المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[ وقوله: [والرؤية حق لأهل الجنة] تخصيص أهل الجنة بالذكر، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى:((تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ)) [الأحزاب:44] .
واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه لا يراه إلا المؤمنون .
الثاني يراه أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف ]إهـ.

الشرح:-
قد مر معنا حديث عدي بن حاتم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: أولم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب، يقول: ألم أزوجك؟ فيقول: بلى يا رب} إلى أخر الحديث الذي سبق وقد ذكرنا أن اللقاء لا يستلزم الرؤية، يعني: أن الاستدلال بهذا الحديث على إثبات الرؤية فيه نظر؛ لأن مجرد اللقاء لا يستلزم الرؤية، لأن في الحديث: { ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك } وهذا يقال في حق الكافر، فهل نستفيد من هذا الحديث أن الكافر يرى الله عز وجل أم لا ؟
فالمسألة موضع نظر، ولهذا لا يذكر هذا الحديث ضمن الأحاديث التي نستدل بها على رؤية الله تبارك وتعالى، وإنما ضمن الأحاديث التي هي محل نظر، والإمام الطحاوي توفي في أوائل القرن الرابع، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن الخلاف -هل يرى الكفار الله عز وجل أو لا يرونه- إنما نشأ بعد المائة الثالثة، يعني نستطيع أن نقول: إن الإمام الطحاوي لم يدرك هذا الخلاف وإنما تكلم بما كان عليه عامة السلف، وهو أنهم يتكلمون بأن المؤمنين يرون ربهم وكان أهل البدع ينكرون ذلك، ويقولون: إن الله لا يُرى، فكان الخلاف محصوراً في هل يُرى أولا يُرى ؟ والذين يقولون يُرى وهم أهل السنة يقولون: المؤمنون يرون ربهم، وأولئك قالوا: لا يرى مطلقاً.
وبعد الثلاث مائة نشأت قضية أخرى وهي: هل يراه الكفار والمنافقون أو لا يرونه؟ وهذه قضية اجتهاد ونظر، أي: ليست هذه من الأمور التي تؤثر في الاعتقاد والدين سواء قيل الكفار يرونه أو لا يرونه ولكن بالقيد الذي سنذكره، وليست مسألة محنة ولا فتنة، وهنا سنقف قليلاً لذكر قصة وقعت في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا الموضوع لنأخذ منها العبرة.
فأهل البحرين في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كان فيهم علماء وصلحاء، فحصلت بينهم فرقة وشقاق، وتهاجر وعداوة من أجل هذه القضية، هل الكفار يرون الله أم أنهم لا يرون الله وهم متفقون على أنه ليس في الجنة قطعاً، فالكفار لا يدخلون الجنة، لكن قالوا: في أثناء الحشر قبل الحساب، هل يرونه أو لا يرونه ؟ وتهاجروا وتقاطعوا واختلفوا في هذه المسألة فكتبوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ولما بلغه ذلك رضي الله تعالى عنه كتب إليهم ليهون عليهم الأمر .
ويقول: إن من أمور الدين ما هي أمور معلومة بالقطع، وبالدليل الجلي وهذه هي الأمور التي يجب على الإنسان أن يظهرها وأن يدعو إليها، ولو أوذي في سبيل ذلك وأن يجاهد في ذلك ويتحمل الأذى أو أن يقاطع وأن يهجر من أجل ذلك، وهناك أمور ليست من هذا القبيل، وإنما هي محل نظر واجتهاد، فلا يمتحن فيها الإنسان، ولا يهجر من أجلها ولا يؤدب ولا يعزر، بل غاية ما يقال: إنه مخطئ ومنها هذه القضية.
فنحن في حاجة دائمة إلى أن نعرف ما هي الأصول التي نوالي ونعادي فيها، وما هي الأمور التي تقبل الخلاف، فلا نجعلها هي محل الإثارة والإشكال في مجالسنا أو مع العلماء، هل هذا هو المخطئ أم هذا هو المصيب، هل نضع اليدين قبل الركبتين أو العكس، هل نضع اليدين بعد الرفع من الركوع أم لا نضع ... الخ .
هذه الأمور التي لا يترتب عليها شيء وليس على المسألة امتحان ولا ابتلاء ولا هجران ولا تبديع ولا تفسيق، يجب أن نحذر من الخلاف فيها، وأن نضع الشيء في موضعه، فنحن أحوج ما نكون إلى أن يكون شباب أهل السنة والجماعة يداً واحدة على أهل الشرك والبدعة والفجور، بدلاً من أن يكون موضوع أحاديثهم وموضوع لقائهم مع علمائهم هو أمثال هذه القضايا، أقول الذي يقرأ رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية يجد الناحية التربوية والدعوية فضلاً عن الناحية العلمية، فهي في الجزء السادس من مجموع الفتاوى تبتدئ من صفحة (465).
  1. ترجيح شيخ الإسلام بأنه لا يراه إلا المؤمنون .