المادة    
كل فكرة ومذهب -في اعتقادنا- لا تخرج بأي حال من الأحوال عن مصدرين:
المصدر الأول: الوحي، وهو الكتاب والسنة وما تفرع منهما واتبعهما، من الفهم والفطرة القويمة السليمة.
والمصدر الآخر، باطل: وهو إما الجهل وإما الهوى أو وحي الشياطين، وإن سماه أهله فلسفة أو أموراً عقلية.

وقد ذكر الله ذلك عن الأمم السابقة حين قَالَ: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [غافر:83]، فكل نبي يأتي قومه فإنهم يجادلونه ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَق)) [غافر:5] فالملأ المستكبر في الأرض وأصحاب الديانات في الأمم السابقة. وفي كل مكان يجادلون بما عندهم من الباطل، وكما تقول الحضارة الغربية اليوم: (إن فلسفتنا، إن العلم البشري، إن التجارب، إن الأنظمة البشرية، إن علوم الاجتماع وعلوم النفس، تقول غيرما تقولون أنتم في كتاب الله أو في السنة، فالديمقراطية والاشتراكية تقول هذا وغيرها من الأفكار التي قُدست أو عظمت، وهي في الحقيقة أصنام ولكنها ليست أختاماً منحوتة كتلك التي نحتها قوم إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- فكسرها وحطمها، ولكنها أصنام من المبادئ والأفكار والشعارات المضللة، وكهانها يختلفون عن كهان الأصنام السابقة؛ لأنهم يلبسون ثياب العلم والحضارة والرقي والتمدن، وما أشبه ذلك.
وهذان المصدران قائمان -منذ أن أمر الله الملائكة بالسجود ورفض إبليس ذلك وعصى وقَالَ: ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12]- إِلَى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأصحاب الوحي الشيطاني يقابلون الوحي والأمر الشرعي بالأدلة العقلية أو بالأقيسة، أو بالآراء المخالفة له، كما قال إمامهم في ذلك بعد الأمر الصريح من الله عَزَّ وَجَلَّ ((اسْجُدُوا لِآدَمَ))[البقرة:34] فامتنع إبليس، لماذا لا تسجد إذ أمرتك؟ قَالَ: أنا خير منه؛ لأنه تصور أن المسجود له هو أفضل من الساجد!.
يقول تعالى:((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإِنسَان:1] بلى ولكن الله نفخ فيه من روحه فأصبح شيئاً عظيماً، وكرمه الله عَلَى مخلوقاته ولكن إبليس رجع إِلَى القياس ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)) [الأعراف:12] وهي العناصر الأساسية.
يقول هذا لشيطان: لو حللنا قضية الإِنسَان، وقضية الشيطان فرجعنا إِلَى العناصر الأساسية التي يتكون كل منهما، -فسنجد حسب القياس الشيطاني- أن النَّار عنصر أفضل من عنصر التراب..!.
إذاً: أنا محق عندما أرفض أو أعترض عَلَى أمر الله!! ثُمَّ أخذت الأمم طريق إبليس فكل من كذب رسل الله قالوا: ما جَاءَ به الأَنْبِيَاء معارض للعقول أو للحقائق أو للعلم ((فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [غافر:83] ولا غضاضة في أن يسمى علماً؛ لكن هل هو علم يوصل إِلَى الحق؟! والسحر يقال له علم ولكنه كفر ((وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر))[البقرة:102] فهو كفر وضلال بشهادة الأستاذين الذين هم أول من علم النَّاس ذلك فهذه المعارضة معارضة قديمة، وهي التي أشار إليها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا.
وقد سبق أن قلنا: إن الذين أنكروا صفات الله تَعَالَى وأولوا دين الله وحرفوا كتابه، إنما اعتمدوا في ذلك عَلَى ما يسمونه الأقيسة والآراء وسبق معنا هذا عند قول المصنف: [وهذا الذي أفسد الدنيا والدين -يعني التأويل والتحريف- وهكذا فعلت اليهود والنَّصارَى في نصوص التوراة والإنجيل وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم وكم جنى التأويل الفاسد عَلَى الدين وأهله من جناية.
يقول: [فهل قُتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة عَلَى " ثلاثة وسبعين " فرقة، إلا بالتأويل الفاسد.؟!].
بل إن عباد الأصنام، إنما عبدوها -أيضاً- بالتأويل الفاسد، والشبهات الباطلة.
