المادة كاملة    
بيّن هذا الدرس أن مسألة الكلام من أعظم مسائل الدين، وأن حولها دار الخلاف المستطير، وأن قضية القول بخلق القرآن فتحت باباً عظيماً للاختلاف. ثم تعرض لمنبع القول بهذه المقالة، ووقف عدة وقفات مع مروان بن محمد والأرنؤوط، وخلفاء بني أمية، ومن خلال عرضه لذلك بيَّن نشأة هذه البدعة، ومتى دخلت على الأمة الإسلامية، ومن هنا كان لا بد من عرض موقف الإمام أحمد من هذه الفتنة الدهماء؛ حيث كان مثالاً ونبراساً للعالم الرباني المتمسك بالسنة، المتفاني من أجل دين الله.
  1. مسألة صفة الكلام لله من أعظم المسائل

     المرفق    
    إثبات صفة الكلام من المواضيع الخطيرة الجليلة، فقد حدث فيها من الافتراق بين الأمة ما لم يحدث في أي موضوع آخر من موضوعات العقيدة، فقد كَانَ أكثر موضوعات العقيدة خلافاً هو موضوع الإيمان، وأكثر المجالات التي تصارعت فيها الفرق واختلفت فيها الآراء منذ أن ظهرت الخوارج إِلَى القرن الثاني.
    فلما ظهر القول بخلق القُرْآن وإنكار كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أصبحت قضية الكلام هي أخطر وأكبر قضية اختلف فيها الناس، وتجادلت فيها الفرق، وتنوزعت فيها الآراء.
    1. هل عرف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته التفلسف

      لم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه يعرفون التفلسف والتمنطق والابتداع، وإنما كانوا يؤمنون بما أنزل الله ويتبعون ما جَاءَ من عند الله ويعلمون أن ربهم -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أجلَّ وأعظم من أن يكون صنماً لا يتكلم، كيف والهدى إنما نزل إليهم بكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
      وكيف ذلك وهم إنما يحرصون عَلَى القرآن؛ لأنه كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ))[التوبة:6] وكيف ذلك والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول في حق اليهود: ((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ))[الأعراف:148] فالرب والإله المعبود الذي لا يتكلم ولا يهدي، يسمى جماداً وصنماً، فلا يستحق أن يعبد: كالأحجار التي يعبدها الكفار، والأشجار والنيران والأبقار وبقية الأوثان التي يعبدونها من دون الله لا تكلمهم ولا تهديهم سبيلاً.

      هكذا كَانَ العجل الذي عبده بنو إسرائيل فجاء أحفاد عبدة العجل ليعلِّموا الْمُسْلِمِينَ أن ربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يُكلمهم ولا يهديهم سبيلاً: أما الكلام فقد أنكروه، وأما الهداية، فَقَالُوا: إن العقول تستقل بمعرفة الحق، والبراهين العقلية قائمة.
      وما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافقاً للبراهين العقلية قبلوه، وما جَاءَ مخالفاً لها ردوه فجعلوا لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى صفات العجل: ((لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) [الأعراف:148] وهذا ظلم منهم وشرك لاتخاذهم إلهاً غير الله، والدليل عَلَى كذبهم في ذلك وإفكهم وأنهم مُشْرِكُونَ، حال هذا الإله الذي عبدوه وهو أنه ((لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) [الأعراف:148].
    2. أول من عرف عنه بدعة القول بخلق القرآن

      ومنذ أن ظهر القول بخلق القرآن، اُمِتَحنت الأمة من أجلها امتحاناً عظيماً، وأَحدثَتْ من الانشقاق والاختلاف بين الْمُسْلِمِينَ ما لا يُرأب صدعه إِلَى قيام الساعة، ولا يزال الخلاف إِلَى الآن قائماً، وسيظل إلا أن يرجع أهل البدع والضلال إِلَى كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      إن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لهم بإحسان، من القرون المفضلة المشهود لها بالخيريه عَلَى لسان نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث قال: {خير النَّاس قرني ثُمَّ الذين يلونهم ثُمَّ الذين يلونهم} لم تعرف عندهم هذه البدعة، ولم يقل بها أحد من السلف الصالح قط.
      وأول من أثرت عنه وعرفت عنه من المبتدعة رجل شاذ لا قيمة له في العلم، ولا في الفقه، ولا معرفة له بما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يُقال له: الجعد بن درهم كَانَ في أواخر عصر الدولة الأموية، وكان مؤدباً لـمروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وعندما انتهى حكمه سنة مائة واثنين وثلاثين هجرية وقامت الدولة العباسية، هرب إِلَى مصر، ثُمَّ قبض عليه وقتل هناك وكان يُلقب بـمروان الحمار؛ لأنه واجه في عصره شدائد، فقد ثارت عليه البلاد من كل ناحية، واستولى العباسيون وغيرهم عَلَى أجزاء من الدولة، وكان يحارب ويجاهد ويكافح من أجل بقاء الخلافة، فلقبه المؤرخون بالحمار لكثرة تحمله وشدة جلده.
    3. الحمار أستاذه الجعد بن درهم

