المادة    
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[ولا شك أن من لم يسلم للرَسُول نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، أو يقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جَاءَ به الرسول، فإنه قد اتخذه في ذلك إلهاً غير الله، قال تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))[الجاثـية: 23] أي: عبد ما تهواه نفسه، وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قَالَ: عبد الله بن المبارك -رحمة الله عليه:
رأيت الذنوب تميتُ القلوب            وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب            وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك            وأحبارُ سوءٍ ورهبانها
] إهـ.

الشرح:
يقول الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد] يشرح المُصنِّفُ هذه العبارة ويبين كيف يؤثر هذا العمل في توحيد صاحبه.
فَيَقُولُ: [ولا شك أن من لم يسلم للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقص توحيده فإنه يقول: برأيه وهواه، ويقلد ذا رأي وهوى] فلو فرضنا أن هناك أمراً من أمور الغيب، فالإِنسَان إما أن يتبع فيه الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتحقق توحيد المتابعة، وإما أن يعارض كلامه بهوى ورأي، أو يكون المعرض تابعاً لقول أو هوى إنسان آخر، وعليه فمن عارض خبر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأي نوع من أنواع المعارضة فإنه ينقص من توحيده، وبقدر خروجه عما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهو في هذه الحالة قد اتخذ من أطاع واتبع إلهاً، وهذا هو معنى قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه)) فهو الذي لا يعمل ولا يقدم ولا يؤخر، ولا يستسلم إلا لما يأمر به الهوى، وداعي الشهوة،
ثُمَّ يقول: [إنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق...].
أتى بهذا الكلام من خلال أبيات الإمام المجاهد الثقة الحجة عبد الله بن المبارك -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو من هو في فضله وعبادته وجهاده!! وهو من أئمة الإسلام العظام، ويكفيه إمامةً وفضلاً أن يكون الإمام أَحْمَد- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يعظمه ويجله، ويثني عليه، ويستشهد بأقواله ويذكرها، ويذكر الإمام أَحْمَد أقواله معجباً بها ومثنياً عليها.
ومن عظمة شعر السلف الصالح، أنه أبيات معدودة، وكلمات محدودة، لكن ورائها المعاني والعبر والعظات يقول:
رأيت الذنوب تميت القلوب            وقد يورث الذل إدمانها
وهذا البيت تحقيق لما جَاءَ في الآيات، وفي الأحاديث كقوله تعالى:((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [المطففين:14] الآية.
وقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء}.
  1. الذنوب تميت القلوب

    يقول الإمام: عبد الله بن المبارك:
    رأيت الذنوب تميتُ القلوب
    وهذا حق: فإن القلب بعد أن يكون كالسراج المنير المضيء بتقوى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تأتي الذنوب عليه فتمرضه في أول الأمر، فإذا ازداد توارد الذنوب عَلَى القلب زادته مرضاً حتى يموت، فإذا مات القلب بهذه الذنوب فقل عَلَى صاحبه العفاء، فيصبح بعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فهذه هي العبرة التي يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل مسلم، أن الذنوب تميت القلوب، وقوله:
    وقد يورث الذل إدمانها
    "قد" هنا تفيد التحقيق، أي: أن الذنوب لا بد أن تورث الذل، وتكون سبباً في موت القلب.
  2. أبى الله إلا أن يذل من عصاه

    هذه حقيقة عبر عنها الحسن البصري -رحمه الله تعالى- فقَالَ: " أبى الله إلا أن يذل من عصاه" كل من عصى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو كَانَ في وسط صخرة صماء، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يظهر لعباده المؤمنين، ولأوليائه الصالحين، من الذل في وجهه ما يعلمون به أنه عاص لله، وكل من أطاع الله، واتقاه ولو كَانَ أيضاً في صخرة صماء، لا أحد يراه ولا يعلمه، يظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأوليائه ولعباده الصالحين في وجهه وفي حياته من العزة، والهيبة، والوقار، ما يشعر به كل من رآه ومن عرفه من هَؤُلاءِ الصالحين.
    ومن أدمن الذنوب واستسهلها، أصبح حاله كحال المنافق الذي أخبر عنه ابن مسعود رضي الله عنه "أنه يرى الذنب كذباب وقع عَلَى أنفه فَقَالَ به كذا" فهذا يموت قلبه، ويبلد إحساسه، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، ثُمَّ يضرب عليه الذل.