المادة كاملة    
بدأ هذا الدرس بالحديث عن القرآن وافتراق الناس في كلام الله، مع بيان أصل ضلال جميع الطوائف، ثم انتقل إلى الحديث عن أقسام الطوائف في الكلام عن القرآن، مع توضيح الأقوال المهمة والمشهورة وتفنيد شبههم.
  1. افتراق الناس في مسمى كلام الله

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
    [وإنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وأَنْزَلَهُ على رَسُوله وَحْياً، وصدَّقَهُ المؤمنونَ على ذلك حقّاً، وَأَيْقَنُوا أنَّه كَلامُ اللهِ تعالى بالحقيقَةِ، لَيْسَ بمخلُوقٍ كَكَلامِ البَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ، فَزَعَمَ أنَّه كلامُ البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّه اللهُ وعابَه، وأَوْعَدَه بِسَقَرَ حَيْثُ قال تعالى: ((سَأُصلِيهِ سَقَرَ))[المدثر:26] فلما أوعدَ اللهُ بسقر لِمَنْ قَاْلَ: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ))[المدثر:25] عَلِمْنَا وَأَيقَنَّا أنه قَوْلُ خالِقِ البَشَرِ ولا يُشْبِهُ قَوْلَ البَشَرِ].
    قال المصنف رحمه الله:
    [هذه قاعدةٌ شريفةٌ، وأصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدين، ضَلَّ فيه طوائفُ كثيرةٌ من الناس، وهذا الذي حكاهُ الطحاوي -رحمه الله- هو الحَقُّ الذي دَلَّتْ عليهِ الأَدِلَّةُ مِنَ الكِتاب والسُّنَّةِ لمن تَدَبَّرَهما، وشَهِدَت به الفِطْرَةُ السليمةُ التي لم تُغَيَّر بالشُّبُهَاتِ والشُّكُوكِ والآراء الباطلة.
    وقدِ افْتَرَقَ الناسُ في مسألةِ الكلامِ على تسعة أقوال:-
    أحدها: أنَّ كلامَ اللهِ هو ما يَفِيضُ على النفوسِ من معاني، إما مِنَ العقلِ الفَعَّالِ عندَ بعضهم، أو مِنْ غيرِه، وهذا قولُ الصابئة والمتفلسفة.
    وثانيها: أنَّه مخلوقٌ، خَلَقهُ اللهُ مُنفصلاً عنه، وهذا قَوْلُ المُعتَزِلَة.
    وثالثُها: أنَّهُ معنى واحدٌ قائمٌ بذاتِ اللهِ، هو الأمرُ والنَّهْيُ والخَبَرُ والاستخبارُ، إن عُبِّرَ عَنْهُ بالعربيةِ كانَ قُرآناً وإن عُبِّرَ عنهُ بِالعِبْرِية كانَ توراةً، وهذا قولُ ابنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وافَقَه كـالأشعري وغيره.
    ورابعُها: أنَّه حروفٌ وأصواتٌ أزلِيَّة، مجتمعةٌ في الأزَلِ، وهذا قولُ طائفةٍ مِنْ أهلِ الكلام وَمِنْ أَهْلِ الحديث.
    وخامسُها: أنَّه حروفٌ وأصواتٌ، لكِنْ تَكَلَّمَ اللهُ بها بعدَ أن لم يَكنْ متكلِّماً، وهذا قولُ الكرَّامية وغيرهم.
    وسَادِسُها: أن كلامَه يَرجعُ إلى ما يُحْدِثُه مِنْ عِلْمِهِ وإرادتِه القائم بذاته، وهذا يقولُه صاحبُ المعتبر، ويميلُ إليهِ الرازي في المطالبِ العالية.
    وَسابِعُها: أنَّ كلامَهُ يَتَضَمَّنُ معنى قائماً بذاته هو ما خَلَقه في غيره، وهذا قولُ أبي منصور الماتريدي.
    وَثْامِنُها: أنه مُشْتَرك بَيْنَ المعنى القديمِ القائم بالذات وبينَ ما يَخلُقُه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومَنْ تَبِعَهُ.
    وتاسعُها: أنَّه تعالى لم يَزَلْ متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيفَ شاء، وهو يَتَكلَّم به بصوت يُسْمَعُ، وأنّ نوعَ الكلام قديمٌ وإن لم يَكُن الصوتُ المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة] إهـ.

    الشرح:
    هذه تسعة أقوال في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، وسوف نشرحها إن شاء الله واحداً واحداً.
    لكن ينبغي أن نَعلمَ أنَّ هذهِ الأقوالُ ليستْ كلّها على درجةٍ واحدة من الأهمية ومن الانتشار، فبعضها آراء فردية، وبعضها اجتهادات شخصية لأناس قالوها، وروجعوا عنها وما أشبه ذلك،
    ولكن الأقوال في هذه المسألة التي عليها مدار الخلاف قديماً وحديثاً ثلاثة أقوال:
    مذهب المعتزلة.
    ومذهب الأشاعرة.
    ومذهب أهل السنة التي هي المذاهب الثاني والثالث والتاسع.
    وأما قول الصابئة والمتفلسفة فهو تابع لقضية فلسفية عميقة، قد لا يحتاج إليها أحدٌ إلا مَن تخصص في دراسةِ الفِرَقِ الزائغةِ الخارجةِ عن الملةِ مثل النصيرية أو الدرزية أو الباطنية الإسماعيلية عموماً.
    وأما القول الرابع والخامس، فإنها قريبة من القول الثالث، وقد اندثر من قال بها، ولم ينسبها إلا أنه نسب الخامس إلى الكرامية وقد انقرضت.
