المادة    
من أعظم أمور العقيدة، ومن أعظم الأصول التي يجب عَلَى كل مسلم أن يدركها وأن يعيها بقدر ما يفتح الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليه، وهي أن الإِنسَان كليل العقل، محدود الإدراك، لا يستطيع أن يعلم كل شيء، ولا أن يحيط بكل ما جَاءَ في الكتاب أو السنة من أمور الغيب، وأن هذا الدين مبناه عَلَى الاستسلام لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والإذعان والانقياد للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم الاعتراض عليه بالعقول، أو الأهواء أو الآراء والأقيسة، أو الأذواق، أو المواجيد، أو الكشوف، أو بأي نوع من أنواع الاعتراض.
وقد ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: توحيدين لا نجاة للعبد إلا بها:
الأول: توحيد المرسل: أي توحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعبادته وطاعته.
والثاني: توحيد متابعة الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما أننا لا نعبد إلا الله، فكذلك لا نتبع اتباعاً مطلقاً بلا اعتراض إلا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأصل تدل عليه الآيات والأحاديث الكثيرة جداً، كما قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه))[النساء:64].
  1. حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

    كما قال جل شأنه: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] الآية.
    وبهذا نعرف حقيقة محبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه المحبة التي هي من أصول الإيمان، فلو أن بشراً كائناً من كَانَ وقع في قلبه مثقال ذرة من كره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ من الْمُسْلِمِينَ أبداً، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يجتمع في قلب العبد كراهيةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيمان بالله وبرسوله، وبما جَاءَ من عنده، فهو ليس بمسلم عَلَى الإطلاق.
  2. من لوازم محبة الله محبة النبي صلى الله عليه وسلم

    ومن هنا نعرف حقيقة محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل من لازم محبة الله محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31] فالاتباع أصل عظيم من أصول الدين، وهو قاعدة الإسلام التي يقوم عليها؛ بل هو حقيقته ولبه، فلا يكون الإِنسَان مسلماً أبداً إلا إذا اتبع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً، فإن حصل من العبد انقيادٌ واستسلامٌ ظاهري لِمَا جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع خلو باطنه من ذلك.
    فهَؤُلاءِ هم المنافقون الذين كرهوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرهوا ما أنزل إليه، ولذلك خرجوا من الملة كلهم أو أكثرهم بسبب ذلك.
    وأما الطرف الآخر: وهو من يزعم أن محبة الله، ومحبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلبه، ولكن أعماله تكذب ذلك، ولا ينقاد ولا يستسلم لأوامر الله، ولا يطبق سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يعارض ماجاء عنه بأي نوع من أنواع المعارضات، فإن هذا كاذب في دعواه، ونستدل عَلَى ذلك بما قاله بعض السلف: لما قرأ قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) قَالَ: هذه آية الامتحان، ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية الامتحان ليمتحنهم، وليبين من يحبه حقيقة ومن لا يحبه، وما يدعيه بعض النَّاس من محبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن واقع حالهم مخالف لما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: إننا مع مخالفة السنة نتعرض للّوم، ولهذا يقال لهم: الملامية أو الملامتية، ويستدلون بقول الشاعر كعادتهم في هذا الشأن:
    أجد الملامة في هواك لذيذة             حباً لذكرك فليلمن اللوم
    ويغلون فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنواع الغلو، ويستجلبون اللوم بذلك ويقولون: لا تكون المحبة إلا باللوم فنقول لهم: إن المحبة الحقيقية لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مدعاة للوم وليس في ذلك شك، فمن اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جهاده ودعا إِلَى الله ليلاً ونهاراَ وسراً وعلانية، في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
    فإن هذا بلاشك يخالف أهل الرغبات، وأهل الشهوات، فيدعو النَّاس إِلَى لومه -وهذا شيء طبيعي- وهذه هي المحبة الحقيقية: أن يطبق الإِنسَان السنة، وليس التعرض للوم هو المقصود بل المراد بهذا أن نفهم حقيقة محبة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فيها:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)) [المائدة:54] فأول صفة: يحبهم ويحبونه.
  3. من كان عاملاً بالسنة فقد تعرض للوم والأذى

    ولما ذكر الله الآية السابقة قال في الأخير: ((وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) معنى ذلك: أن المحبة الحقيقية لله لا بد أن يتبعها لوم اللائم، ولو طبقت السنة في نفسك فقط لوجدت اللوم والأذى مع أنك لم تدع أحداً! فكيف إذا دعوت إِلَى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كما أمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وهذا مما ينبغي أن ينبه إليه وهو: أن أهل الانحراف والزيغ يريدون منك أن تكف عن دعوتهم، فيقولون لك إن كنت تدعوهم: لم يقل لك أحد لاتصل! بل صلِّ، واعفُ لحيتك، وقصر ثوبك.
    فهم يريدون في هذه المرحلة، أن يكتفي الإِنسَان بإصلاح نفسه ويترك غيره، فإذا فعل الإِنسَان السنة وانهزم عن دعوتهم لا يقتنعون بهذا، بل يأتون إليه، ويقولون له: لماذا تفعل هذا الشيء فتعرض نفسك للنقد، ولشتيمة النَّاس ولكذا وكذا؟ ولا يرضون لك حتى تصبح مثلهم، وهذا هو شأن المنافقين وأتباعهم، فإن النَّاس في النفاق درجات كما قال الله تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)) [النساء:89] فهذا هو حالهم وشأنهم.