      لقد كَانَ مؤدب ومعلم مروان: هو الجعد بن درهم ولهذا لا نستغرب أن تسقط دولة مروان؛ لأن من كَانَ المبتدعة أساتذته وهم الذين يربونه؛ لم تكن عاقبته إلا الخسارة.
      ولذلك يقال لـمروان: مروان الجعدي، لأنه اشتهر به لكثرة ملازمته وتربيته له، والجعد بن درهم لما أن أظهر بدعة القول بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يتكلم، ولم يكلم موسى عَلَيْهِ السَّلام ولا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكلم أحداً مطلقاً وأنكر أيضاً أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُ أو يُحَبُ، وأنكر أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اتخذ إبراهيم، ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خليلين.
    4. سند القول بخلق القرآن وفائدة في الأخبار المشهورة

      لقد أخذ الجعد بن درهم مسأله القول بخلق القُرْآن عن بيان بن سمعان أحد المبتدعة، وهو أخذها عن طالوت اليهودي وطالوت أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولبيد أخذها عن أحد اليهود بـاليمن، وليس من المهم معرفة أول من قال بها، ولا يشترط لمثل هذه القضية أن يكون لها إسناد صحيح؛ لأن أهل البدع لا يقبل حديثهم، ولا كلامهم، ولو نظرنا بالنظرة الحديثية وبالنقد الحديثي لم نقبل حديث الجعد ولا بيان ولا طالوت ولا لبيد فكلهم غير مقبولين عندنا في الحديث.
      لكن مثل هذه الأخبار إذا نقلها علماء الإسلام وأظهروها، فإننا نأخذها لشهرتها كأي خبر تاريخي يشتهر فيؤخذ ما لم يوجد دليل عَلَى نفيه، وما لم يوجد دليل عَلَى ضده، وسند هذا الكلام ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وذكره قبلهم كثير ممن كتب في العقيدة عَلَى منهج السلف، ورووا ذلك بالأسانيد، وممن ذكر ذلك بالسند الخطيب البغدادي وأمثال هَؤُلاءِ العلماء الذين يذكرونها بالسند.
    5. وقفة مع كلام الشيخ الأرنؤوط على هذا الاسناد

      إذا أتى آت كالشيخ الأرنؤوط جزاه الله خيراً وقَالَ: إن هذا السند لم يذكره ابن كثير لا يعول عليه؛ لأن الحافظ الذهبي ترجم للجعد بن درهم في سير أعلام النبلاء (5/ 433)، وذكر فيه أن إسناده في إنكار الصفات يرجع إِلَى اليهود بمثل ما ذكرنا.
      وذكر الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً أن خالد بن عبد الله القسري أحد ولاة بني أمية قتل الجعد بن درهم وضحى به في يوم الأضحى، عندما كَانَ النَّاس مجتمعين لصلاة العيد، فقام فيهم قائلاً: أيها النَّاس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـالجعدِ بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلمَّ موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، ثُمَّ نزل من عَلَى المنبر فذبحه.

      قال الشيخ الأرنؤوط: إن هذا السند غير ثابت، ولم يصلنا إسناد صحيح، وبناءاً عليه، فإن الرجل ربما قتل لأن القضية كانت سياسية، وليس من أجل العقيدة والابتداع، ويقول: إنه لم يعرف عن ولاة بني أمية أنهم كانوا يقتلون الرجل لأجل العقيدة، وإنما يقتلونه لأجل مخالفته لهم في السياسة والحكم.
      قلتُ: وهذا الكلام احتمال لا دليل عليه وما دام أن الشيخ لم يأتينا بما يثبت أنه كَانَ بين الجعد بن درهم وبين خالد أو بين بني أمية قضية سياسية قتلوه من أجلها فيظل هذا مجرد احتمال، والاحتمالات لا نعمل بها مع ورود الخبر الذي نقله المؤرخون، مثل ابن عساكر والخطيب البغدادي في كتبهم، لا سيما وقد ذكر المؤرخون فيما بعد أنه قتل لهذا السبب وأن خالد بن عبد الله قَالَ: الكلام السابق، وعلى ذلك فإننا لا نستطيع رد هذا الكلام إلا بدليل، وليس هناك ثُمَّ دليل عَلَى أن السبب كَانَ قضية سياسية
    6. وقفات مع خلفاء بني أمية

      وأما القول بأن خلفاء بني أمية لم يكونوا يقتلون أحداً من أجل عقيدته، فهذا غير صحيح، فإن الدولة الأموية كانت بعد عصر الراشدين وقامت هذه الدولة مع وجود عدد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عبد الملك بن مروان -على سبيل المثال- صنواً ونظيراً لسيد التابعين سعيد بن المسيب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، طلبا العلم معاً، وطلبا الحديث والفقه، وكان له ما كَانَ لـسعيد من المكانة العلمية، لكنه انصرف في آخر أمره إِلَى الدولة وانشغل بتدبيرها، ثُمَّ كَانَ الوليد بن عبد الملك من بعده حريصاً عَلَى العلم وعلى الجهاد والدعوة، فالقصد أنه وجد في خلفاء بني أمية الكثير من أهل الفضل والتقوى والصلاح.
    7. لا يطعن في معاوية إلا زنديق