    والقول السادس الذي يميل إليه صاحب المعتبر -وهو ابن ملكا- وكذلك الرازي، والرازي من أئمة الأشعرية وابن ملكا فيلسوف متحرر ليس بأشعري محض ولا بسلفي محض، وهو يندمج ضمن الأشعرية في الواقع وإن كان كل من الرجلين - أي ابن ملكا صاحب المعتبر والرازي- لم يؤسس مذهباً جديداً مستقلاً.
    وكذلك القول السابع الذي هو قول الماتريدية، فهم في أكثر مذاهبهم المتأخرة مالوا إلى مذهب الأشعرية.
    وأما القول الثامن فهو قول أبي المعالي الجويني أيضاً، وهو من أئمة الأشعرية.
    فكأن المصنف -رحمه الله تعالى- فصَل الأقوال أو الخلاف الذي بين أئمة الأشعرية كـ الرازي وأبي المعالي وغيرهما وجعلها مذاهب وأقوال مستقلة، ولكن الذي استقرت عليه الآراء والذي عليه مدار الخلاف قديماً وحديثاً وعليه المعركة إلى اليوم في هذه المسألة هي ثلاثة أقوال كما سبق.
    1. أصل جميع الضلالات

      قبل أن نبدأ في شرح الأقوال ينبغي لنا أن نعرف قضية مهمة -وقد سبقت معنا في أول الكتاب ونعيدها الآن- وهي أصل جميع الضلالات، أو المنبع الذي نبعت منه هذه الضلالات جميعاً في باب الأسماء والصفات.
      وهذا الأصل هو: أن المتكلمين وأولهم المعتزلة أرادوا أن يستدلوا عَلَى وجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعلوا قضية وجود الله هي القضية المتنازع فيها مع أنها لم تكن عَلَى الإطلاق في القُرْآن محل النزاع والخلاف بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وإنما النزاع في قضية الألوهية هل هي لله وحده؟ أم له مع غيره؟ أم لغيره من دونه؟
      فأرادوا أن يستدلوا عَلَى وجود الله بالطريقة الفلسفية اليونانية وفي هذه المسألة كَانَ علماء اليونان وعلماء الإغريق ومن اتبعهم من الصابئة وعلماء المجوس وأمثالهم عَلَى رأيين:
      الرأي الأول: أن هذا العالم قديم، بمعنى: أن هذا العالم وهذا الكون أزلي لا أول لوجوده، أي جَاءَ بنفسه هكذا يقولون: إنه خلق من غير شيء وهَؤُلاءِ من الفلاسفة الذين ينكرون وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

      وقد رد عليهم فلاسفة اليونان وعلماء الأغريق والصابئة وآخرون منهم فَقَالُوا: إن لهذا العالم خالقاً سموه واجب الوجود، أو ما أشبه ذلك.
      وواجب الوجود موجود، وهذا العالم حادث، فواجب الوجود قديم لا أول لوجوده، وأما الكون والعالم، فهو حادث لوجوده أول، وأغلبهم يميل إِلَى أنه نشأ عنه كما تنشأ العلة عن المعلول، أي: أن النسبة بينهما مثل نسبة السبب إِلَى المسبب أو العلة إِلَى المعلول، أي: ليس له إرادة وليس له صفات أوجدت هكذا.
      هذا هو مذهب الأكثرين من هَؤُلاءِ الفلاسفة الذين يثبتون وجود الله؛ لكنهم يريدون أن يثبتوا وجود الله، فأثبتوه علة تامة اقتضت معلولها وهو الكون، ولما أرادوا أن يبطلوا قول القائلين بأن العالم قديم وأزلي، قالوا لهم: الدليل عَلَى أن العالم حادث بعد أن لم يكن هو: أن الأعراض تلحق بهذا العالم، فالشمس تطلع وتغيب كما هو مشاهد، وتكون الصحة والمرض، وتكون الألوان والطعوم والروائح والأشياء المختلفة، فالتغير والأعراض التي تطرأ شيئاً بعد شيء عَلَى المخلوقات -كما يقول هَؤُلاءِ- دليل عَلَى أنها حادثة، وعلى أنها ليست قديمة؛ لأن القديم الموجود وجوداً أزلياً لا يمكن أن يلحق، وأن يطرأ عليه التغيير، هكذا قالت الفلاسفة
      .
      فلما جَاءَ المتكلمون وجاء المعتزلة وترجموا كتب أُولَئِكَ مالوا مع القول الذي يثبت وجود الله؛ لأن هَؤُلاءِ ليسوا منكرين لوجود الله، فأخذوه وأخذوا أدلة أُولَئِكَ بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موجود، وأن الكون حادث، وإن كانوا لا يقولون: مخلوق وخالق، وإنما يقولون: هو حادث وأزلي وقديم فقط، فَقَالَ لهم المتكلمون: نَحْنُ نستدل عَلَى أن هذا الكون حادث بأنه تطرأ عليه الأعراض والتغيرات عرض بعد عرض وحال بعد حال فهذا دليل عَلَى أن الكون غير قديم بل هو مخلوق، فلما جاءوا يطبقون هذا عَلَى صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقع الخلاف.
      فـالفلاسفة الذين يثبتون وجود الله يثبتون أنه علَّةٌ تامة، ولا يصفونه بأي صفة ثبوتية وجودية، وإنما يصفونه بالسلوب والإضافات.
