هذه العجائب ألا يحدث عندك شيء من الإيمان بالله؟ فإنه يقول: إنني إنسان علمي، أتكلم في النتائج العلمية فقط، لا أحاول أن أُشْغِل نفسي بأمور فلسفية خارج النطاق.
    واسأل عالم التاريخ وقل له: عندما تنظر في الأمم والدول، هل تلاحظ أن الأمم حينما تأخذ في شرب الخمر وفي الزنا تهلك وتضيع وتضل؟!
    فسيقول لك: هذا موجود فإذا قلت له: لا تتكلمون عَلَى هذا الشيء وتنشرونه، فإنه يقول لك: لو تكلمت عن هذا الأمر لتحولت إِلَى عالم أخلاق، والأخلاق لها أناس متخصصون وأنا عملي أني إنسان مؤرخ فقط، أتعرض لوقت الحالات والأشياء، سُبْحانَ اللَّه! فما هي ثمرة التاريخ إذاً؟! وما فائدة دراسة التاريخ أصلاً إن لم يؤدِ بك إِلَى أن ترى سنن الله عز وجل في الذين خلوا من قبل، وتقولها لنفسك وللناس؟!
  12. ابن أبي الحديد وحيرته

    ابن أبي الحديد هو صاحب شرح نهج البلاغة الذي جمع كلمات بليغة منسوبة إِلَى عدة من الحكماء أو الخطباء، ونسبها جميعاً إِلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وقد كَانَ في درجة من الفصاحة، والبلاغة، يقول هذه الأبيات:
    فيك يا أُغلوطةَ الفِكَرِ            حار أمري وانقضى عمري
    يقول: هذا العلم: علم الإلهيات وعلم معرفة اليقين والحق عن طريق الكدح الذهني والنظر والمجادلة وأشباه ذلك:
    حار أمري وانقض عمري
    فهذه العلوم تحار فيها العقول ولا تصل بها إِلَى نهاية
    سافرت فيك العقول فما            ربحت إلا أذى السفر
    فنهايتها مشقة السفر فقط والتعب والأذى ولم تصل فيها إِلَى نتيجة قط.
    فلحا الله الألى زعموا            أنك المعروف بالنظر
    لحاهم الله يعني: عابهم ولا مهم وأهلكهم، فهو يدعو عليهم، فلحى الله الألى زعموا: أي: الذين زعموا أنك المعروف بالنظر وبالعقل. يقول :
    كذبوا إن الذي ذكروا            خارج عن قوة البشر
    نعم، فإن الذي ذكروه خارج عن قوة البشر، وهو الوصول إِلَى الحق من عالم الغيب أمر خارج عن قوة البشر، لا يمكن الوصول إليه عن طريق العلوم النظرية ولا العلوم البشرية أبداً، وإنما يوصل إليه عن طريق علم الغيب وهو الوحي، أما العلم البشري الحسي المحدود فإنه لا يستطيع أن يدرك عالم الغيب، فيقول :
    فلحى الله الألى زعموا            أنك المعروف بالنظر
    كذبوا إن الذي ذكروا            خارج عن قوة البشر

    وهذا مثلما قال الشاعر فيما مر معنا سابقاً:
    لولا التنافس في الدنيا لما وضعت            كُتْبُ التناظر لا المغني ولا العمد