المادة    
وقد بين النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواجب في مثل هذا الشأن فقَالَ: {إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضاً} فالواجب علينا عمله هو في قوله: {فما عرفتم منه فاعملوا به} وقد عرفنا الآيات في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتحريم الربا وفي تحريم التبرج، في كل ما جَاءَ من الآيات الواضحة الجلية التي نعرفها إما بلغة العرب كما يقرأ القُرْآن ويفهمه العرب، وإما بتعليم أهل العلم لنا {فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه}.
  1. الواجب عدم الخوض فيما لا تدركه العقول ، وما لا فائدة منه

    أما ما جهلناه من كتاب الله فلا نماري ولا نجادل ولا نخوض فيه بعقولنا الكليلة العاجزة؛ لنبحث في حقائقه ومعانيه وغيبياته التي لن تدركها عقولنا، وقد خاض النَّاس في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أمور وفي مسائل قد لا يحتاجون إليها عَلَى الإطلاق وتركوا ما هو أولى وأجدى {فما عرفتم منه فاعملوا به}.
    فأولاً: أن نبدأ بما عرفنا فنعمل به، ونترك ما تركه الله تَعَالَى وأخفاه عنا من أمور ليس فيها مصلحة وإنما يشير إليها إشارة، كبعض القصص القرآنية، ثُمَّ تأتي كتب التفسير فتضخم هذه القصة وتذكر فيها الآثار الإسرائيلية وتفصيلات ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل عليها. فالقرآن أنزل للعبرة والاتعاظ فإذا قرأ الإِنسَان القصة عرفها وأخذ العبرة منها.
    لكن يأتي أُولَئِكَ النَّاس الذين يتكلفون ويخوضون فيما لا علم لهم به، فيضيعون الأعمار عَلَى أنفسهم وعلى النَّاس فيما لا فائدة منه، مثل: معرفة فرعون؟!
    واسم أخي يوسف الأكبر والأصغر؟
    ومقدار الدراهم التي بيع بها يوسف؟
    وسد ذي القرنين أين يوجد في الشرق أو الغرب؟
    ومتى عاش قبل موسى أم بعده؟
    أمور متكلفة والفائدة التي منها لا تتجاوز بأي حال من الأحوال تصحيحاً لمعرفة من المعارف التي قيمتها لا تتقدم عَلَى معرفة الأمور الجلية، التي تنقص كثيراً ممن خاضوا في هذه الأمور؛ مثل أمور التوحيد، والفرائض التي فرضها الله وأمثالها، فهذا أيضاً من الخطأ في منهج دراسة القُرْآن الكريم وفي أخذه وتلقيه، فيجد الإِنسَان من الأقوال العظيمة والخلافات الكثيرة، في مسائل لو أغفلت وأغلقت تماماً ما نقص شيء، ولسنا بحاجة إِلَى بحثها أصلاً.
    ولهذا يجب أن نمتثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه} ولا حاجة إِلَى إضاعة الأعمار وإلى الجدل في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دون نتيجة.
  2. الجدال والمراء مدعاة إلى القول على الله بغير علم

    لهذا عقب المُصنِّف بقوله: [ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم] ولما كَانَ الجدال والمراء والخوض والتكلف فيما لا تدركه العقول؛ موصلاً إِلَى الافتراء عَلَى الله والقول عليه بغير علم، عقب المُصنِّف ببيان ذلك فقَالَ: ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))[الأعراف:33] وكثير من النَّاس يجتنبون الفواحش الظاهرة مثل (الزنى -السرقة- شرب الخمر) لكن يغفلون عن الفواحش الباطنة.
    وبعض المفسرين يقول: المقصود من هذه الآية ما أُعلن به وما استخفي به، لكن الذي يظهر ويترجح في معنى "ماظهر": يعني الأعمال الظاهرة، وما "بطن" يعني: الأعمال الباطنة ومن الفواحش الباطنة الأعمال القلبية التي نهى الله عنها.
    فالله قد نهى عن الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النَّار الحطب وهو عمل باطني في القلب، فقد لا يزني الإِنسَان ولا يسرق ولا يشرب الخمر؛ لكنه يحسد ويحقد عَلَى أخيه المسلم، ولا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه بل يتمنى له الضرر؛ بل قد يكون أكبر من ذلك وهو أن يكون في قلبه شك فيما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يكون فيه مرض من أمراض النفاق، أو أن تكون فيه نكتة من نكت المعاصي والذنوب فهذه من الفواحش الباطنة ((وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) [الأعراف:33] وفي هذه الآية كلما أتى معطوف جديد، فإنه يأتي أكبر من المعطوف الذي قبله ((وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)) [الأعراف:33] فالشرك أعظم من الإثُمَّ وأعظم من البغي بغير الحق، والإثُمَّ والبغي من أجمع الأسماء الدالة عَلَى المعاصي وعلى الموبقات وأسباب الهلاك، والبر: اسم جامع لكل خير، والإثم: اسم جامع لكل شر.
    كذلك البغي ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90] فهذه الآية من أشمل الآيات التي تبين أصول ما يفعل ويستحب، وأصول ما يجتنب وينتهي عنه، قال تعالى: ((وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)) [الأعراف:33] هذا هو الذنب الأعظم من الآثام.
  3. بيان عظم خطر القول على الله بغير علم