      يقولون: ليس بجاهل، ولا ظالم، ولا ذليل، ولا يصفونه بأنه عالم حكم عدل عزيز، فلما انتقلت هذه إِلَى الْمُسْلِمِينَ من المعتزلة وأمثالهم جاءوا فأرادوا أيضاً أن يأخذوا نفس الشيء لئلا ينتقض عليهم أصلهم؛ لأنهم قالوا: إن ما تقوم به الأعراض والأحوال، وتحل به الحوادث -كما يسمونها- لا يمكن أن يكون قديماً، وأزلياً لا أول لوجوده وإنما هو حادث، ويقرؤون في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم متى شاء، وأنه يغضب، ويرضى، ويريد، ويشاء، ويختار، ويخلق، وفي الحديث الصحيح أنه ينزل، وأمثال ذلك.
      فقالوا: هذه حوادث وأعراض وأحوال، فإذا قلنا: إن الحوادث والأعراض تحل بالله فهو حادث وليس بقديم؛ إذاً ليس هناك دليل لدينا عَلَى أن نثبت وجود الله، فأصبحنا كأننا ننفي وجود الله، فصاروا بين نارين:
      إما أن يلتزموا القول بأن هذه فعلاً حوادث وأعراض تقوم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو حادث مثل سائر الحوادث والعياذ بالله.
      وإما أن يقولوا: لا تقوم به هذه الحوادث، والأعراض وينفون عنه هذه الصفات، فيكون إذاً قديماً وأزلياً.
      فاختار المعتزلة والمتكلمون القول الثاني، وَقَالُوا: نُجرده من الصفات، ونُثبِتُ وجوده، وأنه خالق هذا الكون خير من أن نجعل له صفات كما أن للمخلوقين صفات فإذا قلنا: إن البشر يغضب، ويرضى، وينزل، ويتكلم، وهذه أعراض وحالات وحوادث تحدث في كل إنسان، وقلنا: إن الله يتكلم، وينزل، ويغضب، ويرضى وهذه هي نفس الأعراض والأحوال.
      إذاً: لابد أن ننفيها عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فنفوا صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليوافقوا قول الفلاسفة المثبتين لوجوده، أي: المثبتين بأن الكون حادث وليس بقديم
      فكانت أهم وأبرز صفة ظهرت في أثناء النقاش والجدال والمعركة الجدلية هي صفة الكلام، وكما ذكرنا أن للنصارى دوراً في إثارة هذه القضية؛ لأنهم يقولون: عيسى كلمة الله -كما يقول بعضهم- ومنهم من يقول: ن الكلمة مخلوقة، وبعضهم يقول: لا! إنه كلمة الله ولكنه إله مثل الله، أي: ذات مستقلة، فالآلهة الثلاثة لكلٍ منها ذات مستقلة.
      فهَؤُلاءِ قالوا: إذا قلنا: إن القُرْآن كلام الله أيضاً، وقلنا: إنه ليس بمخلوق، فيلزمنا أن يكون ذاتاً مستقلة؛ لأنهم لا يفهمون من الصفة إلا أمراً عينياً متعيناً موجوداً، وليس صفة تقوم بشيء موصوف، فيثبتون الذات عَلَى أنها لا صفة لها، ويثبتون الصفات عَلَى أنها ذوات مستقلة منفصلة.
      فإذا قلنا: إن لله تسعة وتسعين اسماً، فإنهم يتصورون أنها تسعة وتسعين ذات منفصلة مستقلة، وهكذا نظرت النَّصَارَى والعياذ بالله إِلَى أن الآلهة ثلاثة منفصلة مستقلة، وهي في نفس الوقت واحدة.
      فحصل من هذا وهذا أن نشأت قضية الجدل في صفة الكلام فَقَالُوا: إن كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ لم يكن متكلماً ثُمَّ تكلم، فقد حلت به الحوادث -هكذا رأت عقولهم والعياذ بالله- وما كَانَ محلاً للحوادث فهو حادث.
      وإذا قلنا لهم: إن الآيات والأحاديث في كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه كلم الملائكة قبل أن يخلق آدم وكلم آدم وكلم موسى وهذا كله كلام الله.
      قالوا: لا، هذه مخلوقات أي أن القُرْآن مخلوق خلقه الله.
      وَقَالُوا: إنما قلنا ذلك حتى ننزه الله أن يكون محلاً للحوادث فننفي عنه الكلام
      مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين لنا في بيان أجلى وأوضح من الشمس أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] وكان عَلَى هذا البيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رضوان الله عليهم، فليس كلامه ونظره ورضاه ورحمته ونزوله كنظر المخلوقين ورضاهم ورحمتهم ونزولهم ليس كمثله شيء أبداً، ولم يكن له كفواً أحد أبداً.
      وإذا أثبتنا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما أثبته لنفسه، فإننا لا نُثبِتُ له ما هو في حق المخلوقات من الأعراض، أو الحوادث، أو الأحوال، أو التغيرات، ومن فهم ذلك فإنما الفساد جاءه من قبل عقله وفهمه، وليس من نصوص الكتاب والسنة أبداً
      بالإضافة إِلَى أن أصل قضية إثبات وجود الله بهذه الطريقة التي سلكوها نَحْنُ في غنى عنها وعن استيراد كتب الفلسفة وترجمتها وفي غنى عن الرد عَلَى الفلاسفة المنكرين لوجود الله بالرد عَلَى منهج الفلاسفة الذين يثبتونه علة تامة لا صفاتَ لها عَلَى الإطلاق، كُلُّ هذا الكلام نَحْنُ في غنى عنه لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنور وبالهدى التام المستبين.
      وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وقرره غيره من العلماء أيضاً: إن نفس أمة اليونان الدولة الرومية عموماً واليونان خاصة كانوا عَلَى دين الفلسفة وعلى الشرك حتى دخلت عليهم النصرانية المنحرفة سنة 325م فانتقلوا من الشرك ومن الوثنية الفلسفية إِلَى النصرانية، وهي عَلَى ما فيها من الشرك إلا أنها أفضل وأنسب حالاً لأن فيها آثاراً من كلام النبوة، أو آثاراً من الوحي الرباني، فانتقلوا من ذلك إِلَى ما هو أحسن حالاً وجاء الإسلام وأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفرقان الواضح فقضى عَلَى الأديان وأبطلها سواءً النصرانية او غيرها، وإن كانت أفضل من الفلسفة اليونانية إلا أنها كفر وشرك.
      وكُلُّ من دان بها بعد بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كافر كما هو في الكتاب والسنة ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)) [آل عمران:19]، وفي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار} فلا يقبل الله غير هذا الدين
      فكيف ينتكس ويرجع هَؤُلاءِ المتكلمون وغيرهم إِلَى ما كَانَ عليه هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ.
      هذا هو غاية ما يُرِيدُ هَؤُلاءِِ النَّاس أن يقولوه أو يدعو إليه، أما نَحْنُ فنبطل هذه القضايا جميعاً لأن لدينا - ولله الحمد- المنهج والبرهان الواضح، فلا حاجة بنا إِلَى الخوض في مسألة وجود الله عَلَى طريقتهم، ولا حاجة بنا إِلَى ترجمة كلامهم، ولا حاجة للمسلمين إِلَى الاستعانة بكلام المثبتين منهم ضد النفاة، فنحن نرد عَلَى الجميع، ولكن هذا الذي حصل ووقع تاريخياً، أن المعتزلة التزموا القول بأن ينفوا صفات الله تبعاً لنفي حلول الحوادث في ذات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- متبعين للقول بأن إثبات الصفات يستلزم إثبات لذوات متعددة -تعدد القدماء أو تعدد ذوات مختلفة- وبناءً عَلَى ذلك أنكروا أن يكون القُرْآن كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَالُوا: إنه مخلوق، وسيأتي تفصيل كلامهم إن شاء الله تَعَالَى في قولهم: إن إضافته إِلَى الله إضافة تشريف، أو -مثلاً- استدلالهم بقوله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً))[الزخرف:3] أو((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء)) [الرعد:16] وأمثال ذلك من الشبهات التي سنعرض لها إن شاء الله بالتفصيل.
  2. أقوال الطوائف في كلام الله تعالى

     المرفق    
    للطوائف أقوال مختلفة في كلام الله نفصلها فيما يأتي:
    1. قول الصابئة والمتفلسفة

      وهَؤُلاءِ يقولون: إن كلام الله تَعَالَى هو ما يفيض عَلَى النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
      فهَؤُلاءِ النَّاس يقولون: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُوصفُ بأي صفة ثبوتية وجودية. إذاً فهو مجرد علة تامة نشأ عنها المعلول، ونشأت عنها المخلوقات، وليس أكثر من ذلك.
      فكلام الله في نظرهم: هو الفيض الذي يفيضه العقل الكلي أو العقل الفعال.
      ويقول بعضهم: إنه يفيض عَلَى النفس الكلية ثُمَّ النفس الكلية تفيضه عَلَى النفوس الجزئية.
      ومنهم من يقول: العقل الكلي يفيضه عَلَى العقول الجزئية.
      وهذه المسألة مختلف فيها ولا يهمنا هذا الخلاف؛ بل الذي يهمنا أن كلام أفلاطون وأمثاله الذين قالوا: إن العلة التامة الذي هو "الله" عندهم -كما يسمونه- لمَّا كَانَ لا يتصف بأي صفة، إنما نشأ عنه الكون بهذه الطريقة، نشأ عنه أول ما نشأ العقل الفعال، أو العقل الكلي، وهذا العقل موجود في الفضاء، ثُمَّ أصبحت هذه العقول بعد ذلك عشرة كما فصلها بعضهم، فالعقل الأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث، إِلَى أن صارت عشرة، ثُمَّ بعد ذلك: العقول العشرة هي التي خلقت الفلك.
      وبعضهم يقول: خلقت الأفلاك، والأفلاك هي التي تدير الكون -فنسأل الله السلامة والعافية- ((وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ))[الجاثية:24] كلام لا صحة له ولا دليل عليه لا من نقل ولا من عقل وإنما هي تخرصات وافتراضات.
      فكلام الله أو الوحي عندهم هو الفيض الذي يحصل من العقول أو من النفوس الكلية إِلَى العقول أو النفوس الجزئية، العجيب في هذا الأمر أن أبا حامد الغزالي وهو الذي كتب كتابه تهافت الفلاسفة في الرد عَلَى الفلاسفة وإبطال مذهبهم هو نفسه: يقول إن الوحي هو انتقاش العلم من العقل الكلي أو النفس الكلية في العقول الجزئية؛ لأن أبا حامد الغزالي الذي كتب ضدهم والذي اشتهر عنه أنه ضد الفلاسفة في مواضع من كتبه، يقول: إن الوحي هو الفيض الذي يحصل من العقل الكلي إِلَى العقل الجزئي، أو انتقاش العلم من النفس الكلية إِلَى النفس الجزئية، وما أشبه ذلك.
