الطريق الثالث: العباد الذين يعبدون الله عَلَى جهل فقد أفسدوا الدين، كما أن العلماء الذين يفتون بالضلال أفسدوا الدين، وكذلك الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله أفسدوا الدين، وفساد الرهبان هو عن طريق: الأذواق والمواجيد، والكشوفات، والرؤى والأحلام، فعارضوا شرع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأمثال هذه الأمور.
ومعلوم قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وجاء تائباً فَدُل عَلَى رجل عابد فذهب إِلَى أحد عباد السوء، وعباد الجهل، فقَالَ: إنني قد قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟
قَالَ: لا أجد لك توبة.
فقَالَ: ما دام أنه لا توبة لي فسوف أكمل بك المائة، فأكمل به المائة.
فلما ذهب إِلَى العالم البصير بالحق أفتاه بالحق، وقال له: إن التوبة لا تحجب، ولكن اذهب إِلَى أرض كذا، فإنها أرض خير، فذهب وكان ما قص رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من توبته وقبول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لها.
فهَؤُلاءِ العباد الجهلة يفسدون الدين بظاهر أحوالهم ويتعبدون بغير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإذا قلت له: هذا الذكر لم يشرع أو لم يرد لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف فإنه يقول لك: نعم، ولكنا كوشفنا به إما في المنام كما هو عند البعض، أو بمخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، بل بعضهم يقول بمخاطبة الله جل جلاله له سماعاً.
ولهذا يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [والرهبان هم جهال المتصوفة المعترضون عَلَى حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال الدين الذي شرعه عَلَى لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس].
عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مثلاً تجزم بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زاد عَلَى إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره، لكن لنفرض أن أحداً زاد وعمل ببعض الأدلة العامة، لكن لم يكن في
السلف من يقوم الليل كله، أو يصوم النهار كله، ويصبح في العذاب الذي فعله هَؤُلاءِ العباد، وقد كَانَ
السلف الصالح أخشع النَّاس قلوباً، ولن يخشع أحد من سماع القُرْآن أكثر من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومع ذلك فلم يعهد عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا آية سقط أحدهم مغشياً عليه أو يموت، وإنما الذي روي من ذلك حالات قليلة لا تتناسب مع كثرة الصحابة وقوة إيمانهم.
فلما ظهر الجيل الثاني والثالث: بدأ نوع من الضعف والنقص، فوجد من إذا سمع آية يغمى عليه أو قد يموت، وهو معذور عَلَى أية حال، وهذا من حسن الخاتمة - إن شاء الله- كما وقع لـ
زرارة بن أوفى -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فإنه لما سمع قول الله تعالى:
((فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)) [المدثر:8] سقط وهو في الصلاة ومات فهذا من قوة الإيمان ومن حسن الخاتمة له -إن شاء الله-، لكن جَاءَ أناس فجعلوا مقياس التأثر من سماع القُرْآن هو أن يقع الإِنسَان وأن يغمى عليه، حتى أنهم أخذوا يفضلون بعض أئمة التصوف الذين كَانَ يغمى عليهم من الذكر، عَلَى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبادة، فيقولون: أُولَئِكَ اشتغلوا بالجهاد واشتغلوا بكذا ولم يتفرغوا للعبادة، لكن هَؤُلاءِ الشيوخ تفرغوا للعبادة فكانوا إذا سمعوا الآية أو الحديث أو ذكروا الموت أو الآخرة يغمى عَلَى أحدهم وقد يموت، فيتوهم العامة أن هَؤُلاءِ أفضل من أولئك؛ لأن العوام لا يوجد عندهم إدراك لحقائق الأمور، فتبدأ هذه الأمور تدريجياً عند النَّاس فيتغير معيار العبودية الصحيح، ويتحول إِلَى أمور لم تشرع وليست هي الأساس وإنما يقع الانحراف قليلاً قليلاً.
