المادة    
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[فالملوك الجائرة يعترضون عَلَى الشريعة بالسياسيات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها عَلَى حكم الله ورسوله، وأحبار السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك، والرهبان وهم جهال المتصوفة، المعترضون عَلَى حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه عَلَى لسان نبيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس.
فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة!
وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل!
وقال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف] إهـ.

هذا الذي جَاءَ به المُصنِّفُ هنا ليبين لنا أصل الاعتراضات عَلَى الدين، ونحن نتكلم في مبحث وجوب التسليم لأمر الله وحكمه، ويأتي الاعتراض عَلَى دين الله، وشرعه، من ثلاثة مناهج وثلاثة طرق، وهذه الثلاثة هي أصل وأساس جميع الاعتراضات عَلَى دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
  1. سن القوانين ، ونشأتها

    الاعتراض الأول: منازعة أصحاب القوانين وأصحاب السياسات، وهَؤُلاءِ هم الذين بين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حالهم في القُرْآن الكريم في مواضع منها قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)) [النساء:60] وقوله: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] وآيات سورة المائدة حينما تكلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحدث عن اليهود وكيف أنهم تركوا حكم الله في التوراة، وتركوا إقامة التوراة والإنجيل.
    ثُمَّ ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بعد ذلك حكم من لم يحكم بما أنزل الله فَقَالَ تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[المائدة:45] ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:47] فالاعتراض الأول: هو التحكيم أو التحاكم إِلَى غير دين الله، والرجوع إِلَى مصدر غير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الوحي.

    وقلنا: إن هذا الانحراف وقع في حياة الأمة الإسلامية بالتدريج، وكان أول ما ظهر، أنه عندما عجز بعض الفقهاء وبعض القضاة عن الاجتهاد عن الحكم في مسائل، أولم يحال إليهم الحكم بمسائل معينة من المنازعات والخصومات التي تقع بين الناس، أو أساءوا فهم بعض أمور الشرع والدين العامة فكانت النتيجة، أن ظن النَّاس أن الدين ناقص وعاجز عن الحكم في هذه الأمور.
    ومن أمثلة ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الطرق الحُكمية في البينة: فمن الأصول القطعية المقررة شرعاً، أنه لا حكم إلا ببينه، والبينة عَلَى المدعي، هذا أمر مقرر وقاعدة قطعية، لكن بعض الفقهاء فهموا أن البينة هي الشاهدان، فحصروا البينة في هذا، والمنازعات ووقائع الحياة تتعدد وتتوسع وتقع قضايا كثيرة جداً لا يمكن أن تثبت عن طريق الشاهدين مع قيام الدليل والحجة عَلَى أن الجاني فلان -مثلاً- لكن القاضي والفقيه لا يحكم بشيء إلا بوجود شاهدين! فأدى ذلك إِلَى أن يأتي الأمراء حتى لا يتركوا النَّاس بلا أحكام.
    فَقَالُوا: إذاً نَحْنُ نحكم في هذه المسائل من عندنا، فأصبحت تسمى سياسة.
    يقولون: هل قُتل فلان شرعاً؟
    قالوا: لا لأننا لم نجد شاهدين، لكن قتل سياسة لأن الأمير رأى أنه يقتل؛ لأن البراهين قد قامت عَلَى أنه هو الجاني.
    ويضرب ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- مثالاً عَلَى البينة فَيَقُولُ: لو أن إنساناً عَلَى رأسه عمامة، وفي يده عمامة وهو يجري، ووراءه إنسان ليس عَلَى رأسه عمامة وهو يصيح قائلاً: هذا أخذ عمامتي، يقول: فهنا البينة موجودة، فلا نحتاج أن نأتي بشاهدين عَلَى أن هذا سرق العمامة، لأن هذا بلا عمامة ويجري وراء إنسان هارب بيده عمامة، وأي إنسان يرى هذا المنظر يعلم أن هذا الإِنسَان سارق أو مختلس لكن بعض الفقهاء يقولون: لا بد من شاهدين.