فالقضية ليست مجرد شبهات إنما هي: هل هذا وحي من عند الله، أو هو آراء وظنون، وتخرصات، سماها أصحابها آراء عقلية أو براهين أو قواطع عقلية؟!
فالأصل الذي يجب أن نعلمه، ويعلمه كل مسلم، هو أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يتعارض دليل نقلي صحيح، ودليل عقلي صريح أبداً، فإذا رأينا أن ذلك قد وقع فلا بد أن ننظر، فإما أن يكون الدليل الذي ظنناه عقلياً غير صريح، وإما أن يكون الدليل النقلي غير صحيح، وبسبب الجهل بهذه القاعدة، وقع كثير من الاضطراب في هذه الأمة قديماً.
مثلاً: أتى قوم من رواة الحديث المنتسبين إِلَى علم الحديث والسنة فرووا في باب صفات الله وغيره أحاديث مكذوبة عن ضعفاء، ومجاهيل، ووضاعين، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يستشهد بالحديث الضعيف فضلاً عن الواهيات والموضوعات في أبواب العقيدة، فما بالك إذا كَانَ في أخص الأمور -كصفات الله تعالى- التي هي من أمور الغيب؟! بل لا يجوز ذلك في الفروع -أي: الأحكام- فضلاً عن الأصول، لكن وقع من بعض المنتسبين إِلَى الحديث، والسنة أنهم ذكروا هذه الأحاديث ورووها، فجاء الذين في قلوبهم مرض من أهل الكلام والفلسفة والمنطق وأمثال ذلك.
وقالوا: الوحي لا يؤخذ به في هذا الباب ولا نأخذ العقيدة بحال من الأحوال إذا عارضت القواطع العقلية، والبراهين النظرية التي ذكرها العلماء الثقات في المنطق والفلسفة، وسار عليها النَّاس في هذا المجال، وما هذا إلا لأنهم قرأوا هذه الموضوعات، فَقَالُوا: إذا تعارضت هذه الأحاديث مع ما عندنا من قواطع، ومقررات عقلية نرد النقل ونرد السنة، ولا نأخذ بالأحاديث، وهذا من جهلهم؛ لأن هذه الأحاديث غير صحيحة، أو مكذوبة.

وكان من أسباب وضعها الرافضة، وقدماء الصوفية الذين ذكروا أموراً تتعلق بصفات الله تَعَالَى لا أصل لها، فمثلاً ما يرويه هَؤُلاءِ الوضاعون من أن فلاناً من النَّاس رأى ربه فعانقه وبعضهم يقول: إنه صافحه، ومن هذا الكلام الذي جعل علماء الكلام يقولون: هَؤُلاءِ مجسمة، ومشبهة، وكأنهم هم أهل السنة وهم الذين يتكلمون باسم الإسلام، وهم غير ذلك في الحقيقة، وسبب ذلك هذه الأحاديث الموضوعة، التي قد توجد في بعض كتب أهل العلم الموثوقة كما في كتاب أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -مثلاً- وكذلك رد الدارمي عَلَى بشر المريسي، وغيرها من الكتب التي هي موثوقة في الجملة لكن فيها أحاديث ضعاف وقد يكون فيها - أحياناً- موضوعات، فـأهل الكلام رأوا تلك الأحاديث فردوا كل ما في هذه الكتب بناء عَلَى هذه الموضوعات الموجودة، وَقَالُوا: كيف تأخذون من التوحيد لـابن خزيمة أو من السنة لـعبد الله بن أحمد أو من اللالكائي أو غيره وقد رووا كذا وكذا؟!
وفي الحقيقة هل عارضوا الدليل الصحيح أم عارضوا شيئاً مكذوباً؟!
وفي المقابل هناك آخرون ممن لديهم علم، وحب للسنة وللعقيدة الصحيحة، وجدوا أن بعض ما يقوله المتكلمون.
كقولهم: إنه لا يجوز أن نصفه تَعَالَى بالتغير، ولا بالحلول، ولا بالتركيب، ولا بالتمثيل، ولا بالتبعيض.
فقالوا: هذه قواعد عقلية صحيحة وسليمة، وهذا حق وأقروا بها، فلما جاءوا ينظرون في بعض الأدلة مثل حديث النزول وهو حديث صحيح، وهم يعلمون أنه صحيح، قالوا: هذه براهين عقلية قطعية ثابتة وعليه فهذا الحديث لا بد أن نؤله.