    وأكبر مما سبق وأعظم ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 169]هذا الذنب أعظم من الشرك وهو من الشرك ومن الكفر، لكن الكفر بعضه أكبر من بعض، وفي الكفر زيادات كما قال تعالى: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا))[التوبة:37] فالقول عَلَى الله بغير علم أعظم جرماً وبهتاناً من مجرد شرك وهما مقترنان، أي: الافتراء واتباع غير ما أنزل الله تعالى، كما في قصة موسى عَلَيْهِ السَّلام لما قال للسحرة ((وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ)) [طـه:61] فالسحرة لم يقولوا: إن الله أحل السحر لنا أو أحل لنا عبادة فرعون، لكن كل من شرع سنة أو طريقة، وقَالَ: إنها هي الحق أو هي الصواب ويعلم مخالفتها لدين الله، فإنه قد افترى عَلَى الله الكذب؛ لأنه لا يملك أن يقول للناس: هذا هدىً وهذا ضلال إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا جَاءَ أحد وقَالَ: هذا هو الهدى وهذا هو الضلال، فكأنه ينسب ذلك إِلَى الله، أو يجعل نفسه مكان الله تعالى، ويتلبس بصفات الألوهية فمن هنا كَانَ افتراءً عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ أن يدُعو إِلَى غير الحق ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 169] الشاهد هنا هو: في النهي عن الجدال بغير الحق، وفي ضرورة اتباع ما أنزل الله تَعَالَى ورد مالم تعلمه العقول وما لم تدركه الافهام إِلَى الله تعالى، كما ثبت ذلك عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل ما سُئل الصديق ((وَفَاكِهَةً وَأَبّاً)) [عبس:31] قيل: ما الأبّ؟ قَالَ: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم، مع أن هذا من كلام العرب، ولا أثر في اعتقاد صاحبه إن قيل الأبّ هو ما تأكل الأنعام، أو ما تأكل الدواب، أو هو الأخضر، أو هو الحشيش كل ذلك لا يؤثر في إيمان قائله أو معتقده.
    فكيف بمن يخوض في معاني أسماء الله وصفاته؟! وفي القدر وفي أمر أعظم من هذا الأب وأمثاله، ويقولون: هذا هو الحق، وهذا هو الذي جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ويقول تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36] وكثير من النَّاس ينسى هذه الآية فيقف ما ليس له به علم، والله تَعَالَى لما نهانا عن ذلك ختم الآية بالمسؤولية عن هذه الأعضاء التي هي منافذ العلم والإحساس، فلا تسمع ولا تبصر ولا تفكر إلا فيما أراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفيما رضي وشرع، وأما فيما سوى ذلك فرد الأمر إِلَى عالمه؛ هو الطريق الأسلم والأجدى.
  4. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