    ومثال آخر:
    إنسان كتب وثيقة أن لفلان عندي ألف ريال وخط فلان هذا معروف، قالوا: لا ينفع هذا الخط فلا بد من شاهدين، فمن أين يأتي بشاهدين؟!
    فلما حصلت هذه الأخطاء عند بعض القضاة، اضطر الأمراء حينئذ إِلَى أن يقولوا: لا؛ بل نحكم بموجب الكتابة، ونحكم بموجب القرائن، ونحكم بموجب وقائع مساعدة وغلبة الظن وأمثال ذلك، فخرجوا قليلاً قليلاً وبدأ الانفصال فأصبح هناك شرع وهو ما يحكم به القضاة، وهناك سياسة وهي ما يحكم به الأمراء، وهذه وإن لم تكن مخالفة للشرع بل هي داخلة ضمن عموميات الشرع.

    لكن الأمر اتسع حتى ظهر الياسق الذي سبق أن تكلمنا عنه وقلنا: إنه كتاب كتبه التتار عَلَى ألواح من الفولاذ، وهو كتاب جنكيز خان وقد شرَّع فيه أحكام القتل والدماء وأمر أن يتوارثها أبناؤه، وتوارثها أمراؤه إِلَى أن جَاءَ هولاكو الذي دمر بغداد ودخل بلاد الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ دخل هَؤُلاءِ في الإسلام، وكان معهم هذا الكتاب يطبقونه عَلَى أنفسهم في الأمور العسكرية، وفي الأمور السياسية، وتركوا قضاة الْمُسْلِمِينَ يحكمون في الأمور الشرعية، فأدى ذلك إِلَى أن يقوم علماء الإسلام، ويبينوا حكم من تحاكم إِلَى غير دين الله، ومن تحاكم إِلَى هذا القانون المسمى بـالياسق.
    فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فتواه بتكفيره، وتكفير من تحاكم إِلَى هذا الكتاب، وأن التتار يجب أن يقاتلوا قتال ردة وكفر؛ لأنهم يتحاكمون إليه ولا يتحاكمون إِلَى دين الله، وأقبل عَلَى هذه الفتوى كثير من العلماء في ذلك الزمان، فكانت هذه أول واقعة في تاريخ الأمة الإسلامية أن يوجد قانون مكتوب يعارض به شرع الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثُمَّ ما لبث أن اضمحل وانتهى.

    وعلى المستوى العالمي فيوجد هناك قوانين مكتوبة من قديم، وهنا ننبه إِلَى قضية مهمة، وهي أن البعض يقول: إن الصينيين القدماء، والأشوريين، والفينقيين والفراعنة، ودولة معين وسبأ في اليمن.. إلى آخر ذلك كَانَ يوجد عندهم قوانين مكتوبة، وهذا دليل كما يقولون: عَلَى تطور التشريع، وبداية التشريع عند الإِنسَان وقد سبق أن قلنا: إن هذا الكلام باطل، وإن هذه القوانين المكتوبة، إما أن تكون من بقايا شرائع الأنبياء، فإن هذه الأمم بعث الله تَعَالَى فيها أنبياء، وأنزل عليهم الكتاب ليحكم بين النَّاس فيما اختلفوا فيه، فكل أمة من الأمم لها دينها ولها كتابها وشرعها الذي لا يجوز أن تتحاكم إِلَى غيره، فإما أن تكون من بقايا شرائع الأنبياء، وإما أن يكونوا أحدثوا شرائع من عند أنفسهم معاندة وإعراضاً عن شرائع الأَنْبِيَاء.