فالحقيقة أنهم عارضوا النقل الصحيح، وكان الأصل أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح قطعي الدلالة أبداًَ، وقد حصل تعارض بين صحيح وغير صحيح أو بين صريح وغير صريح، أما إذا كَانَ الدليلان ظنيين فهذا قد يكون من أسباب الخلاف، وذلك أنه قد يوجد حديث يفهمه بعض النَّاس عَلَى أنه مخالف لما يظنه هو -كما مر معنا في حديث التربة- ويقول: أنا أفهم أن هذا الحديث يخالف ما عليه النظريات العلمية الكونية في نشأة الكون -مثلاً- وفهمه لهذا الحديث هو فهمٌ ظني، لأنه ليس هناك قطع بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام بالأيام التي نعرفها نَحْنُ اليوم، وهذا الإِنسَان عارض هذا الأمر بنظريات ظنية واحتمالات وتخمينات، فيكون بهذا تعارض ظني بظني، وتعارض ظني بظني أهون وأيسر، وما علينا إلا أن نفكر وأن نمحص، فمتى ترجح أحدهما وتحول إِلَى قطعي أو كَانَ ظناً راجحاً أرجح من الآخر عملنا به، ولا غضاضة ولا حرج في ذلك، ولله الحمد.
فيقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [أو بقوله: العقل يشهد بضد ما عليه النقل، والعقل أصل النقل فإذا عارضه قدمنا العقل] نقول: هذا لا يكون قط؛ لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثل ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً، فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك إذا كَانَ النقل صحيحاً لا يمكن أن يعارضه شيء من ذلك أبداً -فمثلاً- عندما يثبت عندنا حديث النزول وفيه: {أن الله تَعَالَى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل} ويثبت عندنا أيضاً الحديث الذي رواه مسلم وأَحْمَد وغيرهما أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سأل الجارية أين الله؟ قالت: في السماء}.
فهل نقول: إن هذه الأحاديث تعارض قولهم: (إنه - عَزَّ وَجَلَّ - تَعَالَى أن تحيط به جهة، أو أن يكون في مكان، أو يدرك وصفه بعلو أو بغيره، بل نرفع النقيضين ونقول: لا داخل العالم ولا خارجه وهذا هو قاطع عقلي وبرهان عقلي!).
لا يمكن أن يقال هذا؛ لأن هذا القول لا يصلح أن يكون معارضاً في أي حال من الأحوال لهذه الأحاديث الثابتة، أما إذا كَانَ النقل غير صحيح مثل الأحاديث الموضوعة أو الضعاف الواهيات التي ذكرها بعضهم في صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ- والتي كانت مطية لأن يتطاول علماء الكلام والفلسفة وأهل التأويل عَلَى أهل السنة ويقولون: أنتم تروون أمثال هذه الأحاديث. وتقولون: إننا نأخذ صفات الله من الحديث، ولا نأخذها من العقل، فلا تصلح للمعارضة البتة، فإنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح وعقل صريح أبداً.
ثُمَّ بين المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - أننا نستطيع أن نرد عَلَى هذه القاعدة: وهي أنه إذا تعارض النقل والعقل قدمنا العقل فنعارض كلام هذا القائل بقاعدة عقلية نظير كلامه، بل هي أقوى: وهي أننا نقول إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم النقل؛ لأنه قد ثبت بالدليل العقلي والبرهان العقلي الصحيح أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا النقل؛ لأن العقل قد شهد بصحة النقل والجمع بين المدلولين بين مدلول هذا النقل الصحيح وبين مدلول المعارض العقلي جمع بين النقيضين ورفع النقيضين محال في العلوم العقلية، والنقيضان: هما اللذان لا يمكن أن يرفع أحدهما إلا بوجود الآخر، بخلاف الضديين مثل: الأسود والأبيض، فإذا سألك أحد ما لون هذا؟
فلا تستطيع أن تقول: أسود وأبيض بل إما أن تقول أبيض أو تقول أسود فلا يمكن أن يجتمعا لكن يمكن أن يرتفعا بأن تقول لا أسود ولا أبيض بل هو أحمر أو أخضر.
فالضدان ممكن أن يرتفعا، أما النقيضان إذا ارتفع أحدهما فبالضرورة أن يوجد الآخر.
فإذا قلت لك: أزيد داخل البيت أم خارجه؟
فبالضرورة إذا قلت داخله أنه ليس خارجه مطلقاً وهذا معلوم بالضرورة العقلية،
وبهذا نعرف بطلان مذهب الأشاعرة، وغيرهم من المؤولين في العلو لأنهم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه فرفعوا النقيضين، ورفع النقيضين محال في العقول البشرية، فإنه لا بد أن يوجد الشيء داخل أو خارج، ولا بد أن يكون كذلك أسفل أو فوق.
ومن أوضح الأمثلة عَلَى النقيضين أن نقول موجود أو غير موجود فإذا كَانَ موجوداً فلا يمكن أن تقول: إنه غير موجود أو العكس فـالباطنية وغلاة الجهمية لا يرفعون النقيضين في جميع الصفات فيقولون: لا نقول موجود ولا غير موجود وهذا مذهب الباطنية ومذهب غلاة الجهمية.
والأشاعرة لا يقولون ذلك في جميع الصفات إنما يقولون ذلك في صفة العلو فهم يأخذون بشعبة من التجهم والباطنية
والمقصود هنا، كيف نثبت هذه القضية؟
يقولون: إن العقل هو الذي دلنا عَلَى صحة النقل ومن ثُمَّ وجب عند التعارض أن نحكم العقل ونحن عكسنا عليهم القضية وقلنا: العقل قد دل عَلَى صحة النقل، ومن ثُمَّ وجب عند التعارض أن نحكم النقل؛ لأننا إذا حكمنا العقل أبطلنا العقل والنقل معاً؛ لأن العقل هو الدليل، وهو الآلة التي عرفنا بها صحة النقل، فإذا قلنا: إن الدليل الذي دل عَلَى صحة شيء من الأشياء وكان هذا الشيء باطلاً، فإن الدليل الذي دل عليه باطل، فيكون النقل غير صحيح ويقدم عليه العقل، وكيف يدلنا عَلَى صحته وهو باطل؟
وعليه فإن هذا العقل غير صحيح وفي هذه الحالة نكون قد أبطلنا النقل لأن العقل دل عَلَى بطلانه، وعطلنا العقل لأنه دلنا عَلَى شيء باطل إذاً فهو باطل، فيتبين بهذه القاعدة العقلية السليمة أن تقديم العقل عَلَى النقل إبطال للعقل وللنقل معاً
. لكن تقديم النقل عَلَى العقل بخلاف ذلك؛ لأن الدليل العقلي دل عَلَى صحة النقل، فنقدم النقل؛ لأنه قد دلنا العقل عَلَى صحته قطعاً فإذا وجد في العقل ما يعارض فإننا نرد هذا القول بنفس القاعدة التي قررها هذا العقل وهي: أن النقل صحيح مقدم.
ويضرب لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ مثلاً فَيَقُولُ: كمثل رجل جَاءَ إِلَى مدينة فيها عالم كبير حجة، يرجع إليه في العلم والدين، ووجد رجلاً سليماً صحيحاً معافىً يعرف أهل البلد فوجده وقال له: أريد عالماً أطلب عنده العلم فقَالَ: أنا أعرفه، وأخذ بيده وذهب به إِلَى ذلك العالم الكبير المشهور في البلد وقال له: هذا هو العالم ولما رأى ذلك الرجل هذا العالم واسع العلم، ووجد التعظيم له عند الناس، ووجد الكتب، ووجد النَّاس يرجعون إليه في الفتاوى تيقن صدقاً وقطعاً أن هذا فعلاً عالم، وأن الرجل الذي دله عليه كَانَ فعلاً صادق لم يكذب عليه فأخذ هذا الرجل العلم من العالم وتلقاه منه فلما فهم هذا الرجل مسألة من مسائل العلم الكبرى، وأخذ يبلغها ويدعو النَّاس إليها جَاءَ ذلك الرجل الذي دله وقال له: هذا الكلام غير صحيح، قَالَ: كيف يكون هذا الكلام غير صحيح وأنا أخذته من الشيخ الذي أنت دللتني عليه؟
قَالَ: الذي دللتك عليه قال لك هذا؟!
قَالَ: نعم.
قَالَ: بما أنني أنا الذي دللتك عليه، فأنا أقول لك: لا تأخذ هذا الكلام، فإنه يتعارض مع كلامي ويجب أن تقدم كلامي؛ لأنني أنا الذي دللتك عليه!
