المادة    
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[وقوله: فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد علم ما اشتبه عليه إِلَى عالمه، أي: سلَّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو يقول: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل! والعقل أصل النقل! فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط، لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثلَ ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً فذلك الذي يدَّعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك.
وإن كَانَ النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيُقَالَ: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل عَلَى صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل عَلَى صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل، لزم ألا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل.
فالواجب كمال التسليم للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يعارضه بخيال باطل، نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً أو نقدم عليه أراء الرجال وزبالة أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسِل بالعبادة، والخضوع والذل والإنابة والتوكل.
فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إِلَى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره عَلَى عرضه عَلَى قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم، وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقَالَ: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال؛ بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه، كأنه سمعه من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل يسوغ له أن يؤخر قبوله والعمل به، حتى يعرضه عَلَى رأي فلان وكلامه ومذهبه؟ بل كَانَ الفرض المبادرة إِلَى امتثاله من غير التفات إِلَى ما سواه ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسه وتلغى نصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول قوله عَلَى موافقة فلان دون فلان كائناً من كان] إهـ.

الشرح:
هذا كلام عظيم جداً ينبغي لنا دائماً أن نعرفه، وأن نتعلمه ونعلمه للناس بهذه الألفاظ أو بأي ألفاظ أخرى.
إن ديننا هو دين اتباع وتسليم، ولو أننا كنا لا نؤمن إلا بما تقبله عقولنا لما دخلنا في دين الله تعالى. فعقل هذا لا يقبل عذاب القبر، وعقل هذا لا يقبل العلو، وعقل الثالث لا يتصور كيف ينزل الوحي من السماء، وعقل الرابع لا يتصور أن يكون الرَّسُول من بشر بل لا بد أن يكون عنده من الملائكة أو النور، وعقل هذا يريد أن تكون السنة كلها متواترة، وعقل الآخر يقول: لا داعي للسنة، والقرآن يكفي، كم عقول وكم أراء تواجه دين الله تعالى، فديننا اسمه (دين الإسلام) أي: أن نستسلم لله تَعَالَى بقلوبنا وعقولنا وجوارحنا، ونوحد الله تَعَالَى توحيد المرسل بعبادته والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتحاكم إِلَى دينه، والرغبة والرجاء وكل أنواع التوحيد المعروفة وكل أنواع العبادات تصرف له وحده، ونوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطاعة. وبالاتباع، فعنه نأخذ، وعنه نتلقى، ولا نعارض كلامه بكلام أي أحد من النَّاس كائناً من كان، ولا نوقف الإيمان بشيء جَاءَ في الكتاب أو في السنة حتى نرى ما قال فيه عقل أفلاطون أو ما قال فيه أصحاب الكلام أو ما ذكر الإمام أو المذهب فهذه معصية.
إن من أعظم أسباب انحراف الْمُسْلِمِينَ وحلول الهزائم والمصائب بالأمة الإسلامية أنها أعرضت عن هذا الأصل، فإنك قد تقول لأحدهم: قال الله؛ قال رَسُول الله فيقول لك: أخر ذلك حتى نرى ما قالوا لعلهم أولوها!! سُبْحانَ اللَّه، أنزل الله كلاماً واضحاً ليتعبد به وليؤمن به، وهذا يحيل إِلَى معارض محتمل وإلى معارض متوهم ليعارض به ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو أساس المصائب والبلايا.
والانحراف في الأسماء والصفات سببه كالانحراف في حياة الْمُسْلِمِينَ العامة، الانحراف في العبادات، فلو أنك ذهبت إِلَى بعض البلاد ونظرت إِلَى الصلاة التي يصلونها وما يكون من الأذكار البدعية قبل الصلاة وبعدها ماظننت أنها الصلاة التي يصليها الْمُسْلِمُونَ، مع أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاءنا إلا بدين واحد، وما علم أصحابه إلا صلاة واحدة وما هذه النتيجة إلا لأنه لم يوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاتباع وبالطاعة وبالتحكيم، ويقدم كلامه عَلَى كلام أي أحد كائناً من كان، فضعنا في عباداتنا وفي أحكامنا وقضاءنا ومعاملاتنا واعتقادنا وفي كل شيء، وسبب الضياع هو عدم التسليم لرَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يخبر، وعدم الإذعان لأمره، وعدم الانقياد للوحي والإيمان بأنه لا خير ولا نور ولا هدى ولا حكمة إلا فيما أنزل عَلَى رَسُول الله، وما عداه إن عارضه فإننا نضرب به عرض الحائط ولا نبالي به، كما علمنا أئمة الإسلام الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

ومعنى ما ذكره المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ- يدور عَلَى موضوع تعارض العقل والنقل وهو من أكبر الأبحاث، وأعظم الموضوعات المهمة في أبواب العقيدة.
بل إننا نقول الآن: إن مسألة المصدر الذي نتلقى منه الحق ونقيس به الأمور، فيعرف صحيحها من سقيمها والتي يجب عَلَى الإِنسَان أن يعرفها، هي أعظم المسائل التي خاضت فيها العقول البشرية والآراء والأفهام منذ القدم، فليس هناك من كتاب في الفلسفة أو التاريخ أو في أي فن من الفنون العلمية، إلا وهو يقول: إن ما نكتبه ونقوله هو الحق، ومعيارنا في ذلك هو الحق وكذلك ما من خطيب أو متكلم إلا ويقول: أنا الذي عَلَى الحق في هذا الرأي ودليلي ومعياري في هذا الحق هو كذا وكذا من الأدلة، ويأتيك بمصدره الذي استقى واستمد منه هذا الحق، ومن هنا نعرف أهمية مصدر الاستمداد والتلقي لكل إنسان.