      ولهذا لما تعرض لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ قَالَ: "إن كثيراً ممن قرأ لـأبي حامد وجدوا أن الرجل يتناقض فإنه يرد عليهم في أمور وهو يقول بها في بعض كتبه حتى أنشد بعضهم في ذلك فقَالَ:
      يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ            وإن لقيت معدياً فعدنان"
      أي أنه: أحياناً يكون مع الفلاسفة، وأحياناً يكون مع المعتزلة ضد الفلاسفة، فَقَالَ في أول كتاب التهافت نَحْنُ نرد عَلَى الفلاسفة بكل قول، أي: بقول المعتزلة، وبقول الكرامية، وما أشبههم، ومعنى هذا أنه ليس لـأبي حامد مذهب معين ثابت ينطلق منه من أول حياته إِلَى قريب من نهايتها. المهم أن يرد عليهم، ثُمَّ هو في موضع آخر يرد عَلَى المعتزلة، أو يرد عَلَى غيرهم، فكان يأخذ من كلام الأشعرية، ومن كلام المعتزلة، ومن كلام الكرامية، ويرد به عَلَى الفلاسفة ثُمَّ هو في نفس الوقت يرد عَلَى الأشاعرة في بعض المواضع وينتقدهم، ويرد عَلَى المعتزلة أيضاً ثُمَّ يوافقهم في بعض المواضع، مع أنه أكثر ما كَانَ يميل إِلَى الأشعرية، وهكذا كَانَ منهجه مضطرباً.
      والذي يهمنا هنا أن نقول: كَانَ هذا المذهب هو مذهب الصابئة ومذهب المتفلسفة، والمنتسبين أيضاً إِلَى الإسلام من الفرق والطوائف التي اتبعتهم كـالباطنية والإسماعيلية والنصيرية والدروز وأمثالهم.
      والخلاف الذي بين الفلاسفة في تحديد هذه الأمور بالدقة هو أيضاً موجود بين الفرق الإسماعيلية والدروز.
      وأيضاً وقع في هذه القضية أو تأثر بها أبو حامد الغزالي وهو ممن دخل في الفلسفة، ودخل أيضاً مع الباطنية، ثُمَّ ترك الطائفتين، ولكنه كما قال تلميذه الإمام أبو بكر ابن العربي دخل شيخنا أبو حامد في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها، فقد بقيت آثارها فيه، ولم يستطع أن يتجرد ويتخلى منها بالكلية.

      فهذا القول قول الصابئة والفلاسفة قول كفري يخرج من الملة لم يقل به إلا الخارجون عن الملة، وما وقع في كلام أبي حامد فهو من آثار ذلك مع أنه مؤمن مسلم، ويدافع عن الإسلام ولا يخرجه ذلك من الملة، ونريد التنبيه عَلَى هذا، وهذا قد يقوله من هو مسلم وإن كَانَ هذا القول في الأصل قولاً كفرياً لا يقول به أي مسلم فمن قال بالقول الأول فهو خارج من الملة ولا خلاف في ذلك أي أن المعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم يوافقوننا عَلَى أن من أثبت الكلام بهذه الصفة، ومن قَالَ: إنه هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مجرد علة تامة، أو أنه هو الذي خلق العقل الكلي، والعقل الكلي خلق سائر الكون، إِلَى غير ذلك، فإن هذا كافر وخارج عن الإسلام، وبعضهم ينتسب إِلَى الإسلام مثل ابن سينا، ولكن ابن سينا كان يظهر أنه شيعي رافضي، وهو في حقيقته فيلسوف لا يؤمن بأي دين من الأديان، ولو كَانَ فعلاً شيعياً فهو أيضاً حكمه كحكم الشيعة، هذا هو قول أُولَئِكَ القوم في مسألة كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    2. قول المعتزلة

      وتقول المعتزلة: إن كلام الله مخلوق، خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا هو القول الذي يجمع طوائف المعتزلة عَلَى اختلافهم، وقد سبق أن ذكرنا السبب الذي أوقع المعتزلة في هذا الخوض.
      ولما نشأ الخلاف بين المعتزلة وبين أهل السنة في هذه المسألة كما مرَّ معنا، وكانت الفتنة للإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ ومن معه من علماء السنة، خرج القول الثالث، ولهذا يذكر العلماء من القواعد الأصولية: إذا اختلفت الأمة عَلَى قولين واستقر الخلاف بينهم عَلَى أحدهما، فالقول الثالث -الذي يحدث بعد ذلك- قول محدث مبتدع
      والقول الثالث -وسيأتي- كَانَ منبعه من هذه القضية.
      اختلاف أهل السنة والمعتزلة في الكلام، فيقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ غير مخلوق، وتقول المعتزلة هو كلام مخلوق، وعلى هذا استقر الخلاف، وكانت الفتنة والمحنة والأذى والعذاب.
    3. قول ابن كُلاب

      وعبد الله بن سعيد بن كُلاب المعروف بالقطان، وقد ذكر عقيدته أبو الحسن الأشعري في آخر كتابه المقالات، وذكر أنه رجل أوتي جدلاً، وكان له باع طويل في النظر، ومن مآثره: أنه رد عَلَى المعتزلة والفلاسفة رداً قوياً، وأفحم كثيراً منهم وألزمهم.
      لكن ابن كُلاب أخطأ عندما لم يكن ينطلق في ردوده من الكتاب والسنة، وإنما من قوة عقله وتفكيره، فقوة الذكاء والعقل والتفكير والجدل لا تكفي وحدها أبداً، فانطلق يرد عَلَى هَؤُلاءِ ويجادلهم ويفحمهم، فلما رأى الأمة منقسمة بشأن القول بخلق القُرْآن إِلَى هذين القولين، فكّر فخرج بقول جديد ثالث، وهو قول باطل مبتدع، فقَالَ: نقول إن كلام الله عَلَى نوعين: كلام النفس وحديث النفس، أو المعنى القائم بالنفس وهذا نقول: إنه قديم غير مخلوق، وأما الكلام المركب من الحروف والأصوات الموجودة في المصاحف فهذا نقول إنه مخلوق.