    وفي أوروبا ظهرت قوانين نابليون التي كتبت بشكل واضح مكتوب مخالفة لما كانت عليه أوروبا من التحاكم إِلَى رجال الدين أي: إِلَى النصرانية وشريعة التوراة، وكان هذا في بداية القرن التاسع عشر أي ألف وثمانمائة وأربعة، وقانون نابليون قانون مشهور إِلَى اليوم إذ هو من أكبر القوانين، وهو أيضاً مستمد في بعض جوانبه من القوانين الرومانية القديمة، التي لما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الرومان يتحاكمون إليها، لكنها كانت بدائية بالنسبة للقوانين الحديثة التي افتتحت بقانون نابليون.
    المقصود: أن هذا القانون نقل إِلَى الأمة الإسلامية، وأول ما نقل إِلَى مصر، فعرض الخديوي القانون عَلَى بعض العلماء فأقروه.
    إذاً.. فالطريقة الأولى من الاعتراض هو القانون.
  2. علماء السوء

    علماء السوء هم الباب الثاني من أبواب الفساد، فـالخديوي لما جاء بالقانون عرضه على بعض علماء السوء، فَقَالُوا: كل ما في هذا القانون من مواد لا تخرج عن المذاهب الأربعة، ولابد أن توافق أحد المذاهب الأربعة ولو بوجه من الوجوه، ولو برأي أو قول ضعيف في مذهب أَحْمَد أو الشَّافِعِيّ أو مالك أو أبي حنيفة، فلا مانع من أن يقرَّ في بلاد الْمُسْلِمِينَ، فأقر هذا القانون بناءً عَلَى ذلك، فاتفق أصحاب السياسة، وعلماء السوء عَلَى إقرار هذا القانون وإدخاله إِلَى بلاد الْمُسْلِمِينَ.
    والدولة العثمانية أدخلت النظم الغربية شيئاً فشيئاً، وكان أول ما أدخل قانون القناصل ومحاكم القناصل، فقد كانت لـأوروبا قناصل في العالم الإسلامي، وكان القناصل يحكمون بين رعاياهم فقط، ولكن أحكامهم وقوانينهم توسعت حتى أصبحت تحكم بين الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ جَاءَ السلطان سليمان، وكان من أكبر وأعظم السلاطين في الحرب والقوة العسكرية، لكنه أتى من باب الجهل بالدين، ومن باب أيضاً سكوت علماء السوء، فأدخل القوانين، ولهذا سماه الغربيون، سليمان القانوني، وأدخلها باسم "تنظيمات" تحاشياً من أن يُقال قانون، فيُقَالُ: القوانين كفر، أو القوانين لا تجوز، فسموها تنظيمات، وجعلوها أنظمة، نظام التجارة، حتى نظام العقوبات الجنائية، بدَّل فيه كثيراً من الأحكام عن غير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    ثُمَّ استمر الوضع شيئاًَ فشيئاً حتى جَاءَ الأوروبيون الصليبيون الجدد -الذين يسمون المستعمرين- واحتلوا العالم الإسلامي وفرضوا القوانين بالقوة وألغوا الشريعة الإسلامية، ابتداءً من الهند، التي كانت تحكم بالشريعة الإسلامية، وكان ملوك المغول هم حكام الهند لكن كما سبق في البيت الأول، "وقد يورث الذل إدمانها" عندما أذنب الْمُسْلِمُونَ في الهند وأقاموا الأضرحة الكبيرة، وانحرفوا عن دين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعظموا الأولياء والموتى، وتركوا العقيدة الصحيحة، وتركوا الأكثرية تعبد البقر وهم يحكمونهم بشريعة الإسلام سُبْحانَ اللَّه!!.
    أين أنتم تحكمون أمةً تعبد البقر وتعبد الأصنام، ولم تتحركوا لإدخالهم في الإسلام وقد حكمتم البلاد ثمانمائة سنة؟! فلما جَاءَ الاستعمار وقضى عَلَى المغول، ألغيت معها الشريعة الإسلامية نهائياً.
