المادة    
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[ وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً))[النساء:164] و(إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} ] إهـ .
الشرح:
عندما يتكلم أي متكلم فالمطلوب منا إذا استمعنا له أن نفهم ماذا يريد بكلامه على ظاهره الذي يفهمه أي إنسان مخاطب به، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا كان إخباراً به عن المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، لأنك قد قلت كلاماً ما أراده عندما تكلم به.
وهنا سؤال وهو كيف يعرف مراد المتكلم ؟
هناك أوجه عقلية يعرف بها مراد المتكلم:
الأولى: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، بحيث لو اشتبه المعنى على بعض الناس تجده يقول: والمعنى الذي قصدته كذا وكذا، أو لو كانت كلمته مجملة تحتمل عدة معاني فإنه يقول: أنا أردت هذا المعنى ولم أرد ذلك المعنى .
الثاني: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهراً في الوضع الذي وضع له في اللغة ولا يأتي بقرينة تدل على صرفه: فمثلاً كلمة العين في لغة العرب تطلق على الذهب وعلى عين الماء وعلى العين العادية، فلو أن شخصاً قال -بدون أي قرينة-: أنا عندي عين فمن الممكن أن يقصد أن عنده هذه العين التي في رأسه، أو عنده ذهب، أو عنده ماء، لأنه لا يوجد قرينة تدل على أحد هذه الأشياء فلو قال: أنا عندي عين أنظر بها فيكون بهذا قد اتضح المراد فلا يمكن أن تقول بعد ذلك لعل قصده الذهب أو الماء ...لوجود القرينة التي تدل على أنه قصد العين التي في رأسه وهي قوله: "أنظر بها"، فإذا دل ظاهر الكلام على المراد ولم تأت قرينة تصرفه عن ذلك، فهذا هو الأصل وهو: أن يؤخذ بظاهر الكلام .
ومن خالف فقد خالف ما هو معهود في كلام الناس فمثلاً يقول تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ))[البقرة:113] فاليهود عندما قالت: يد الله مغلولة، فهم يقصدون بذلك اليد المعروفة، ولما ردَّ اللهُ عليهم قال: ((غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)) [المائدة:64] وهي الأيدي المتصف بها اليهود المعروفة أيضاً في اللغة، ثم قال: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64] فهل هذا المعنى يحتمل التأويل؟
الجواب: لا يحتمل التأويل؛ لأنه واضح ومحدد حتى في اللغة العربية.
فإذا قال قائل معناها: نعمتاه مبسوطتان.
قلنا له: هذا معنى بعيد جداً ولا يمكن أن يتصور في هذه الآية إذ المصدر لا يثنى، فلا يمكن أن يحمل قوله تعالى:((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64] إلا على المعنى الحقيقي، فكيف يصرف عن المعنى الظاهر والمتكلم قد جاء بالقرائن التي تدل على أنه يريد الظاهر الذي يفهمه كل إنسان من اللفظ.
يقول المصنف رحمه الله: [فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتة وما وضع له كقوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً))[النساء:164] وقوله هذا لا يمكن أن يحتمل أن يكون مراده الكلام النفسي أو أنه خلق الكلام في الشجرة، والشجرة خاطبت موسى كما تقول الأشعرية وغيرهم من المؤولة.
فعندما تقول: قابلت فلاناً مقابلةً فإنه لا يمكن أن يكون بالتلفون ولا بالبريد، فإنك قد أتيت بالفعل وأتيت بالمصدر لتؤيد ذلك وتؤكده وعليه تكون قد نفيت أي احتمال، كذلك نصوص الصفات، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنكم ترون ربكم عيانا ً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب}، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون المراد منه: إنكم ترون نعمة الله، وفي الحديث الآخر: {كما ترون هذا القمر} فأشار بإشارة حسية إلى شيء معروف لدى جميع المخاطبين، حتى يفهم أقل الناس تفكيراً ونظراً وبهذا يتضح أنه لا يحتمل المعنى الذي ذهبت إليه الفرق التي تنفي رؤية الله سواء كانت المعتزلة او الجهمية أو الإباضية او أي فرقة من فرق الضلال .

يقول المصنف -رحمه الله تعالى-:
[ فهذا مما يقطع به السامع فيه بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة كان صادقاً في إخباره وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي وتوهم بالهوى ] إهـ.
الشرح:
ومعنى هذا الكلام أنك إذا قلت: إن الله تعالى أو إن رسوله صلى الله عليه وسلم يريد بالرؤية الرؤية الحقيقية البصرية، فأنت تخبر عن الله فلا بد أن تقول هذا بعلم، فإن كنت قلته بناء على أن هذه الآيات والأحاديث واضحة بهذا المعنى فإخبارك عن الله صادق، فمن قال: إن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} أننا نرى الله في الآخرة حقيقة بأبصارنا، فهو صادق في إخباره عن رسول الله أو عن الله تعالى، ولو أتى شخص وقال المراد بالرؤية النعمة، أو المراد انتظارها فإننا نقول: هذا كاذب في إخباره عن الله وعن رسول الله؛ لأنه ليس إنشاءاً بل خبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.