المادة    
يقول المصنف: [ويُقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها -وهو الجهة- وهم المعتزلة: أتريدون بالجهة أمراً وجودياً أم أمراً عدمياً؟]
ما المقصود بالجهة؟
إما أن تكون أمراً وجودياً أي: شيئاً موجوداً اسمه الجهة، أو حيزاً معيناً يُقال له الجهة من ضمن الموجود في هذا الكون، هذا شيء، وإما أن تكون الجهة أمراً عدمياً، يعني شيئاً مثلياً إضافياً، لا شيئاً موجوداً بذاته أو مميزاً بذاته.
لا يخلو مرادهم بالجهة من هذين الاعتبارين، وعلى ذلك نقول لهم: إن كَانَ المقصود بالجهة الحيز والشيء الوجودي، فنحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا نثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجهة بهذا الاعتبار؛ لأننا في الأصل لا نقول كلمة "الجهة" كما سبق، وإنما نقول: العلو، فنثبت له العلو، لأن الكلمات التي فيها لبس والتي تُحتمل معنيين لا نثبتها ولا نذكرها إلا مبينين أو مفسرين لِمَا نريد أن نقول.

فـ"الجهة" هنا ليس أمراً وجودياً، يعني ليس ظرفاً أو حيزاً معيناً، فالأرض جميعاً قبضته يَوْمَ القِيَامَةِ والسماوات مطويات بيمينه، والكون كله في يده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالخردلة في يد أحدكم، إذاً ليس هناك شيء يسمى جهةً أو ظرفاً وجودياً بمعنى أنه يحويه ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس هذا مرادنا، فلا حجة علينا بقولكم لنا: إنكم تثبتون الجهة فيلزم منها كذا ويلزم منها كذا... إلخ لا حجة لكم علينا لأنا لا نثبت ذلك، ومع ذلك فإن كون الجهة أمراً وجودياً كما ذكر المُصنِّفُ هنا لا يعني النفي.
لأنه يقول: تقدير دليلكم أن تقولوا: كل ما ليس في شيء موجود لا يُرى، يعني كأنهم يقولون: أي شيء ليس في شيءٍ موجودٍ لا يرى، فَيَقُولُ: هذا ليس بلازم، لا يلزم أنه لا يرى بمجرد أنه ليس في شيء موجود، ويستدل عَلَى ذلك بقوله: إن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر، يعني سطح العالم يمكن أن يرى، وهو ليس في شيء آخر بل هو ذاته نفسه يمكن أن يرى، فهذا إن قلنا: إن الجهة أمر وجودي.
وأما إذا قلنا: إن الجهة أمر عدمي أو أمر اعتباري -وهذا هو الذي يقوله أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقولون: إن الجهة أمر اعتباري وليس أمراً وجودياً- فالنملة إذا كانت تسير في هذا السقف فأين العلو بالنسبة لها؟ وبيتها وحبها وحياتها وكل شيء فوق -كثير من الحشرات تعيش فوق- فالعلو بالنسبة لها نحن، لكن نَحْنُ العلو بالنسبة لنا فوق، بالعكس إذاً الجهة عندما نقول: "العلو" هل هي أمر وجودي حقيقي أم أمر نسبي باعتبار إضافي؟ فبالنسبة للنملة نَحْنُ أسفل، لكن بالنسبة لنا هذا هو الفوق ونشير إِلَى النملة، ولكن النملة فوق بالنسبة لِمَا هو أسفل، وهكذا هذه قضية نسبية اعتبارية، والذي يجلس عَلَى يمينك يقول: فلان عَلَى يميني، وآخر يقول: فلان عَلَى يساري؛ لماذا؟
لأن الجهة ليست شيئاً موجوداً، ليس هناك شيء موجوداً اسمه الشمال، ولا شيء موجود محدود اسمه اليمين؟ ولا فوق ولا تحت؟ كلها أمور اعتبارية نسبية، فهذا يمين بالنسبة لهذا، وهذا يسار بالنسبة لهذا، وهذا فوق بالنسبة لهذا، وهذا تحت بالنسبة لهذا.
وبهذا نعرف أنه لا يلزم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من إثبات أن الله تَعَالَى فوق المخلوقات وإثبات العلو له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون محصوراً أو محدوداً في حيز وجودي يُسمى الجهة، ولكن بالنسبة للمخلوقات هو أعلى منها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الجهة بذاتها فليست شيئاً وجودياً مادياً محسوساً خارجاً، ومن هنا فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرى.

وقولكم بأنه يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجهة لا معنى له، مادام أن الجهة أمر نسبي اعتباري، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرى، وتجوز رؤيته، هذا بالأدلة العقلية، ولقد أثبتنا ذلك بالأدلة الشرعية،ولكن نتكلم الآن بالأدلة العقلية وننقض أدلتهم العقلية، فالمخلوق الرائي لابد أنه في جهة، فباعتبار المخلوق الرائي الناظر لابد أن يرى شيئاًٍ في جهةٍ ما، ففي أي جهة يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ وهي الجهة التي يدعى في الدنيا فيها نقول: في جهة العلو، يعني: بالنسبة للإنسان، لا بالنسبة لكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحيط به شيء وجودي معين اسمه الجهة بمعنى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -كما يقولون- مثل المخلوقات التي تكون في حيز، تَعَالَى الله عن ذلك علو كبير.
ونجد أن أهل العلم من أهل السنة كالمصنف هنا أو شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أو غيرهما يضطرون إِلَى الإثبات بهذه الأدلة، وهذه الأمثلة العقلية، لنبين فساد أقوالهم بالعقل والنقل لا لأننا نحتاج إِلَى أن نقرر ونثبت صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه الطرق، ولكن لأننا نقول: نَحْنُ نثبت بطلانها في الجهتين العقلية والنقلية، ولنثبت أن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هو الذي يستقيم مع الأدلة، ومع العقول السليمة، ومع الفطرة المستقيمة في آن واحد.
  1. أصل الضلال الانحراف في منهج التلقي

  2. رد المصنف -رحمه الله- على هؤلاء المنحرفين