      ومعنى قوله: خرجنا وسطاً لا مع أَحْمد بن حَنْبَل، ولا مع الذين عذبوا أَحْمد بن حَنْبَل، وهذا قول جديد.
      وقَالَ: إن هذا القول أفضل وأحسن لكي يجمع الناس، ولذلك تجدون الكوثرى في تعليقاته عَلَى كتاب تبيين كذب المفتري لـابن عساكر يقول لو أن أهل السنة اتبعوا عبد الله بن سعيد بن كلاب لاستراحوا من الفتنة، واستراحوا من العذاب، ومما نزل بهم من الأذى، فإن المسألة بسيطة ولا تحتاج إِلَى نقاش وجدال، إنما الشد والأخذ والجدل هو الذي دفع بعضهم بتطرف المعتزلة في جهة وبتطرف أهل الحديث من جهة، وإلا فالمسألة بسيطة. حلها هذا الرجل، وجمع ووفق بين القولين، أي كَانَ ابن كلاب قام بعملية صلح بين الطرفين فكلامك أنت بأنه مخلوق صحيح، لأنه في المصاحف مخلوق، وكلامك أنت الآخر بأنه غير مخلوق وصحيح؛ لأن المعنى الذي في ذات الله غير مخلوق، وانتهت المشكلة ولا تحتاج إِلَى جدال!!
      ولكن المسألة ليست قضية صلح بين فريقين اختلفا في الكلام وأصلح بكلام، بل المسألة دين واتباع،
      وهذا القول الثالث فيه من الابتداع في الدين ما الله تَعَالَى به عليم، عَلَى أي شيء بنى ابن كلاب هذا القول، وتبعه في ذلك الأشعرية، وما يزالون عَلَى ذلك إِلَى اليوم، بنى قوله عَلَى أن الكلام ليس هو الحروف والألفاظ والأصوات، إنما الكلام هو المعاني القائمة في النفس، والدليل أن الأخطل الشاعر النصراني يقول:
      إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما            جُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
      فَيَقُولُ: إذاً فالكلام حقيقته أنه في النفس، وأما الألفاظ فهي دليل أو تعبير عما في النفس، ولذلك فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ هو ما في نفسه بناءً عَلَى هذا القول!!
      ويقول: هذا الكلام الذي في النفس معنى واحد قائم بالذات، فالخبر والنهي والأمر كُلُّ هذه المعاني سواء، فإذا عُبِّرَ عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ عنه بالعبرية فهو التوراة، وهكذا، فليس له حروف ولا أصوات، وليس هذا المسموع أو المقروء هو كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأن المعاني القائمة بنفس الله لا يمكن لأحد أن يسمعها، ولا يمكن لأحد أن يقرأها ولا يحفظها، وما نسمع ونحفظ ليس كلام الله عَلَى مذهب الأشعرية الكلابية والعياذ بالله.
      واختلفوا بعد ذلك في هذه الألفاظ الموجودة، أو الكلام الموجود في المصحف من الذي عبَّر به أو من الذي حكاه.
      يقول الباقلاني كما في رسالته الموسومة بـالإنصاف أو "رسالة الحرة" كما تُسمى وقد علق عليها الكوثري يقول: "إما أن جبريل هو الذي عبر بهذه الحروف والأصوات أو أنه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انظروا إِلَى الباطل والابتداع إِلَى أي شيء يؤدي، فعلى هذا فما نقرؤه وما نتعبد به في صلاتنا ونتلوه من نظم جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سُبْحانَ اللَّه! وأين كلام الله؟ قالوا: كلام الله: هو المعاني القائمة بالنفس فقط ومن هنا قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه، وأوعده بسقر حيث قال تعالى: ((سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)) [المدثر:26]، فلما أوعد الله بسقر لمن قال ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)) [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر].

      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "إن الأشعرية في هذا الباب قد وافقوا الْمُشْرِكِينَ في نصف قولهم" فانظر كيف كانت عبارته دقيقة لم يقل: إنهم مثل الْمُشْرِكِينَ الذين يقولون: إن القُرْآن كلام بشر؛ بل يقول: إنهم وافقوا الْمُشْرِكِينَ في نصف قولهم، فالمعاني من الله، وأما الألفاظ فهي من كلام البشر من جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعجباً لـابن كُلاب يستدل بيت لشاعر نصراني في صفات الله، وأعجبُ مِنْ ذلك أنَّ البيتَ محرفٌ.
      وذلك أن الأخطل لم يَقُل إن الكلام لفي الفؤاد، وإنما قال إن البيان لفي الفؤاد، فالرواية المشهورة في نقل الرواة الثقاة عن الأخطل انه قال:
      إنَّ البيانَ لفي الفؤادِ وإنَّما            جُعلَ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً

      والأخطل شاعر نصراني لا نأخذ بكلامه في مسألة من أمر ديننا، أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأوضحها في كتابه، وبينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بياناً شافياً، واعتقدها الصحابة والتابعون ومن بعدهم، فلم يحوجنا الله عَزَّ وَجَلَّ في معرفة الحق إِلَى أن نلجأ إِلَى شاعر نصراني، ويجب أن نعلم أن من عقيدة النَّصَارَى الاعتقاد بأن كلام الله مخلوق، لا يُستغرب ذلك منهم؛ لأنهم يُؤلهون عيسى عَلَيْهِ السَّلام، ومنهم من يقول: مع أنه الكلمة فإنه مخلوق، ويفهمون كلمة عَلَى أنها صفة، فهذا لا يستغرب من النَّصَارَى، ولكن لم يحوجنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في مسألة العقيدة والدين إِلَى كلام أهل اللغة عامة، فضلاً عن كلام شاعر أو نصراني أو غير نصراني.