      وإن من خلفاء بني أمية معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وهو صحابي جليل لا يطعن فيه إلا زنديق، وابنه يزيد بن معاوية كَانَ قائد الجيش الذي فتح القسطنطينية وقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
      {أول جيش من أمتي يغزو القسطنطينية مغفور له}.
    8. الخلفاء الإثنى عشر وعمر بن عبد العزيز

      وكذلك في بني أمية عمر بن عبد العزيز، ولا يستطيع أي مؤرخ أو عالم بالرجال أن ينكر فضله وحسن سيرته التي كانت مشابهة لسيرة جده عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وكان فيهم من الرجال الذين كانوا عزاً للإسلام ويشهد لذلك الحديث الصحيح المتفق عليه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا يزال هذا الدين عزيزاً ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش} والتفسير الأوجه والأولى والأصح أن يقَالَ: إن الإثنى عشر خليفة هَؤُلاءِ قد مروا، وهم الخلفاء الذين سبقوا، فمنهم الخلفاء الراشدون الأربعة ثُمَّ الذين من بعدهم من بني أمية قطعاً؛ لأن الفتوحات في عهد بني أمية توسعت، وعز الإسلام عزاً عظيماً لم يبلغه في أية مرحلة من المراحل، وكان الدين عزيزاً أيضاً مع وحدة الكلمة، والْمُسْلِمُونَ كلهم جميعاً منضوون تحت لواء خلافة واحدة.
      بخلاف الحال في بني العباس فقد تفككت الخلافة في عهدهم.
    9. فتوحات قتيبه بن مسلم

      أقسم قتيبة بن مسلم قائد جيوش الوليد بن عبد الملك في المشرق لما ولي القيادة أنه ليطأنَّ أرض الصين، وتوغل في بلاد ما وراء النهر إِلَى أن وصل إِلَى تركستان التي هي الآن خاضعة للصين فأرسل ملك الصين إليه وزراءه ووفده، وقالوا له: لا تدخل إِلَى أرضنا ونحن نرضيك بما تشاء وندفع لك من الجزية ما تشاء، فَقَالَ لهم: أقسمت أن أطأ أرض الصين قالوا: نَحْنُ نعطيك تحله اليمين، فذهب وفد ملك الصين وأخذوا تراباً من تراب الصين وحملوه وجاءوا به إِلَى قتيبة، فوطأه بقدمه ووقف عليه، وأخذ منهم الجزية وهم صاغرون، إذاً فهذا عز عظيم للإسلام.
      وفي المغرب كَانَ موسى بن نصير وطارق بن زياد يريدان أن يفتحا الأندلس، ومنها ينطلقان فيفتحا جنوب أوروبا، ثُمَّ تكن حركة التفاف كبرى إِلَى أن يصلوا القسطنطينية التي هي اليوم اسطنبول، وذلك عن طريق اقتحام أوروبا من الخلف حتى يصلوا إلى القسطنطينية، ويلتقوا مع الجيش الذي جَاءَ من الشرق فيفتحوا هذه المدينة التي كَانَ فتحها نصراً وعزاً للإسلام، وكان الْمُسْلِمُونَ يتلهفون لفتحها دائماً فبلغ الإسلام قوة عظمى في عهد بني أمية وبهذا ينطبق عَلَى خلفائهم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{لا يزال هذا الدين عزيزاً ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش}

      ثُمَّ نقول: إن القول بأن بني أمية لا يقتلون الرجل من أجل العقيدة ليس بصحيح، فهذا الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم قتل من أجل عقيدته وبدعته، حتى أن سلم بن أحوز الذي كَانَ والي الشرطة في خراسان لما قبض عَلَى الجهم وجيء به قَالَ له الجهم: اصفح عني، واعف، فَقَالَ سلم بن أحوز: والله يا جهم لا أقتلك لأنك ذو شأن عندي، ولكنني منذ أن سمعت بدعتك أقسمت بالله أنني لن أفلتك من القتل أبداً متى ما ظفرت بك، وكذلك قتل الجعد من أجل بدعته كما سبق، وهذا الموقف الذي وقفه خالد بن عبد الله أو سلم بن أحوز وأمثاله من ولاة بني أمية في محاربة أهل البدع هو الذي يجب أن يكون عليه الْمُسْلِمُونَ دائماً، وهذا موقف محمود مشكور لولاة بني أمية، فلا يليق بنا بعد ذلك أن نحاول أن نطعن فيهم أو أن نقول: إن العمل هذا لم يكن لوجه الله، أولم يكن لأجل العقيدة، فالواجب عَلَى كل من وُليّ أمر الْمُسْلِمِينَ، ورأى من يفسد الدين بالعقيدة الفاسدة، أن يعاقبه بذلك، وهذه قاعدة متفق عليها بين العلماء، ويدل عليها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة} فالمفارق للجماعة لبدعة من البدع التي تخل بالدين وتهدمه يجب قتله؛ لأن في ذلك مصلحة وراحة وإقامة للدين.
    10. مكانة قتال المرتدين من قتال الفرس والروم