فماذا يكون الجواب الصحيح؟
الجواب الصحيح أن يقول له: أنت أصبت عندما دللتني عليه، ولكنك أخطأت عندما عارضت ما عنده من العلم بكلامك، فكونك أصبت بالدلالة عليه لا يعني أنك تحكم في كل شيء يقوله الشيخ! وإلا لو كَانَ كذلك لم يجتمع النَّاس عَلَى الشيخ ولم يأخذوا العلم منه وأنت موجود، فلنرجع إليك ولنأخذ منك العلم ما دمت أنت واقف بالباب وكل من أتى بمسألة من عند الشيخ قلت له: اعرضها عليَّ فإن وافقت عليها وإلا ردها لأنني أنا الذي دللتكم عليه! وهذا كلام -بلا شك- فاسد.
هذا أقرب وأوضح الأمثلة في مسألة التعارض الذي يزعمونه بين النقل وبين العقل.

وقد عُرف صدق الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم بالفطرة السليمة، فكل ذي لب من خلق الله يرى نبياً ويسمع ما عنده من البينات يؤمن بأن هذا النبي صادق، وكل من كَانَ لديه عقل سليم من العرب -مثلاً- وسمع آيات من كتاب الله فإنه يوقن بأن هذا لا يمكن أن يقوله بشر بأي حال من الأحوال.
إذاً.. بهذه الآلة التي أعطانا الله إياها وهي الفهم والعقل عرفنا صحة النقل، وميزنا بين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله ورسوله وبين
مسيلمة الكذاب والأسود العنسي حتى عندما قيل للرجل: لماذا تتبعون مسيلمة وتعلمون أنه عَلَى الكذب؟
قَالَ: كذاب اليمامة خير من صادق مضر! فقد شهد النَّاس بصحة نبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة الدين الذي جَاءَ به، ولكن للأهواء أو الحظوظ الدنيوية أو لأي أمرٍ من الأمور لم ينقادوا.

وبهذا يتضح أن هذه الآلة التي أعطانا الله إياها بعد أن أثبتت صحة الدليل النقلي - الوحي من القُرْآن والسنة -لم يبق إلا أن نسلم لما في الوحي.
ولو أتى أحد وقَالَ: نَحْنُ لا نسلم بالأدلة النقلية إلا إذا عرضناها عَلَى الأدلة العقلية! قلنا: معنى ذلك: أن ترك النَّاس بلا دين وبلا وحي خير وأنفع لهم في دنياهم وأخراهم من أن ينزل عليهم هذا الكتاب ما دام أننا كلما قرأنا آية من هذا الكتاب عرضناها عَلَى العقل، فإذا قرأنا قوله تعالى:
((وَجَاءَ رَبُّك)) [الفجر:22] قلنا: يا عقل! أصحيح أنه يجيء؟!
وقل ذلك في قوله:((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان)) [المائدة:64] وغيرها من الآيات.
في كل ذلك يقول العقل: لا، فيا ترى ما الفائدة من هذه النصوص التي نحفظها ونكتبها ونرويها بالسند ونتعب فيها ونحن لا ندري خطأها من صوابها! إذاً: لا داعي لها، وتعال يا عقل فأخبرنا عن الله مباشرة هذا هو لازم هذه المقالة.
بل لازم ذلك: أن هَؤُلاءِ النَّاس لا يؤمنون بصدق نبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولبيان ذلك: لنفترض كما ذكر الشيخ هنا -وهذا الكلام منقول من درء التعارض وكلام ابن القيم في مدارج السالكين- لنفترض أن ثلاثة رجال جاءوا إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حي بين ظهرانيهم فأخبرهم بأمر من الأمور، وقَالَ: أنا رَسُول من عند الله، كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة يأتيه الوفد من العرب فيأمرهم وينهاهم ويخبرهم عن الإيمان وعن المغيبات وأمثال ذلك -فقال الأول منهم: هذا الذي قلته يا محمد! لن أؤمن به ولن أصدقك حتى أرجع إِلَى بلادي وأسأل شيخ القبيلة! والآخر قَالَ: أنا أصدق أنك رسول، لكن ما قلته لا أؤمن به حتى أعرضه عَلَى عقلي! والشخص الثالث قَالَ: يا محمد! هذا الكلام الذي قلته مع تصديقي بنبوتك وبرسالتك لا أستطيع أن أؤمن به حتى أتأكد أن ليس له معارض، فأنا أتوقف فيه، فقد يكون هناك شيء معارض له! فهل يُقال في دين الإسلام: إن أحداً من هَؤُلاءِ الثلاثة مؤمن مسلم؟
لا ليسوا بالمؤمنين ولا بالْمُسْلِمِينَ أبداً. ولهذا قال رَحِمَهُ اللهُ: [ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام] فهذا أبو طالب ما منعه من أن يسلم وهو في آخر لحظة عند الموت- إلا بسبب المعارض الذي أتى له: وهو ملة عبد المطلب، مع أنه مصدق للنبوة ومقر بأن هذا رسول، لكن المعارض الذي يعارض الإذعان والاستسلام هو ملة عبد المطلب، وهكذا فهَؤُلاءِ لا يسمون مسلمين بأي حال من الأحوال ولا يدخلون في دين الإسلام.