      فالحق إذاً أن نأخذ ديننا من الكتاب والسنة، وما كَانَ عليه السلف الصالح لا ما يقوله هَؤُلاءِ وأمثالهم.
      ثُمَّ إن الأدلة كثيرة جداً في إبطال قولهم: إن الكلام هو كلام النفس، وإثبات أن الكلام إنما هو الألفاظ أو الأصوات أو الحروف في حق أيُّ إنسان يُقال ذلك، ولهذا لا يأتي في القُرْآن ولا في السنة الكلام النفسي إلا مقيداً كما قال الله:.((وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ))[المجادلة:8] لو لم يقل الله تَعَالَى في أنفسهم، لفهمنا أنهم يصرحون بذلك لكن قوله: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ)) هنا مقيد بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل}.
      فلو أن إنساناً خطرت له شبهة شيطانية وحدث بها نفسه، فهل نجعله مثل من تكلم بها، ودعا إليها، وجاهر بها؟
      الجواب: ليس هذا مثل هذا عَلَى قول ابن كلاب إن الكلام هو ما في النفس، يكون هذا الإِنسَان قد دعا إِلَى هذه البدعة
      ، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة: {إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس إنما هي قرآن وذكر وتسبيح} فإذاً كَانَ حديث النفس كلاماً فكل مصلٍ يتحدث ويتكلم وعلى هذا فصلاة النَّاس باطلة، لأنه لا يخلو مخلوق إلا من عصمه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من أنه يحدِّث نفسه ولو في فريضة من الفرائض أو أكثر في العمر، فإذاً لو كَانَ كلام النفس هو الكلام الحقيقي، فعلى هذا القول فكل واحد صلاته باطلة، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتبر ما يدور في النفس كلاماً، ولم يُسم الشرع ولا العرف اللغوي ولا لسان العرب حديث النفس كلاماً.
      هذه بعض أدلة من أدلة كثيرة لا مجال للاستطراد فيها وقد يأتي بعضها بالتفصيل إن شاء الله في بيان بطلان مذهب الأشعرية الكلابية، وهو قولهم: إن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ هو المعاني، وأن حقيقة الكلام هو ما يقوم بالنفس، أو بالذات من المعاني، وأما الأصوات والحروف، فإنها مخلوقة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كغيرها من المخلوقات!!
    4. قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث

      أن كلام الله حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث، وهذا القول من الأقوال التي نشأت بسبب الضلال والاضطراب والجدل والمناقشات، فخاض بعض النَّاس بآراء لم يتبينوا أدلتها، ولم يعرفوا حقيقتها، فقالوا إذاً نقول كل كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قديم، فهو عبارة عن حروف وأصوات أزلية قديمة في الأزل، وهذا المذهب تبين بطلانه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمَّا نادى موسى وخاطبه كَلَّمَهُ بِكَلامٍ سمِعهُ موسى عَلَيْهِ السَّلام، ولما كَلَّمَ الملائكة عندما اعترضوا عَلَى خلق آدم كما قال تَعَالَى خالياً عنهم: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)) [البقرة:30] وجعلوا يسألون ويجيبهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهل هذا الكلام في الأزل الذي لا بداية له؟ وهل كُلُّ كَلامٍ تَكَلَّمَ به الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أو أوحى به إِلَى نوحٍ، ثُمَّ هودٍ، ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ صالح، ثُمَّ موسى، ثُمَّ عيسى، ثُمَّ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل كل هذا كلام قديم لا أول لوجوده، مجتمعة حروفه وأصواته في الأزل، أم أنها كلام يأتي بعد كلام؟ وفي القُرْآن ما يرد ذلك، ويدل عَلَى بطلانه بأنه ينزل كلام بعد كلام ويأتي به جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبلغاً ومؤدياً.
      فالقول هذا إذاً ليس بمذهب مشهور معروف، وإنَّما هو من ضمن الأقوال التي نشأت أثناء المعارك الجدلية والخلافية، ولم تُبنَ عَلَى أساس علمي صحيح سليم.
    5. قول الكرامية

      تقول الكرامية: إن القُرْآن حروف وأصوات، ولكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن مُتكلِّماً.
      إذاً قد يُقَالَ: ما الفرق بين مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وبين مذهب الكرامية؟
      الفرق أن الكرامية يقولون: إن الكلام كَانَ ممتنعاً عليه؛ أي: أنه لم يتكلم ولم يكن موصوفاً بكلام ولا بخلق ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا رزق، ثُمَّ تحولت من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي فحدثت له قدرة وإرادة وكلام، سُبْحانَ اللَّه! كيف تضل هذه العقول إذا انحرفت عن هدي الله عَزَّ وَجَلَّ فهذا الكلام الذي قالوه ما الدليل عليه: ((نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [الأنعام:143] ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[البقرة:111] من الذي قال لكم أن الله عَزَّ وَجَلَّ كَانَ كذا ثُمَّ صار كذا، هل يوجد دليل في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله أو في كلام أحد من الصحابة؟ لا يوجد أبداً إنما هذه أهواء وظنون وتخرصات.
      إذاً: فالفرق: أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يقولون إن الكلام كَانَ مستحيلاً عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ تكلم! وإنما يقولون -والعبارة دقيقة ولابد أن نحفظها ونفهمها- " إنَّ كلامَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قديمُ النوعِ حادثُ الآحاد أي: أن نوع الكلام قديم أو أزلي النوع، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل متكلماً متى شاء كيف شاء، ولكنه متجدد الآحاد أنزل التوراة، ثُمَّ أنزل الإنجيل، ثُمَّ أنزل القُرْآن وقولهم: "ولكن نوع الكلام أزلي لا أول له".