    وكذلك دخل الاستعمار في بقية البلاد إلا من رحم الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مثل وسط الجزيرة واليمن وأفغانستان وخراسان، وفي بعض الأطراف نسبة تقل أو تكثر، لكن الاستعمار حرص عَلَى أن يقضي عَلَى الشريعة الإسلامية قضاء باتاً، إلا البقية القليلة التي تسمى الأحوال الشخصية، لأن الأقطاب والمارون والدروز كل منهم له أحوال شخصية خاصة فَقَالُوا: نجعل للمسلمين أحوالهم الشخصية ليس إقراراً للدين، لكن من باب أن هذه أمور خاصة جداً، وقد أُقرت جميع الملل عليها فليكن من ضمنها هَؤُلاءِ الْمُسْلِمُونَ، فهكذا أصبح الأمر، في ديار الإسلام، وأصبح التحاكم فيها إِلَى الطاغوت لا إِلَى ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

    المدخل الثاني من مداخل الفساد هو مدخل الأحبار، والمقصود بالأحبار علماء السوء في جميع الملل، وفي هذا إشارة إِلَى ما يقع من ضعف وفساد في الدين سببه علماء السوء في جميع الملل والأعصار، أما أهل الكتاب: فها أنتم تقرءون في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ الكثير مما صنعوا، ومما أفسدوا في دينهم ودين أتباعهم، فأهل الكتاب كانوا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض، وكانوا يخرجون أبنائهم وأتباعهم ويقاتلونهم ويظاهرون عَلَى إخراجهم، وإذا جاءوهم أسارى يفادونهم كما ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذلك ولهذا قَالَ: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)) [البقرة:85] الآية فكان علماء السوء يبدلون ويحتالون عَلَى دين الله كما في قصة القرية التي كانت حاضرة البحر كما قال الله تَعَالَى :((وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ)) [الأعراف:163] فماذا فعلوا؟ وكيف المخرج؟
    جَاءَ علماء السوء المفتون، وَقَالُوا: الأمر بسيط! ألقو الشِبَاك يوم الجمعة ولا تصطادوا يوم السبت ثُمَّ خذوها يوم الأحد.
    تموت البقر فاحتالوا وَقَالُوا: اجمعوا الشحم وبيعوه عَلَى أنه زيت، فنحن لم نأكل التي حرم الله أكلها وإنما بعنا الزيت.
    فاليهود هم أهل الحيل، ولذلك يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الفوائد: كل من آثر الدنيا عَلَى الآخرة فلا بد أن يقول في دين الله وشرعه بغير علم، وأن ينحرف عما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لأن الدين جَاءَ عَلَى خلاف حظوظ النَّاس وأهوائهم، وهَؤُلاءِ يقدمون الحظ الفاني، ويقدمون الدنيا ويؤثرونها عَلَى الآخرة، فلا بد أن يقولوا عَلَى الله بغير علم تحايلاً للوصول إِلَى ما يريدون وإلى ما يشتهون فيحتالون، ومن هنا قلدهم في هذه الأمة من قلد، وليس المذمومون يهود فقط، ولذلك عندما قُرأ عند حذيفة -رضي الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه- قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44] قال رجل ممن كَانَ عند حذيفة: هذه لليهود فانتبه حذيفة-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- إِلَى قضية خطيرة يقع فيها كثير من الْمُسْلِمِينَ وهي أننا نحيل دائماً العيوب والأخطاء إِلَى علماء اليهود والنَّصَارَى وننسى أننا قد نقع في نفس الشيء قال حذيفة رضي الله تَعَالَى عنه: [[نعم أبناء عم لكم اليهود، ما كَانَ من حلوة فهو لكم، وما كَانَ من مرة فهو لهم]] إذا قرأنا في القُرْآن ثناءً ومدحاً قلنا: هذا لنا لأمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا قرأنا فيه ذماً وعيباً قلنا: هذا لليهود والله تَعَالَى قَالَ: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)) [المائدة:78، 79].