فيا أيها المؤولون والمعطلون، والذين تقدمون عَلَى شريعة رَسُول الله شيئاً غيره كيف تدعون الإيمان بدينه ثُمَّ تقولون: صح الحديث ورواه البُخَارِيّ؟!.
وإذا سألت أحدهم هل تؤمن بهذا الحديث؟
قَالَ: اتركني أتأكد هل قال علماء المذهب به؟
وماذا قال شيخ الطريقة؟!
هذا هو مثال حال الرجل الأول الذي قرأت له حديثاً صحيحاً عن رَسُول الله وقَالَ: هذا غير معقول فدعني أتأكد فلعل له معارض من العقول أو من العلوم أو من كلام البشر!ثُمَّ يقول بعد هذا: أنا مؤمن برَسُول الله!
نقول له: لو آمنت أنه رَسُول من عند الله لقبلت ما جَاءَ به، أما لو تبين للشخص فيما بعد أن هناك دليل شرعي أقوى فهذا شيء آخر، لكن هذا رده أول ما سمعه زاعماً أنه قد يكون له معارضاً.
والآخر الذي يقول: لا أستطيع أن أقول بهذا حتى أفكر فيه وأعرضه عَلَى عقلي.
فيُقَالُ له: أنت إِلَى الآن في مرحلة الشك لم تؤمن برَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من النماذج عَلَى هذا حتى في عصرنا الحاضر، ولكن بطرق ملتوية.
ومن ذلك حديث الذباب وهو حديث صحيح وفيه: {إن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء}.
قالوا: كيف نغمسه وكيف نعتقد أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟
فنقول لهم: هل عندكم ما يطعن في إسناده أو في متنه؟
الجواب: لا. وهم ليسوا بعلماء حديث.
فَقَالُوا: نرى ما تقول معامل الكيمياء ومعامل الأحياء فأوقفنا الإيمان والعمل بحديث صح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تؤكد لنا الكيمياء صحة ذلك؟!.
فلماذا التعب والحفظ للسند والمتن؟
فهذا ليس إسلاماً بل الإسلام لا يثبت إلا عَلَى قدم التسليم والاستسلام، وأكثر النَّاس تسليماً واستسلاماً هم أكثر النَّاس وأقواهم إيماناً بما جَاءَ عن رَسُول الله، ولهذا لما قيل للصديق -رضي الله عنه-: إن صاحبك زعم البارحة شيئاً عجيباً أنه ذهب إِلَى بيت المقدس ثُمَّ عرج به إِلَى السماء -قالته قريش لـأبِي بَكْرٍ- فقَالَ: إن كَانَ قال ذلك فقد صدق، مع أنه قال شيئاً لا تصدقه العقول لكنه صادق ولا يمكن أن يعارض.
وفي يوم الحديبية لما لم تكن القلوب قد بلغت السكينة منها مبلغها أخذ الفاروق عُمَر -رضي الله عنه- يصيح ويقول ألست رَسُول الله؟!
ألسنا عَلَى الحق؟!
ألسنا الْمُسْلِمِينَ أليسوا بمشركين؟!
فلم نرضى بالدنية في ديننا؟
فكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول يا عُمَر ! "إنه رَسُول الله"، يعلم أنه مادام رَسُول الله فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعارض قوله بما يخيل إلينا أنه مصلحة، فنلغي العقل ونلغي المصلحة إذا كَانَ في مقابل النص ومقابل قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهنا تكون حقيقة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فإذا كنا قد أبطلنا دلالة العقل فإنه لا يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه عَلَى القاعدة العكسية التي قلناها، يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [تقديم العقل يوجب عدم تقديمه.. إلى أن قَالَ: [لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يقدم فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل] بل هو كما قلنا قدح في العقل والنقل معاً وبهذا نخلص إِلَى أنه لا بد من تقديم النقل ولا بد من تجريد المتابعة ولهذا عقب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى هذا الكلام بالنص الذي هو منقول في أصله؛ وقريب من حروفه من مدارج السالكين لـابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.