      قتال المرتدين أهم من قتال الروم والفرس، فقد أجمع الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- عَلَى قتال الخوارج؛ لأنهم أهل بدع، وقتال أهل البدع أصل معروف مشهور عند علماء الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً.
      ولا ينبغي لنا أن نخرج هذه الأعمال التي قام بها ولاة بني أمية عن هذا المجال، بل يشكرون عَلَى ذلك، وإن كانت لهم أخطاء أو عيوب، فإن المرء المسلم له حسنات وله سيئات والله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هو الذي يتولى الحساب وهو العليم بالسرائر.
    11. توضيح ما أشكل على الشيخ الأرنؤوط

      وأما ما قاله الشيخ الأرنؤوط وغيره: كيف يكون الجعد أخذ هذه المقالة عن اليهود مع أن المشهور عنهم هو التشبيه والتمثيل، وأن الرافضة كانوا عَلَى التشبيه؛ لأنهم نقلوه عن اليهود، وفي التوراة المحرفة -الموجودة إِلَى الآن- كثيرٌ من التشبيه والتمثيل لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بخلقه الذي لا يليق بجلال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
      فالجواب: أن الجعد بن درهم إنما نقل ذلك عن الفلاسفة اليهود لا عن الأحبار المتمسكين بالتوراة.
  2. قصة دخول الفلسفة في الدين

     المرفق    
    يوجد في كل أمة فلاسفتها، فكما أنه يوجد في الْمُسْلِمِينَ الفلاسفة الذين أنكروا حقائق الأسماء والصفات، فكذلك في اليهود والنَّصارَى، ويبين ذلك أنه لما طلب المأمون من ملك الروم أن يبعث له بما لديهم من كتب الفلسفة والمنطق وكتب اليونان وكتب الأوائل فاستاشار الملك بطانته فَقَالُوا: كيف نعطيهم تراثنا، فَقَالَ أحد الأساقفة وكان ذكياً لبيباً فطناً: ابعثوا بها إليهم فوالله ما تعلمها أصحاب دين إلا كانت وبالاً عليهم؟ وهذا هو الذي هدم دين موسى عَلَيْهِ السَّلام عندما دخل اليهود في الفلسفة وكان منهم الفيلسوف اليوناني المشهور أفلاطون وأفلاطين غير أفلاطون فـأفلاطون هو الفيلسوف اليوناني المعروف، وأما أفلاطين فإليك الحديث عنه.
    1. أفلاطين ودخول الفلسفة في دين اليهود

      أفلاطين رجل يهودي أدخل الفلسفة في دين اليهود، وأخذ كلام أفلاطون وعدل ونقح وزاد فيه كما فعل ابن رشد وأمثاله في الإسلام ويسمى مذهبه الأفلاطونية الجديدة أو الأفلاطونية الحديثة، أما الأفلاطونية القديمة هي أفلاطونية أفلاطون والأفلاطونية الجديدة هي الأفلاطونية اليهودية وأفلاطين اليهودي كَانَ قبل ميلاد المسيح عَلَيْهِ السَّلام بأكثر من قرنين واليهود كَانَ فيهم المتمسكون بالتوراة، وهَؤُلاءِ فيهم التمثيل والتشبيه، ولكن المتفلسفين من اليهود أمثال أفلاطين وأشياعه ينكرون الصفات، وكانوا عَلَى مذهب اليونان، فعندما نقول: إن أصل إنكار الصفات عن اليهود لا يعني بالضرورة أنه منقول عن الأحبار المؤمنين بالتوراة، وإنما هو عن فلاسفة اليهود والشيء الآخر الذي يؤيد ذلك أن الجعد بن درهم -كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ- كَانَ من أهل حران من بلاد الشام، وهَؤُلاءِ كانوا عَلَى دين الصابئة، وما تزال الصابئة في تلك البقاع إِلَى اليوم، وهم -والله أعلم- كانوا قوم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الذين انحرفوا عن التوحيد، فقد كانوا يعبدون الكواكب، ثُمَّ دخلتهم الفلسفة، وأصبحوا يفلسفون العقائد والأمور بناءً عَلَى عبادة الكواكب، ومن فلاسفتهم من ينكر صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نفس المنهج اليوناني القديم.
    2. نشأه الجعد بن درهم في بلاد الفلاسفة

