ومن هذه الأربعة -أي من قول القلب وقول اللسان , وعمل القلب وعمل الجوارح- تتكون حقيقة الإيمان الكلية المركبة الذي هو الإيمان الشرعي، الذي جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغه لنا بما أنزله الله من الوحي في القرآن، وبما علَّمنا إياه وفسره لنا في السنة.
ولذلك فإن أهل السنة والجماعة يحتجون على مخالفيهم بأنهم يفسرون الإيمان ويشرحونه، ويعبرون عنه بغير ما جاء عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجاب عن الإيمان وأوضحه بما يجاب به عن الحقيقة المسئول عنها، فإنه في حديث جبريل المشهور { قال: أخبرني ما الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره } فالسؤال هنا عن حقيقة الإيمان، وأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.
وفي حديث وفد عبد القيس -المتفق عليه- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم: {أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخُمُس من المغنم} وهذا الحديث متقدم على حديث جبريل، ولذلك لم يذكر فيه الحج مثلاً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: أتدرون ما الإيمان؟ ثم شرح ذلك: فأدخل فيه الركن الأول وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ذكر الصلاة، ثم ذكر الزكاة، ثم ذكر أداء الخُمُس، الذي هو من غنيمة الجهاد.
وفي حديث شعب الإيمان السابق: {الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فأعلاها هو هذه الشهادة وهذه الكلمة العظيمة التي هي تحوي جميع أعمال الإيمان القلبية الظاهرة والباطنة، وأدناها هو عمل من أيسر العمل وأهونها ولكنه مع ذلك يعتبر شعبة من الإيمان.
فيتبين من مجموع ذلك أن الإيمان فعلاً هو قول وعمل، وهذه هي التي عبر عنها العلماء بأن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل.
فالإيمان مركب من هذين الجزأين، كما تتركب حقيقة الإنسان من الروح ومن الجسد، فلا يمكن أن نتصور وجود روح بدون جسد، ونقول: هذا إنسان له روح بدون جسد، ولا يمكن أن يكون هناك جسد بدون روح.
فأما الجسد بدون روح فهذا هو المنافق الذي يعمل أعمال الإسلام، ولكن لا إيمان في قلبه بهذا الدين، فهذا جسد بدون روح، فهم يصلون ويزكون ويجاهدون، ويعملون أعمال الإيمان، ولكنها بدون الإيمان القلبي، فهذه الأعمال الظاهرة هي كالجسد بدون روح، وأما وجود روح بدون جسد، فهذا لا يتصور أصلاً، أي لا يتصور أن يوجد الإيمان الباطن الحقيقي في القلب، ولا يظهر أبداً أثر له على الجوارح، فهذا من المحال مطلقاً، وفي هذا أعظم الرد على من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، حتى وإن لم يعمل الإنسان أي عمل من أعمال الإيمان، كما قالت بذلك الجهمية وتبعهم سائر فرق المرجئة إلى عصرنا الحاضر، وهذا موجودٌ في كل كتبهم: أن الإيمان عندهم -فقط- هو التصديق القلبي.
فكيف فهم السلف وكيف قالوا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول ومن العمل جميعاً.
نقول: فهموا ذلك من حديث جبريل، فقد ورد في روايات صحيحة له، أنه جاء رجل في آخر عُمْرِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال الحافظ ابن حجر: '' إن ذلك يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع وقبيل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '' وهو جبريل عليه السلام ليعلم المؤمنين دينهم، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في آخر الحديث-: {هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم} لأن هذا آخر مجلس تذكر فيه هذه المعاني بعد اكتمال الفرائض.
وأما حديث وفد عبد القيس -مثلاً- لم يُذكر فيه إلا الشهادتان والصلاة والزكاة فقط، لكن حديث جبريل ذكر الخمسة الأركان الظاهرة، وذكر الستة الأركان الباطنة.
فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أخبرني ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت} فذكر الأركان الخمسة في جواب قوله: ما الإسلام؟ ثم لما {قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره} وفي رواية صحيحة على شرط مسلم -رواها ابن مندة- قال له جبريل بعد أن ذكر أركان الإسلام: {فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم -وقال له بعد أن ذكر أركان الإيمان- فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم} وفهم الإمام أحمد من ذلك تكفير من ترك ركناً من أركان الإسلام أو ركناً من أركان الإيمان، قال: '' ومن قال إنه يكون مؤمناً وإن لم يعمل شيئاً، فقد عاند الحديث '' فهو يقول: من قال: إن الرجل يكون مؤمناً بالتصديق القلبي الباطن فقط فقد عاند الحديث، ألم تره يقول: فإن فعلت ذلك فأنا مسلم، فإن فعلت ذلك فأنا مؤمن، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأهل السنة والجماعة -أيضاً- فهموا من هذا أن الإيمان قول وعمل: القول الباطن والعمل الباطن، القول الباطن الذي هو قول القلب، والقول الظاهر الذي هو قول اللسان، والعمل الباطن الذي هو عمل القلب، والعمل الظاهر الذي هو عمل الجوارح.
فمن هذا الحديث علمنا أن الأركان الستة هي أركان الإيمان، وهي أعمال باطنة: أن تؤمن بقلبك بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.
وأما أركان الإسلام الخمسة فهي أركان ظاهرة: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج، أي أعمال ظاهرة بالجوارح.
فيتركب من هذين -أي: الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة- حقيقة واحدة، هي: الدين، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}، فلو تصورنا أن أحداً قال: الشهادتين وأدى الأركان الخمسة الظاهرة، ولكن في الباطن لا يؤمن بالله ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، فهل هذا مؤمن؟ لا يمكن أن يكون مؤمناً أبداً.
وأيضاً لو قلنا بعكس ذلك: أن يكون إنسان يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصوم ولا يصلي ولا يزكي ولا يحج، فلا يمكن أن يكون مؤمناً أيضاً.
إذاً الإيمان الشرعي يتركب من هاتين الحقيقتين معاً: من إيمان الظاهر وإيمان الباطن معاً، ولذلك لما كان في حديث جبريل أُفْرِدَ الإسلام والإيمان، أي قرنهما وذكرهما معاً، فأفرد هذا بتعريف، وهذا بتعريف، وذكرهما معاً، وذلك حتى نعلم الظاهر من الباطن.
وإذا قارناه بالأحاديث التي ذكر فيها الإيمان مفرداً نجد أنها تفسر ذلك ولا تناقضه، فهنا لما ذكرهما معاً فسر حقيقة كل منهما، بأن هذه هي الأعمال الظاهرة، وهذه هي الأعمال الباطنة، لكن في حديث وفد عبد القيس، قال: {أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله} مع أنه في حديث جبريل جعلها الركن الأول من أركان الإسلام أي الأعمال الظاهرة وكذلك في حديث الشعب:
{الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله } جعلها من الإيمان فكيف نجمع بين نصين يدل أحداهما على أن الشهادتين من الإسلام وآخر يدل على أنهما من الإيمان؟
نقول: هذا دليل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الظاهر والباطن معاً، لكن إذا قُرِنَا معاً، بُيِّنَت حقيقة الأعمال الظاهرة وأنها تسمى في عرف الشارع إسلاماً، وحقيقة الأعمال الباطنة وأنها تسمى إيماناً، أي مرتبةً من مراتب الدين، فإذا ذكر الإسلام وحده، كما قال تعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ))[آل عمران:19] فالدين عند الله فعل هذه الأركان جميعاً الظاهر منها والباطن، وإذا ذكر الإيمان وحده ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))[النساء:136] فمعنى آمنوا بالله ورسوله، أي اعملوا الأعمال الظاهرة والباطنة، من أعمال الإيمان.
إذاً: مجموع هذه الأحاديث وهذه الآيات يدل على أن هذه الحقيقة مركبة، فأحياناً تذكر الحقيقة ويذكر الجزء الأول منها (الباطن) ويذكر الجزء الظاهر منها، ويعرف أن الإيمان يتركب منهما معاً، وأحياناً يذكر واحد منهما لأنه يتكلم عنهما على أنهما حقيقة واحدة وأمر واحد لا فرق فيه ولا اختلاف.
فيتضح مذهب أهل السنة والجماعة في هذا إذا قورن بمذاهب المخالفين، فـأهل السنة والجماعة قالوا: الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن.