الجانب الآخر هو توحيد الألوهية أو توحيد العبادة، وهو الذي جاءت الرسل الكرام لتقريره والدعوة إليه من خلال إلزام الناس بتوحيد الألوهية.
بمعنى: أنكم بإقراركم بتوحيد الربوبية يلزمكم أن توحدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في العبادة والطاعة والإتباع.
وما جاء الرسل صلوات الله وسلامه عليهم في أصل دعوتهم إلا لهذا، كما ذُكر في الآيات السابقات.
فكان الانحراف الذي وقع فيه الناس: أنهم عبدوا غير الله تبارك وتعالى. كما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [[إن الناس كانوا على التوحيد عشرة قرون]] كما في قوله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)) [يونس:19] فكانوا على التوحيد عشرة قرون ثم فشا فيهم الشرك وتعظيم الأولياء وتقديس الصالحين وتصويرهم، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة نوح: ((وقَالُوا لا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً))[نوح:23] فقالوا نصورهم ونعظمهم ونتذكر عبادة الله تبارك وتعالى بتعظيمهم.
فلما نُسخ العلم وضعف وتضاءل، عبدت هذه الصور وأصبحت آلهة من دون الله.
ثم بقيت هذه المعبودات في العرب، حتى بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل قبيلة من العرب معبود من هذه المعبودات مع ما عبدوا من غيرها، فوقع الانحراف عند الناس في توحيد العبادة.
وتوحيد الألوهية هو النوع الثاني من أنواع التوحيد، وتوحيد الألوهية هو توحيد العبادة، وتعريف العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويدخل فيها أول ما يدخل: أعمال القلوب، كالخشية والإنابة والرجاء والرغبة والرهبة والخوف والحب والدعاء والإخبات والتوكل والتضرع، وغير ذلك مما هو من حاجة المخلوق.
لأن الأصل والأساس في المخلوق أنه ضعيف فقير محتاج إلى الله عز وجل في كل لحظة، ولو تأملت أكبر ملوك الأرض أو حكام الدنيا وأكثر الناس في هذه الدنيا ثراءً ومالاً لوجدته يحتاج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو فقير إلى الله في لحظات ما، وقد يضطر إلى أن يتضرع إلى الله، ولهذا يقول عز وجل: (( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)) [النمل:62] والمضطر سواء كان كافراً أم مؤمناً, ربما يضطر أن يدعو الله كل يوم، وهو محتاج مفتقر إلى الله تعالى في كل يوم، وإن كان في ظاهر الحال يملك أعظم دول العالم، وأقوى جيوش العالم، لأنه لا بد أن تمر به ضوائق وأزمات ونكبات وما لا يمكن أن يلجأ فيه إلا إلى الله، وأن يستعين عليه بالله.
وقد شوهدت عجائب من هذا وذكرت ونقلت في الحرب العالمية الثانية، عندما كان طواغيت الكفر مثل تشرشل وروزفلت، وأمثالهم يتضرعون ويدعون الله أن ينصرهم على هتلر فهذا من العجب. حتى إن "إستالين" الملحد في الدولة الشيوعية التي لا تؤمن بوجود الله فتح الكنائس ليتضرعوا إلى الله.
فالمقصود: أن توحيد العبادة حاجة نفسية اضطرارية لا بد منها بين العبد وربه.
والذي يفعله من ينقضون هذا الإيمان وهذا الأصل العظيم من طواغيت الخرافة والدجل، هو أنهم يصرفون الناس عن عبادة الله ودعوة الله والاستغاثة بالله، إلى الاستغاثة بالمخلوقين ودعوتهم والتضرع إليهم.
ولا يخفى هذا الحال في عالمنا الإسلامي اليوم... فإننا نجد -مثلاً- الصوفية يعلمون الناس أن يستغيثوا بأوليائهم، مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، وكان عابداً عالماً لكنهم غلوا فيه، حتى جعلوه إلهاً، فيقولون: يا جيلاني! أو يقولون: يا نقشبندي! أو: يا تيجاني! أو: يا سيدي فلان، أو: يا علي -كما تفعل الروافض- يا حسين، يا عباس، يا كذا. فيغلوا هؤلاء كما يغلوا أولئك في دعاء غير الله عز وجل.
وإذا ألمت بهم مصيبة أو نزلت بهم ضائقة، دعوا غير الله، وبذلك يكونون أكثر نقضاً للإيمان وتعلقاً بالشرك من المشركين الأولين الذين كانوا: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))[العنكبوت:65] أي حينما تضيق بهم الدنيا وتأتيهم الريح، يدعون الله مخلصين له الدين، وهؤلاء كلما اشتدت بهم الكربات، وضاقت عليهم الدنيا بما رحبت يدعون غير الله، وهذا من العجب: أن يكون من ينتسب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو غير الله في حال الرخاء والشدة، في حين أن المشركين يخلصون دينهم لله عز وجل في حال الشدة، وإنما يشركون إذا نجاهم إلى البر: ((فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ))[العنكبوت:65].