      كان الجعد يعيش في بلاد الفلاسفة، وتعلم من فلاسفتها بدعة القول بخلق القرآن، ومما يذكر أن بعض المؤرخين والباحثين يقولون إن المعتزلة أخذوا القول بإنكار الصفات من النَّصَارَى، فانبرى بعض الباحثين الْمُسْلِمِينَ، وقَالَ: إن هذا من تشويه التاريخ الإسلامي أو كلما كَانَ لدينا رجل مفكر أو مبتكر أو عبقري يأتي الغربيون وينسبونه إِلَى اليهود والنَّصَارَى، وأخذ يدافع عنهم ويقول: إن المعتزلة أخذوا هذا من القرآن، وأرادوا أن ينزهوا القرآن، وهذا المدافع مخطئ وكلامه غير صحيح، بل المعتزلة فعلاً ومن كَانَ مع الجعد أو بعده أخذوا القول بأن كلام الله مخلوق عن النَّصَارَى لأن النَّصَارَى يعتقدون أو يسمون عيسى عَلَيْهِ السَّلام الكلمة، ولا غبار عَلَى التسمية؛ لأن ذلك جَاءَ في الكتاب، وجاء في الحديث الصحيح أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام هو كلمة الله، وهم يقولون: كما في إنجيل يوحنا، وهو الإنجيل الذي كتب خصيصاً لإثبات ألوهية المسيح كما يعترف بذلك علماء النَّصَارَى الموجودين اليوم أن الكلمة -أي: عيسى عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ عند الله.
    3. تناقض واضح في عقيدة النصارى

      كان في البداية إطلاق الكلمة تعني عيسى عَلَيْهِ السَّلام. ثُمَّ أصبح عندهم هو الله فكيف كَانَ عند الله ثُمَّ هو الله؟ سُبْحانَ اللَّه هذا تناقض واضح في عقيدة النَّصَارَى، ولا يخفى ذلك عَلَى أي عاقل.
      فالنَّصَارَى يقولون: إن عيسى هو الكلمة، وهذه الكلمة مخلوقة، أي: أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام مخلوق ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [آل عمران:59]، فعيسى عَلَيْهِ السَّلام كلمة الله بمعنى أن الله خلقه بكلمة منه ((كُنْ فَيَكُونُ))، فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ الذي هو قوله ((كُنْ)) غير مخلوق، وإنما المخلوق هو عيسى عَلَيْهِ السَّلام أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ[الأعراف:54] فالأمر غير الخلق فكلمة ((كُنْ)) كلام الله وعيسى أو أي مخلوق آخر يقول له الله تعالى: كن فيكون، هو خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لكن القوم لما استمرؤوا أِن يسموه الكلمة، وهو في نفس الوقت يقولون: هو الله.
    4. المعتزلة تناقش النصارى

      وجاء بعض الْمُسْلِمِينَ المحتكون بعقائد النَّصَارَى من أمثال المعتزلة فقال لهم النَّصَارَى: إن القُرْآن مخلوق، فَقَالَ المعتزلة: لا، إنه ليس بمخلوق، هذا كلام الله، فَقَالُوا: أنتم تقولون -أيها الْمُسْلِمُونَ-: إن عيسى كلمة الله، وتوافقون عَلَى أنه كلمة، وتقولون إن عيسى مخلوق!! ولنا نَحْنُ أن نقول: إن عيسى إله وذلك أنكم -أيها المعتزلة- تقولون: القُرْآن كلام الله غير مخلوق، بل هو من صفات الله، إذاً نَحْنُ وإياكم سواء! فما الذي تعيبون علينا.
      أنكر المعتزلة ذلك، ثُمَّ قالوا: القُرْآن ليس كلام الله، القُرْآن مخلوق!! هكذا قال المعتزلة فِراراً من ذلك، وحتى لا يُقَالَ: إن القدماء متعددون كالنَّصَارَى، فالنَّصَارَى يقولون: في الأزل الآلهة القدماء -كما يسمونهم- متعددون وهم ثلاثة: الأب، والأبن، وروح القدس، أو الله، والكلمة، وروح القدس، هَؤُلاءِ كلهم قدماء.
      أي: هَؤُلاءِ الثلاثة هم في الأزل، فَقَالَ النَّصَارَى للمعتزلة: إذا قلتم أيضاً: إن القُرْآن قديم، فقد صرتم مثلنا، إذاً فلماذا تنتقدوننا؟!
      فأجاب المعتزلة وَقَالُوا: إن الله خلق القُرْآن كما خلق آدم، وخلق الشجر والحجر، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا يتبين لنا كيف كَانَ تأثير اليهود والنَّصَارَى عَلَى عقيدة القول بخلق القرآن، وأن الذين اختلقوا وابتدعوا هذه البدعة إنما كانوا في الأصل من فروخ الصابئة واليهود والنَّصَارَى، ولم يأخذوا هذه المقالة من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من كلام الصحابة، ولا من كلام أحد من علماء الإسلام أبداً
      .
      بل الثابت المنقول عن علماء الإسلام أن القُرْآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر الأئمة من ذلك نقولاً كثيرة طويلة منهم عَلَى سبيل المثال الإمام اللالكائي.
    5. الإمام اللالكائي ينقل لنا أقوال السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق

      لقد ذكر الإمام اللالكائي صاحب شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإنه ذكر أسماء العلماء من الصحابة إِلَى عقود متأخرة طبقة طبقة في المدينة، وفي الكوفة وبغداد والبصرة، وفي كل البلاد: من علماء الحديث، والرجال، والفقه، والتفسير أنهم يقولون: القُرْآن كلام الله، ومن قَالَ: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأنه كذَّب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وسوف نعرض بإذن الله الأدلة والأقوال مذهباً مذهباً ونبين بطلان تلك المذاهب.
  3. نشأة بدعة القول بخلق القرآن

     المرفق    
    بعد أن قتل الجعد وقتل الجهم أيضاً، وجاء عصر المأمون وترجمت الكتب أنشأ المأمون دار الحكمة لترجمة علوم اليونان، وعلوم الأوائل، وجاء المترجمون، وكان بعض مترجمي الدار من الزنادقة المشهورين مثل عبد الله بن المقفع الأديب والكاتب المشهور المعروف وأمثاله.
    فكانوا أيضاً ممن تشَّرب بتلك العقائد وآمن بها، فأخذوا يترجمون هذه الكتب ثُمَّ زينوا للمأمون أن يعتقد عقيدة خلق القُرْآن وقالوا له: إن لم تعتقد هذه العقيدة فإن النَّصارَى يفحموننا ويقولون: إننا نقول مثلهم بأن القدماء أو الآلهة متعددة، ونحن نقول إن الله وحده هو القديم.
    1. دور بطـانة السوء

      زين رجال السوء للمأمون أن يعتقد القول بأن القُرْآن مخلوق حتى اعتقده واعتنقه وآمن به وكان له وزير يسمى أحمد بن أبي دؤاد وهو أبرز من زين له هذه البدعة، وكان من تلاميذ تلاميذ الجهم، فلما استقر المأمون على ذلك، لم يكتف بأن يعتقد البدعة؛ بل كتب أوامره إِلَى جميع الولاة في الدولة جميعاً أن يرغموا الناس، ويمتحنوهم عَلَى القول بخلق القرآن.
      فمن قال به نجا، ومن لم يقل بذلك فإنه يجلد ويعذب ويضرب، حتى يقول بهذه العقيدة الضالة المبتدعة، ومن هنا عظمت المحنة عَلَى علماء الإسلام، وابتلوا في كل مكان بالحبس والسجن والأذى، واشتد الأمر، وعظم الخطب، ونكل بهم المبتدعة الذين ولاهم ابن أبي دؤاد، وكانوا شديدي الحقد عَلَى هَؤُلاءِ العلماء من أهل السنة الذين هم عَلَى العقيدة الصحيحة.
    2. بلاء أهل السنة في هذه الفتنة

      ومن لم يدن بهذه البدعة من الْمُسْلِمِينَ ناله بلاء عظيم ونكال كبير بسبب هذه الفتنة، ولم يبق من العلماء المشهورين إلا ثلاثة نفر، وكان الإمام أَحْمَد هو ثالثهم وأشهرهم، فأكثر العلماء تهربوا عن الجواب، أو جاملوا، وبعضهم سجن في بعض البقاع أو جلد، لكن لم يكن لهم من قوة التأثيرما كَانَ للإمام أَحْمَد.
      فالإمام أَحْمَد كان في بغداد -العاصمة- وكان أكبر علماء الإسلام في عصره؛ لأن هذا الكلام كَانَ بعد وفاة الإمام الشَّافِعِيّ فقد قيل: إنه أدرك أول الفتنة.
      لكن الامتحان الحقيقي كَانَ في آخر أيام المأمون، بدليل أن المأمون مات قبل أن يصل إليه الإمام أَحْمَد حين استدعاه.

      وكان الإمام أَحْمَد أكبر علماء الإسلام في الحديث، وكانت الأمة مُصغية الآذان لما يقوله الإمام أَحْمَد، فإن وافق الإمام أَحْمَد لم يبق أحد إلا وافق، وإن رفض فلا موافقة، وإن كَانَ في ذلك من الأذى ما فيه، ولهذا لما جيء بالإمام أَحْمَد وسجن جَاءَ إليه بعض النَّاس فقَالَ: يا إمام!
      قد ابتُليتَ وعُذبتَ، وقد جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لك فسحة في قوله: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ)) [النحل:10] فلماذا تعذب نفسك يا أَحْمَد؟!
    3. الإمام أحمد يسترخص نفسه في سبيل الحق