حتى إن بعض جهلة الصوفية فضل سماع القصائد والأشعار التي توقف القلب وتأتي بالذوق الإيماني -كما يقول- عَلَى سماع القُرْآن من سبعة أوجه، فذكر منها أنه يلين القلب، وأنه يحرك الساكن، وأنه يتكلم عن فناء الدنيا، والقرآن فيه الحديث عن الأحكام والحلال والحرام، أما الشعر فكله في الوجد، وكله في المحبوب، وهذا يجعله ذاكراً الله والآخرة، فهكذا يقع الفساد الكبير عندما يترك الإِنسَان الكتاب والسنة ويأخذ عن الزهاد والضُلال والعباد ويعارض به ما جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ينظرون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف عبد الله؟ وكيف قام وصلى؟ وكيف أفطر وصام؟ وكيف زكى؟ وكيف كَانَ توكله وأصحابه صلوات الله عليهم أجمعين؟
بل إن
الصوفية قد تجرأت حتى عَلَى الصحابة الكرام فمن ذلك أنه
لما جاءت الغنيمة من البحرين وكثر الصحابة وامتلأ المسجد فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كثرتهم، وقَالَ: لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم بالمال من البحرين ، فجاءوا من الأطراف يريدون العطاء والحاجة إِلَى المال، الحاجة إِلَى الإنفاق عَلَى العيال حاجة فطرية صحيحة ليس فيها اعتراض عَلَى دين الله، لكن هَؤُلاءِ
الصوفية قالوا: هذا ليس توكلاً، التوكل أن تسير في البرية والخلاء بلا زاد، هذا أعلى درجة.
والدرجة الثانية: أن يجلس في المسجد أو أي مكان آخر ولا يتعرض لأسباب الكسب، لهذا لما قيل للإمام
أَحْمَد أو غيره، قيل: إن فلاناً عنده توكل، ويجلس في المسجد قَالَ: إنما توكل عَلَى المتصدقين، ولم يتوكل عَلَى الله، فهو يعلم أن المصلين سيأتون ويتصدقون بمال أو طعام، إذاً أين التوكل؟ فأفسدوا معنى التوكل وحقيقته، وكذلك أفسدوا معنى الصبر وأفسدوا معنى الرضا بالقضاء والقدر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
{إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول: إلا ما يرضي ربنا عَزَّ وَجَلَّ} هكذا علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبر وعلمنا الرضا بالقضاء.
أما هَؤُلاءِ العباد الضلال الجهال فأحدهم مات له ابن فما رُئي أحد أكثر منه في ذلك اليوم تطيباً قَالَ: حتى أثبت أني راضٍ، فهل أمر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذا مات ابنك أن تفعل هذا؟
وكذلك التواضع، فقد أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يتواضع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأقل الناس، ويسمع أحوالهم، ويرى أمورهم، هذا التواضع الذي علمنا إياه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرنا به، لكن هم كيف تواضعهم؟
قال أحدهم لأحد المشائخ: جئنا نتعلم منك التواضع؟
قال له: خذ مخلاه -الذي توضع عَلَى الدواب- وضعها عَلَى عنقك واملأها بالجوز واحلق لحيتك وانزل إِلَى السوق وقل للناس: كل من لكمني لكمة أعطيته جوزه، فإذا لطموك كلهم وانتهى الجوز فإنك ترجع وقد تعلمت الخشوع والتواضع.
ومن طوامهم أيضاً أنهم قالوا: القتلى نوعان:
قتيل العدو، وقتيل الحبيب.
قتيل العدو هو: المسلم الذي جاهد الكفار فقتلوه.
وقتيل الحبيب هو: الذي قتله الحب، يذكر الله ويبكي بهذه المحبة الهائلة الهائمة ويموت في حالة الفناء.
ويقولون: شتان ما بين قتيل الحبيب وقتيل العدو!
يقولون: هذا هو الفرق، إذاً: لا جهاد للأعداء، ولا قتال للكفار.
وهناك أمثلة كثيرة جداً تطول لو أردنا أن نستعرضها كلها، وهذه نماذج لما أفسد به الرهبان الصوفية في الأمة، فتكون النتيجة كما قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى- عن هَؤُلاءِ الثلاثة: [فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة، وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وقال أصحاب الذوق -الصوفية-: إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والكشف]،هذه الثلاثة: هي أصل الضلالات في الاعتراض عَلَى دين الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وعلى شرعه.