    العلم البشري محدود، لذا جَاءَ في آخر سورة الإسراء: ((وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)) [الإسراء:85] فهل يستطيع علماء التشريح والطب والنفس وما إِلَى ذلك أن يجيبوا ما هي الروح؟ فضلاً عن النَّاس في القرون الماضية؟
    لم ولن يستطيعوا أبدا((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً))[الإسراء:85] وفي قصة الخضر وموسى عليهما السلام المعروفة بعد أن انتهيا وبين له الخضر لماذا فعل هذه الأمور؛ جَاءَ طائر فنقر في البحر بمنقاره فأخذ قطرة من الماء، فَقَالَ الخضر لموسى أرأيت ذلك الطائر ما عندي وعندك من العلم في جانب علم الله إلا مثلما أخذ ذلك الطائر من ذلك البحر.
    هذا وهو الخضر الذي قال الله عنه ((وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)) [الكهف: 65] وهو الذي أعلمه الله وأطلعه أنّ خرق هذه السفينة أولى وأجدى لأصحابها وأن هذا الغلام لو كبر سيكون كذا وكذا فليقتل وأن تحت هذا الجدار كنز، وأنه لغلامين يتيمين وأنهما سيكبران ثُمَّ يأخذانه، أمور غيبية عجيبة لا يستطيع الإِنسَان أن يعرفها ولا يصل إليها عَلَى الإطلاق، وكل ما عنده من العلم مما أعطاه الله من علمه لا يتجاوز ما أخذ ذلك الطائر الصغير من هذا البحر العظيم الكبير، حتى تقف العقول البشرية أمام القُرْآن والسنة ذليلة عاجزة خاضعة، ويستسلم الإِنسَان بقلبه وعقله وجوارحه لربه تَعَالَى.
  5. الموقف الشرعي من أقوال الرجال

    فكل ما جاءه عن الله ورسوله فليقابله بالتسليم والانقياد والإذعان، وهذا هو منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام الذين هم أعلم وأذكى وأفهم الناس، فيجب أن يكون حال من بعدهم هو أكثر انقياداً وإذعاناً للنصوص.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه فيصدق بأنه حق وصدق وما سواه من كلام سائر النَّاس يعرضه عليه].
    يقول: إذا جاءك الكلام من النَّاس الآخرين، ابتداءً من صحابة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم أفضل النَّاس ثُمَّ العلماء ثُمَّ من بعدهم إِلَى أن نصل إِلَى أهل البدع والضلال، كل من جاءنا بقول نعرضه عَلَى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل مردود لا يؤخذ به.

    [وإن لم يُعلم] أي جاءك قول لا تدري أهو موافق للكتاب والسنة أو مخالف؟
    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه يكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه] قد يكون السبب أن هذا الكلام مجملاً، مثل: كلمة الجهة كلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، ونفي الجسم كلام مجمل قد يحتمل الحق وقد يحتمل الباطل، وغير ذلك في باب الصفات وغيره، ففي هذا الكلام المجمل ينظر في مراد صاحبه هل يريد جانب الحق أو الجانب الآخر.
    كما كَانَ يدلس بعض المعتزلة ويقول: فلان ليس بمؤمن، فما ذا يقصد بها؟
    إن قصد بها أنه مسلم لكنه عاصٍ فاسق فاجر فهو محق، وإن قصد أنه ليس بمسلم بل كافر خارج عن الملة لمجرد أنه أذنب ذنباً من الذنوب، عرفنا أن هذا من أباطيل الخوارج ومن شايعهم، فالكلام المجمل إن لم نعرف مراد صاحبه فإنه يتوقف فيه ويمسك عنه، ونقول: إن احتمل كذا كَانَ كذا، وإن احتمل كذا كَانَ كذا، وإن عرفنا مراده ولم يكن الكلام مجملاً بل كَانَ كلامه واضحاً، لكن لا ندري هل هذا الكلام مما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
    وهل يدل عليه دليل من الكتاب والسنة؟ أم لا؟
    وهل هو حق أم باطل؟
    وهذا الأمر صعب ولا يعرف ذلك إلا العلماء وبعد البحث والتنقيب أحياناً.
    فالخلاصة أنه إذا عرفنا مراد المتكلم ولم نعرف هل الرَّسُول جَاءَ بتصديقه أو بتكذيبه، فإن الإِنسَان يمسك عنه ويتركه ولا يتكلم فيه إلا بعلم وهذا كثير، فقد تأتي أخبار أو نظريات علمية، فلا ندري أفي كتاب الله ما يوافقها أو يخالفها؟! فالموقف من هذه الإمساك عنها، وعدم إشاعتها بين الناس، وعدم الخوض فيها وألا نجهد أنفسنا، ولا نجهد النَّاس في معرفتها وفي الاستدلال لها أو عليها، فضلاً عن أن نتفرق، فهذا ينفي وهذا يعارض وهذا يؤيد، وما أكثر ما يحدث وخاصة في أمثال هذه الأمور في هذا الزمان.