      لقد ضَرب الإمام أَحْمَد حتى انشقت خاصرته وخرجت أمعاؤه منها، من شدة ضرب السياط كل ذلك من أجل أن يقول: إن القُرْآن مخلوق، وهو يأبى أن يقول بدعتهم، وناظرهم بالحجة والبيان.
      فلما أفحموا وعجزوا لجأوا إِلَى الضرب، وهذه حجة من لا يملك الحجة، وقد قال لهم الإمام أَحْمَد: تريدون أن أوافقكم عَلَى قولكم؟
      قالوا: نعم.
      قَالَ: اخرجوا فانظروا!
      فخرجوا وإذا بالنَّاس أفواجاً وبأيديهم الأقلام، وعندهم المحابر والورق، فقالوا لهم: ماذا تنتظرون قالوا: ننتظر ما يقوله الإمام أَحْمَد فنكتبه.
      فرجعوا إليه فَقَالَ لهم الإمام أَحْمَد: ماذا رأيتم؟
      قالوا: رأينا النَّاس جالسين ينتظرون ما تقول، فيكتبونه.
      قَالَ: والله لأن أموت أهون عليَّ من أن أُضل الناس؛ لأنه يعلم أن الكلمة التي سيقولها ستكتب وتؤخذ عَلَى أنها دين وتنتشر في الآفاق، والنَّاس لا يدرون أن الإمام أَحْمَد مُكَرَهَ؟! وأنه لا يرضى بذلك؟! وكيف يتدارك الأمر فيما بعد؟! هذا شيء غير مضمون.
      ولذلك نفهم من هذا دقة فهم الإمام أَحْمَد، ففي حالة الإكراه يجوز للإنسان أن يقول كلمة الكفر، لكن إذا كَانَ الأمر يقتضي من الإِنسَان أن لا يقول الكفر وأن يقف موقف الحق، فإنه مهما أكره ومهما أوذي فإنه يجب ويتعين عليه أن لا يقولها.
      فالإمام أَحْمَد رأى أن الأمة كلها تريد أن تسمع ما يقول، فلابد حينئذٍ أن يثبت أمام هذه الضلالات ولو أدى الأمر إِلَى قتله، فيقتل ويُقَالَ: قتل؛ لأنه لم يوافقهم عَلَى كلامهم، فيبقى الحق حقاً ولو قتل من قتل في سبيل بقاء هذا الحق هكذا كَانَ رأي الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ -وقد رفعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا الموقف وهذا الصبر.
    4. لله درك يا أحمد

      لقد قال كثير من علماء الإسلام: إن موقف الإمام أَحْمَد في المحنة كموقف أبي بكر الصديق يوم الردة وقد ذكرنا -سابقاً- أن المأمون لم يلتق بالإمام أَحْمَد لأن الإمام أَحْمَد دعا الله تَعَالَى أن لا يريه إياه، وفي الطريق جَاءَ الخبر بأن المأمون قد مات، وقد كَانَ الإمام أَحْمَد من قبل حدوث القول بخلق القُرْآن يتجنب السلاطين، فلا يدخل عليهم ولا يقبل هداياهم.
      بل كَانَ ابنه صالح قاضياً وكان من أعدل القضاة وأعلمهم بالكتاب والسنة، وكان الإمام أَحْمَد لا يأكل من طعامه، قَالَ: لأنه يأخذ من أموال هَؤُلاءِ الظلمة، فهذا حال الإمام أَحْمَد أنه كَانَ لا يدخل عَلَى السلاطين حتى ولا في حال المودة؛ بل إن المتوكل الذي جَاءَ وأحيا السنة وأعادها، وزجر المبتدعة ونكل بهم وعذبهم حتى ماتوا ومنهم ابن أبي دؤاد، لم يكن الإمام أَحْمَد يدخل عليه، ولما أصر المتوكل عَلَى أن يزوره الإمام أَحْمَد ذهب إليه الإمام، واشترط عليه أن لا يحضر مجلسه، فكان يؤتى بالطعام فلا يأكله، وكان يواصل إلا أنه يشرب الماء، فبقي ثمانية أيام حتى كاد أن يهلك جوعاً، كما قال ابنه عبد الله وكان الذي تولى الخلافة من بعد المأمون المعتصم وهو الذي قام بتعذيب الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ.
    5. المعتصم رجل عسكري والمأمون رجل فلسفي

      لم يكن المعتصم مثل المأمون، فلقد كَانَ المأمون رجلاً فلسفياً متبحراً في العلم والجدال والفلسفة التي تعلمها، وكان يحضر في مجلسه العلماء من اليهود والنَّصَارَى والْمُسْلِمِينَ والفلاسفة فيتجادلون جميعاً ويشاركهم جميعاً، ويرى أن هذا من كثرة تمكنه وعبقريته وعقله، أما المعتصم فكان رجلاً عسكرياً، فقد كانت أمه تركية من الأتراك العسكر وتربى تربية عسكرية، ولم يكن يدرك هذه الأمور، فلم يكن يعرف إلا السوط، فلما تولى الخلافة وأراد أن يرفع الفتنة فزُين له الوزراء، وقالوا له: إنك إن فعلت ذلك تكون قد شهدت عَلَى من قبلك بالضلال.
      فلا بد أن تستمر، وإلا يُقَالَ: إنه عجز منك وخور، كيف تترك رجلاً واحداً، ومن معه يعمل كل هذا العمل؟! فهل تعجز الدولة عن هَؤُلاءِ؟!
      فلما زينوا له ذلك آذى العلماء وضربهم وعذبهم، واقتاد الإمام أَحْمَد بالقوة وأحضره إليه، وأخذ يحاول وينصح الإمام أَحْمَد كثيراً، ويقول: يا أَحْمَد! لا أريد عذابك، يا أَحْمَد! والله إني أكره أن أضرك، ويقول له: قل القُرْآن مخلوق، فيأبى الإمام، فيذهب الوقت الطويل في الاسترضاء، فيشتد الغضب بـالمعتصم بعد ذلك فيأمرهم أن يضربوه، ويشتدوا في الضرب، وكان هذا حاله معه أياماً كثيرة.