    فإذا قيل لهم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قالوا: هذه نزلت في اليهود، فكأن الذي لا يقيم التوراة والإنجيل يكفر ويعاقب، والذي لا يقيم القُرْآن يكون مؤمناً ويكرم ويعزز! لا، القُرْآن أعظم فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)) [المائدة:48] الآية. فالتمسك بالكتاب المهيمن يكون أقوى وعقوبة الانحراف عنه أغلظ وأشد.

    وقد وقع في هذه الأمة من يسمون أهل الرأي، أو أهل القياس وهَؤُلاءِ قد شابهوا بعض المشابهة لأحبار اليهود والنَّصَارَى فإنهم ألفوا كتباً تسمى كتب الحيل، فيحتال مثلاً عَلَى عدة المطلقة، أو عَلَى أي نوع من أنواع الربا، أو عَلَى إرجاع المطلقة بتحليلٍ مثلاً، فأفسد علماء السوء في هذه الأمة أيضاً دين الْمُسْلِمِينَ كما أفسد أحبار اليهود دينهم، وانتشر البلاء وعم، ولهذا تجد أن كتب الرجال تنتقدهم مثل كتاب المجروحين لـابن حبان -رَحِمَهُ اللَّهُ- فقد كَانَ ضد أهل الرأي، وهو في ذلك تبع للإمام البُخَارِيّ والإمام أَحْمَد -رحمهما الله- فكان إذا ذكر رجلاً من أهل الرأي يقول فيه ما يستحق من الذم، وهو من أكثر من جمع أصحاب الرأي وما اعترضوا به عَلَى دين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهم مجرد أصحاب قياس ونظر، لكن اعترضوا عَلَى النصوص فردوها بحجة أنها تخالف القياس، فبدأ الانحراف بتعظيم القياس والرأي والهوى مقابل العمل بالسنة.
    ويذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في حياة الإمام أَحْمَد أنه كَانَ يدرس في بغداد عَلَى عامة النَّاس كتابين: كتاب الإيمان وكتاب الأشربة يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: كَانَ يفعل ذلك لأن أصحاب الرأي -وهم الفقهاء- كَانَ لهم انتشاراً في بغداد، فكان يدرس كتاب الأشربة ليبين خطأهم في أحكام النبيذ، وكتاب الإيمان لأنهم كانوا مرجئةً في الإيمان، فكان الأئمة يعالجون الواقع ويحاولون أن يصلحوا الناس.
    ثُمَّ يقول المصنف: [إن أحبار السوء هم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرمه الله ورسوله وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك] فهذا مما يفسد الدين والواجب عَلَى المسلم أن يذعن لأمر الله، وأن ينقاد له، وأن يقول كما قال أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمعنا وأطعنا، فالأحاديث التي نقرأها اليوم ونتجادل فيها سمعها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه وما اختلفوا فيها، كانوا يسمعون ويمتثلون فلذلك كَانَ خلافهم قليلاً.
    فالله تَعَالَى أنزل إلينا شريعة سمحة فطرية تتعامل مع الإِنسَان في كل زمان، ومكان، في كل بيئة ببساطة، ووضوح ويسر، وهكذا يجب أن ننظر دائماً إِلَى هذا الدين، وإلى هذه الشريعة، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه أنزلها إلينا.
    إذاً: فالذين يلغون ما اعتبره الشارع، أو يعتبرون ما ألغاه، أو يقيدون ما أطلقه، أو يطلقون ما قيده، هَؤُلاءِ من جنس النوع الثاني من أنواع الفساد وهو فساد الأحبار.
  3. جهلة العباد

    الطريق الثالث: العباد الذين يعبدون الله عَلَى جهل فقد أفسدوا الدين، كما أن العلماء الذين يفتون بالضلال أفسدوا الدين، وكذلك الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله أفسدوا الدين، وفساد الرهبان هو عن طريق: الأذواق والمواجيد، والكشوفات، والرؤى والأحلام، فعارضوا شرع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأمثال هذه الأمور.