      أي: لم يكن الله عَزَّ وَجَلَّ في الأزل غير متكلم ثُمَّ ظهر وبدا له الكلام وتحول من الامتناع إِلَى الإمكان، كما تقول الكرامية.
      وقد سبق أن قلنا إن قولهم مندثر، فقد انقرضت هذه الفرقة ونسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن تندثر وتنقرض كل الضلالات، وأن يمحوها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ببرهان السنة والحق إنه سميع مجيب.
    6. قول ابن ملكا ويميل إليه الرازي في المطالب العلية

      يقول صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي إن كلام الله يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته.
      وابن ملكا هو صاحب كتاب المعتبر ويسمونه أبو البركات ابن ملكا كَانَ يهودياً ثُمَّ أسلم ويقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ إن كل إنسان من هَؤُلاءِ الفلاسفة يتأثر بالبيئة التي نشأ فيها فإن ابن رشد نشأ بين الأشعرية الكُلابية ومن هنا اشتد عليهم.
      فإذا قرأتم كتب ابن رشد تجدون أنه اشتد عَلَى الأشعرية جداً، وابن سينا نشأ في بيئة كلامية اعتزالية فاختلفت وجهته، وأما أبو البركات ابن ملكا صاحب المعتبر، فإنه نشأ في بغداد، وفي بغداد كانت قوة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أظهر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإمام أَحْمد بن حَنْبَل وأيده بالحق، ودحر المعتزلة والمبتدعة وقهرهم وأذلهم، فبقيت في بغداد قوة عظيمة لـأهل السنة إِلَى القرن التاسع الذين يسمونهم أحياناً الحنابلة، ويقولون في كتب التاريخ مثل الكامل لـ ابن الأثير -ومؤلفه متشيع.
      ولذلك يقول: فتنة الحنابلة- يسميها فتنة- ويقول: في سنة كذا هجم الحنابلة عَلَى بغداد أو عَلَى الشوارع، فضربوا القيان، وكسروا القنان والخمور وأراقوها، وكسروا آلات اللهو وفعلوا وفعلوا -يتكلم عليهم- فبقيت لهم قوةٌ وبَقي لهم وجود، وابن ملكا نشأته في بغداد جعلته أقرب المتفلسفة إلى الحق، فهو يثبت من الصفات كثيراً مما ينفيه ابن رشد وابن سينا، فكتاب ابن ملكا موجود مطبوع طباعة هندية ولكنه نادر، والقليل من يهتم بمثل هذه الأمور أو يقرؤها.
      وأما الرازي فقد يطول الحديث عنه، وهو من أكبر أئمة الأشعرية بل هو إمام المتأخرين؛ لأن الأشعرية الكلابية لهم ثلاثة أئمة أبو الحسن الأشعري وهو أول من أسس المذهب قبل أن يرجع إِلَى السنة، ثُمَّ أبو بكر الباقلاني وهو من تلاميذ تلاميذه، ثُمَّ الفخر الرازي.
      وأحياناً يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وغيره من العلماء: قال الفخر، وكذلك الذهبي في الميزان في حرف الفاء يقول مثلاً ترجمة الفخر، هذا الفخر هو فخر الدين الرازي.
      وأحياناً يقولون: هذا مذهب ابن الخطيب؟ وهو الفخر الرازي وهذه قد تخفى عَلَى البعض، فيقال هذا مذهب ابن الخطيب أو قال ابن الخطيب. فقد كَانَ أبوه خطيب الري فسمي ابنه ابن الخطيب، هذا مما ينبغي أن نعرفه عن الرازي.
      ويعتبر الفخر الرازي متمكناً في العقليات والجدليات، كما يلاحظ في كتابه التفسير الكبير، ولكنه كَانَ مرتكباً لأخطاء كبرى في الأصول التي بنى عليها مذهبه، ومن أخطر الأصول التي جَاءَ بها الرازي ونقلها واتبعها واتخذها قدوة وهدى وإماماً من بعده: القول بأنه إذا تعارض العقل والنقل فإننا نقدم العقل.
      ولهذا فإن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ حينما ألف كتابه الكبير العظيم المشهور درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول رد عَلَى هذا المبدأ، وعلى هذا القانون، وقد قال به قبل الرازي أناس، ولكن الرازي هو أكثر من أشهر وأظهر هذا القانون، وعليه بنى عضد الدين الإيجي كتابه المواقف، ثُمَّ بقي أصلاً من أصول القوم وهو من أخبث الأصول التي هدم بها الكتاب والسنة.
      وكتب الرازي كتاباً آخر هو أكبر وأقوى كتاب في الشبهات في نفي صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو كتاب أساس التقديس.
      وهو الذي نقضه شَيْخ الإِسْلامِ في كتابه نقض التأسيس، وهو الكتاب المعروف المطبوع وإن كَانَ المطبوع منه ما هو إلا جزء منه، وقد كَانَ الدكتور مُحَمَّد رشاد سالم رحمه الله تعالى وهو قد توفي منذ حوالي أسبوعين كما بلغنا يعمل في تحقيق هذا الكتاب، فيكون آخر ما حققه الدكتور مُحَمَّد رشاد سالم رَحِمَهُ اللَّهُ هو كتاب نقض التأسيس، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون قد أكمله ليخرج، لأن الموجود الآن ليس بكامل فشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ لما أراد أن يرد عَلَى شبهات منكري الصفات، رد ونقض أقوى كتاب جمعوه وألفوه كما يشهد لذلك ترجمة الرازي في كتاب طبقات الشافعية
      لـابن السبكي، حيث جعله أعظم الأئمة وأثنى عليه بمدح عظيم.