      فكانت هذه المحنة العظمى للأمة من أجل أن تقر وتوافق بأن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ مخلوق، وأنه ليس وحياً منزلاً من عند الله وأنه لم يتكلم به عَلَى الحقيقة.
    6. المتوكل ونصره للسنة

      عندما تولى المتوكل بعد المعتصم انتصر الإمام أَحْمَد-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- بل انتصر الحق فانتصرت السنة عَلَى البدعة، ولقي المبتدعة من النكال والأذى من الأمة أكثر مما لقوا من المتوكل عندما رجع إِلَى السنة، فإن المعتزلة وأمثالهم قد شهر الله تَعَالَى أمرهم وفضحهم في جميع البلاد وأصبح الْمُسْلِمُونَ -حتى العوام منهم في الأقطار المتنائية- إذا علموا أن فلاناً من المعتزلة يكادون أن يرجموه بالحجارة، ويحتقرونه ويطردونه ويذلونه، ولهذا يجب أن ندرس حقائق التاريخ، وكيف تقاوم البدع؟
      فإن في ذلك عبراً كثيرة جداً، وأعظم عبرة في هذا هي أن الإِنسَان لا يرد البدعة ببدعة، وهذا من منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنهم يردون البدعة بالسنة ويردون الآراء والأهواء والفلسفات يقول الله، وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال الصحابة والتابعين وهذا هو منهجنا.
      فلقد حاول القوم أن يتأولوا في الكلام، فتارة يقولون: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول:
      ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر: 62] أليس كذلك يا أَحْمَد؟
      فَيَقُولُ: بلى.
      فيقولون: أليس القُرْآن شيء؟
      فَيَقُولُ: بلى.
      فيقولون: إذاً القُرْآن مخلوق.
      فيرد عليهم الإمام ويقول: ألم يقلِ اللهُ تباركَ وتعالى عن الريح: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) [الأحقاف:25].
      قالوا: بلى.
      قَالَ: أليست الأرض شيء والسماوات شيء؟
      فيقولون: بلى.
      فَيَقُولُ: فهل دمرتها الريح؟
      فيقولون: لا، وهكذا كَانَ يقاوم الحجة بحجة أقوى منها.
      فيقولون -مثلاً-: يقول الله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)) [الأنعام:1] أليست جعل بمعنى خلق؟
      فَيَقُولُ: نعم.
      فيقولون: ألم يقل الله: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)) [الزخرف:3] أي: خلقناه؟
      وهكذا كانوا يحولون الأدلة والإمام أَحْمَد-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يرد عليهم ردوداً قوية، لكنه لما جَاءَ إِلَى مسألة القول بخلق القرآن.
      قالوا: لم لا توافق؟ هل عندك دليل عقلي؟
      فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة.
      وهذا هو الذي نطالب به دائماً وأبداً، فكل من يأتينا ببدعة فإننا نطالبه بشيء من الكتاب أو بشيء من السنة، أما الجدليات والاستنباطات العقلية والتأويلات فهذه لا نهاية لها، حتى أنك تجد الذين عبدوا الأصنام والحجارة من دون الله عَزَّ وَجَلَّ ما عبدوها إلا بتأويل وتفلسف، وبظنون يحسبونها حججاً وهكذا لا تجد أحداً يعمل شيئاً إلا ومعه شيء من هذا القبيل، لكن هل هذه حجة حقيقية؟ أم حجة داحضة؟ نعرف ذلك عندما نطالبه بشيء من الكتاب أو من السنة، وهذا هو منهجنا فلا نرد البدعة ببدعة، وإنما نرد البدعة بالسنة ونرد الباطل بالحق هذه هي العبرة الأولى.

      والعبرة الأخرى هي أن الإمام أَحْمَد لم يتنازل عن شيء من الحق -كما هو واضح في الموقف السابق.
      لكن عبد الله بن سعيد بن كلاب اتخذ موقفاً وسطاً، فقَالَ: لا حاجة إِلَى أن نتشدد كما تشدد أَحْمَد، بل نقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام الله النفسي، أي: الذي في نفس الله غير مخلوق، والذي أنزله في القُرْآن مخلوق!
      ولو قيل له من أين جئت بهذا الكلام يا ابن كلاب؟ وهل هذا في الكتاب أو في السنة أو قال به أحد من الصحابة؟
      لقال لك: نريد أن نأخذ موقفاً وسطاً فنحل به المشكلة.
      وعلى هذا أصبح أهل السنة يحاربون بدعتين بدعة المعتزلة، وبدعة ابن كلاب؛ لأنه أراد أن يتوسط، مع أن الأمر واضح لا وسط فيه ولا هوادة ولا تهاون؛ بل هو حق مثل الشمس، وهذه من العبر التي نستفيدها من هذا الموقف.