لا يكفر الإنسان ولا يحكم بكفره إلا إذا ترك قول القلب الذي ينخرم بفقدان عمل القلب بالكلية، أو بفقدان عمل الجوارح بالكلية؛ لأنه إذا انتفى هذا أو هذا بالكلية انتفت الحقيقة المركبة التي هي الإيمان، والتي يتركب منها هذا الإيمان، وقد أوضح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك في القرآن، وفي المثل الذي ضربه، والذي به نفهم جميعاً الفرق بين مذهب أهل السنة والجماعة وغيرهم في الإيمان، فيقول الله تبارك وتعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا))[إبراهيم:24-25] والشجرة الطيبة هي: شجرة الإيمان، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله، ولو تصورنا نحن الآن هذه الشجرة لعرفنا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
فهو مثلما قلنا: إنه يتركب من روح وجسد، والشجرة تتكون من الجذع ثم الفروع ثم الأوراق والثمرة، وهناك جانب أسفل سطح الأرض وهو الجذور التي تمتد إلى أسفل والتي تتغدى بالماء وتدفع الغذاء إلى الأغصان فتنمو، فإذا كثر الغذاء كثرت هذه الفروع وإذا قلَّ قلَّت، فهذا المثال ينطبق تماماً على حقيقة الإيمان.
وإذا قارنا ما يقول هؤلاء، وما يقول أولئك، عرفنا أولاً حقيقته، ثم عرفنا ثانياً أنه هو الحق، فهذه الشجرة إذا قُطع غصن منها، فهو مثل مرتكب الكبيرة، أو مثل من كترك واجباً من الواجبات غير الأركان الخمسة، ترك -مثلاً- فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كان من أهل الغيبة أو النميمة، فنقول هذا الإنسان ذهب عنه غصن من هذه الشجرة، لكنه لم يفقد الشجرة بالكلية، ولهذا على قول الخوارج أن مرتكب الكبيرة قد خرج من الدين، كمن يقول: الذي قطع غصناً من الشجرة، فإن الشجرة لا وجود لها.
لكن المرجئة بالعكس من ذلك، فالمرجئة يقولون: الإيمان يكون فقط في القلب، ولا ظاهر له، فنقول لهم: لو أن إنساناً جاء واجتث الشجرة من فوق الأرض، ثم دفنها تماماً، فهل نطلق على هذا الذي في الأرض أنها شجرة؟
أو لو نظرنا إلى أرض فضاء ليس فيها أي شيء وقال شخص: يمكن أن يكون هناك شجرة تحت هذه، بينما نحن نرى تراباً وحجارة فقط، وليس هناك شجرة، لكن يقول: لا ندري، يمكن أن يكون في الباطن شجرة.
فنقول: هذه مكابرة ومخالفة للعقل، فهم يقولون: إن الإنسان الذي لا يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، يمكن أن يكون الإيمان كاملاً في قلبه، إذا كان مصدقاً بالله وبرسوله، فنقول: هذا مثل الذي يرى أرضاً فضاء، ويقول: تحت هذا التراب شجرة، فنقول: هذا كذب، وإن كنا معاً نقول: إن أصل الشجرة هي الجذوع التي في الأرض، لكن الشجرة لا وجود لها.
ولذلك نرد عليهم في دعوى تارك الصلاة، إذا أُخذ وقُيِّد وعُرض على السيف، وقيل له: إما أن تصلي، وإما أن نقتلك، قال: لا، اقتلوني ولا أصلي، وحكم عليه القاضي بأن يقتل، وقطعت رقبته، قالوا: هذا يقتل حداً، ويدفن في مقابر المسلمين، لأنهم قالوا: لوجود احتمال أن يكون عنده تصديق في قلبه، سبحان الله! أي تصديق بعد هذا الكلام، بعد أن يعرض على السيف، وبعد أن يقرر ويطلب منه التوبة، ولو تاب كذباً أو نفاقاً لتركناه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}.
فحتى لو قالها كذباً، فحسابه على الله، لكن إن امتنع عن أداء الصلاة بالمرة حتى يقتل، لا يكون هذا مسلماً أبداً.
وأما الخوارج، فالرد عليهم أوضح من ذلك، نقول لهم: إذا قلتم أن كل من ترك فريضة أو واجباً من واجبات الإيمان، فقد خرج من الإسلام بالكلية، فأنتم كمن يتصور أن من قطع من هذه الشجرة غصناً، فكأن الشجرة لا وجود لها، وكأنه قد اجتثها من أسفلها ولم يبقِ منها أي شيء.
ولعل بضرب هذه الأمثلة، وهي أمثلة قرآنية ونبوية، يكون قد اتضح الكلام على حقيقة الإيمان، وتلازم ظاهر الإيمان بباطنه، وتلازم القول بالعمل، وهي أن الحقيقة المركبة من هذه الأربعة، يتكون منها الإيمان الذي هو الإيمان الكامل.