    ومعلوم قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وجاء تائباً فَدُل عَلَى رجل عابد فذهب إِلَى أحد عباد السوء، وعباد الجهل، فقَالَ: إنني قد قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟
    قَالَ: لا أجد لك توبة.
    فقَالَ: ما دام أنه لا توبة لي فسوف أكمل بك المائة، فأكمل به المائة.
    فلما ذهب إِلَى العالم البصير بالحق أفتاه بالحق، وقال له: إن التوبة لا تحجب، ولكن اذهب إِلَى أرض كذا، فإنها أرض خير، فذهب
    وكان ما قص رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من توبته وقبول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لها.

    فهَؤُلاءِ العباد الجهلة يفسدون الدين بظاهر أحوالهم ويتعبدون بغير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإذا قلت له: هذا الذكر لم يشرع أو لم يرد لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف فإنه يقول لك: نعم، ولكنا كوشفنا به إما في المنام كما هو عند البعض، أو بمخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، بل بعضهم يقول بمخاطبة الله جل جلاله له سماعاً.
    ولهذا يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [والرهبان هم جهال المتصوفة المعترضون عَلَى حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال الدين الذي شرعه عَلَى لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس].

    عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مثلاً تجزم بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زاد عَلَى إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره، لكن لنفرض أن أحداً زاد وعمل ببعض الأدلة العامة، لكن لم يكن في السلف من يقوم الليل كله، أو يصوم النهار كله، ويصبح في العذاب الذي فعله هَؤُلاءِ العباد، وقد كَانَ السلف الصالح أخشع النَّاس قلوباً، ولن يخشع أحد من سماع القُرْآن أكثر من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومع ذلك فلم يعهد عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا آية سقط أحدهم مغشياً عليه أو يموت، وإنما الذي روي من ذلك حالات قليلة لا تتناسب مع كثرة الصحابة وقوة إيمانهم.
    فلما ظهر الجيل الثاني والثالث: بدأ نوع من الضعف والنقص، فوجد من إذا سمع آية يغمى عليه أو قد يموت، وهو معذور عَلَى أية حال، وهذا من حسن الخاتمة - إن شاء الله- كما وقع لـزرارة بن أوفى -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فإنه لما سمع قول الله تعالى: ((فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)) [المدثر:8] سقط وهو في الصلاة ومات فهذا من قوة الإيمان ومن حسن الخاتمة له -إن شاء الله-، لكن جَاءَ أناس فجعلوا مقياس التأثر من سماع القُرْآن هو أن يقع الإِنسَان وأن يغمى عليه، حتى أنهم أخذوا يفضلون بعض أئمة التصوف الذين كَانَ يغمى عليهم من الذكر، عَلَى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبادة، فيقولون: أُولَئِكَ اشتغلوا بالجهاد واشتغلوا بكذا ولم يتفرغوا للعبادة، لكن هَؤُلاءِ الشيوخ تفرغوا للعبادة فكانوا إذا سمعوا الآية أو الحديث أو ذكروا الموت أو الآخرة يغمى عَلَى أحدهم وقد يموت، فيتوهم العامة أن هَؤُلاءِ أفضل من أولئك؛ لأن العوام لا يوجد عندهم إدراك لحقائق الأمور، فتبدأ هذه الأمور تدريجياً عند النَّاس فيتغير معيار العبودية الصحيح، ويتحول إِلَى أمور لم تشرع وليست هي الأساس وإنما يقع الانحراف قليلاً قليلاً.
    حتى إن بعض جهلة الصوفية فضل سماع القصائد والأشعار التي توقف القلب وتأتي بالذوق الإيماني -كما يقول- عَلَى سماع القُرْآن من سبعة أوجه، فذكر منها أنه يلين القلب، وأنه يحرك الساكن، وأنه يتكلم عن فناء الدنيا، والقرآن فيه الحديث عن الأحكام والحلال والحرام، أما الشعر فكله في الوجد، وكله في المحبوب، وهذا يجعله ذاكراً الله والآخرة، فهكذا يقع الفساد الكبير عندما يترك الإِنسَان الكتاب والسنة ويأخذ عن الزهاد والضُلال والعباد ويعارض به ما جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ينظرون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف عبد الله؟ وكيف قام وصلى؟ وكيف أفطر وصام؟ وكيف زكى؟ وكيف كَانَ توكله وأصحابه صلوات الله عليهم أجمعين؟
    بل إن الصوفية قد تجرأت حتى عَلَى الصحابة الكرام فمن ذلك أنه لما جاءت الغنيمة من البحرين وكثر الصحابة وامتلأ المسجد فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كثرتهم، وقَالَ: لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم بالمال من البحرين ، فجاءوا من الأطراف يريدون العطاء والحاجة إِلَى المال، الحاجة إِلَى الإنفاق عَلَى العيال حاجة فطرية صحيحة ليس فيها اعتراض عَلَى دين الله، لكن هَؤُلاءِ الصوفية قالوا: هذا ليس توكلاً، التوكل أن تسير في البرية والخلاء بلا زاد، هذا أعلى درجة.
    والدرجة الثانية: أن يجلس في المسجد أو أي مكان آخر ولا يتعرض لأسباب الكسب، لهذا لما قيل للإمام أَحْمَد أو غيره، قيل: إن فلاناً عنده توكل، ويجلس في المسجد قَالَ: إنما توكل عَلَى المتصدقين، ولم يتوكل عَلَى الله، فهو يعلم أن المصلين سيأتون ويتصدقون بمال أو طعام، إذاً أين التوكل؟ فأفسدوا معنى التوكل وحقيقته، وكذلك أفسدوا معنى الصبر وأفسدوا معنى الرضا بالقضاء والقدر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول: إلا ما يرضي ربنا عَزَّ وَجَلَّ} هكذا علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبر وعلمنا الرضا بالقضاء.
    أما هَؤُلاءِ العباد الضلال الجهال فأحدهم مات له ابن فما رُئي أحد أكثر منه في ذلك اليوم تطيباً قَالَ: حتى أثبت أني راضٍ، فهل أمر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذا مات ابنك أن تفعل هذا؟
    وكذلك التواضع، فقد أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يتواضع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأقل الناس، ويسمع أحوالهم، ويرى أمورهم، هذا التواضع الذي علمنا إياه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرنا به، لكن هم كيف تواضعهم؟
    قال أحدهم لأحد المشائخ: جئنا نتعلم منك التواضع؟
    قال له: خذ مخلاه -الذي توضع عَلَى الدواب- وضعها عَلَى عنقك واملأها بالجوز واحلق لحيتك وانزل إِلَى السوق وقل للناس: كل من لكمني لكمة أعطيته جوزه، فإذا لطموك كلهم وانتهى الجوز فإنك ترجع وقد تعلمت الخشوع والتواضع.
    ومن طوامهم أيضاً أنهم قالوا: القتلى نوعان:
    قتيل العدو، وقتيل الحبيب.
    قتيل العدو هو: المسلم الذي جاهد الكفار فقتلوه.
    وقتيل الحبيب هو: الذي قتله الحب، يذكر الله ويبكي بهذه المحبة الهائلة الهائمة ويموت في حالة الفناء.
    ويقولون: شتان ما بين قتيل الحبيب وقتيل العدو!
    يقولون: هذا هو الفرق، إذاً: لا جهاد للأعداء، ولا قتال للكفار.
    وهناك أمثلة كثيرة جداً تطول لو أردنا أن نستعرضها كلها، وهذه نماذج لما أفسد به الرهبان الصوفية في الأمة، فتكون النتيجة كما قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى- عن هَؤُلاءِ الثلاثة: [فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة، وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وقال أصحاب الذوق -الصوفية-: إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والكشف]،هذه الثلاثة: هي أصل الضلالات في الاعتراض عَلَى دين الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وعلى شرعه.