المادة    
يذكر المُصنِّفُ أننا لم نر الله في الدنيا لعجز أبصارنا، يعني هذا من الأدلة العقلية والحجج والبراهين التي يقولها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أثبتوا الرؤية بالأدلة الشرعية وناقشوا أدلة المعتزلة فيها.
ثُمَّ أخذوا أيضاً يكلمونهم بالعقل السليم الصريح، فيقولون: إنما لم نره في الدنيا لضعف أبصارنا، فإن قُوْىَ الإِنسَان وإدراكاته في الحياة الدنيا محدودة، فلا تستطيع أن ترى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وليس لأن الرؤية مستحيلة.
وضرب لذلك مثالاً بهذا المخلوق الذي يبعث النور في الأرض وهو الشمس فإن الإِنسَان لا يستطيع أن ينظر إِلَى الشمس ويتأكد من حرها وحجمها؛ لأن شعاعها ونورها يُعشي عينه، فهو أقوى من أن يطيقه بصره وحاسته، وليس ذلك لأن الشمس ليس بالإمكان أن ترى لكن لضعف الحاسة، فإن قويت وتضاعفت فإنها تستطيع أن ترى الشمس عَلَى حقيقتها وجرمها كما تشاء.
أما بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فنقول: إنه لا يرى في هذه الدار التي فيها هذا الضعف، وإنما يرى في الدار الآخرة حيث يكون الإِنسَان خلقاً آخر في قواه وفي إدراكاته، فذلك عالم آخر والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يمن عَلَى المؤمنين بأن يعطيهم القدرة عَلَى أن يروه جل شأنه كما يليق بجلاله وعظمته، فيطيقون ذلك يَوْمَ القِيَامَةِ مع أنهم لا يطيقون هذا في الدنيا، فيستدل المُصنِّفُ عَلَى ذلك بنفس الآية التي سبقت وهي آية الأعراف عندما طلب موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يرى ربه، فَيَقُولُ: ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قَالَ: ((سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأعراف:143] أي: يقول: وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا جمادٌ ولا يابس إلا تدهده، والجبل عَلَى عظمته لما حصل له التجلي، فإنه تدهده وتحول إِلَى حطام، وهذا لعجز الإِنسَان ولعجز حتى الجماد في هذه الحياة الدنيا عن تحمل تجلي الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ثُمَّ يستدل عَلَى ذلك بشيء آخر فَيَقُولُ: ولهذا كَانَ البشر لا يطيقون أن يروا الملك عَلَى حقيقة الملائكة الذين هم من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن أجسامهم نورانية عظيمة، لا يستطيع الإِنسَان أن يتحملها وأن يراها في هذه الحياة الدنيا فكيف برؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا من أقدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رؤية الملك كما أقدر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقدره عَلَى أن يرى جبريل، وقد رآه مرتين عَلَى خلقته التي خلقه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليها، له ستمائة جناح كل منها ملء الأفق، وهذا شيء لا يمكن للإنسان أن يتصوره ولا أن يستوعبه، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك -وهو من أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (ما هَؤُلاءِ الذين يخوضون في الصفات؟! إن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا أن لجبريل ستمائة جناح، وإنما يعلم النَّاس أن للطائر جناحين فأين يكون الثالث) يعني: أن العقل البشري حينما يريد أن يتخيل طائراً فإنه يتخيله بجناحين هذا هو الذي يتخيله الإِنسَان، فأين يكون الثالث؟ فضلاً عَلَى الرابع، فضلاً عن الستمائة جناح، كيف تكون؟ هذا شيء لا يستطيع الإِنسَان أن يتخيله عَلَى حقيقته، فكيف ينكر فيما هو أعظم من جبريل ومن كل المخلوقات ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [الزمر: 67] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به العقول والأنظار.

يقول المُصنِّفُ في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)) [الأنعام:8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته.
إنَّ من العلل الواهية التي تعلل بها المكذبون للأنبياء أنهم قالوا: ((مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))[الشعراء:154]، ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) [إبراهيم:10] فكيف نؤمن بأنكم أنبياء من عند الله؟ نريد أن يكون النبي ملكاً من الملائكة، فرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم في مواضع منها هذا الموضع في سورة الأنعام ((وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)) [الأنعام:8] يُحتمل المعنى: أنه لو أنزلنا ملكاً لم يستطيعوا أن يروه فيموتوا، ويحتمل: أنه لو أنزلنا ملكاً أن يروه كَفَرُوا به لاستحقوا العقوبة العاجلة بخلاف ما إذا كَانَ المخاطب لهم من أنفسهم؛ لأن الملك هذا من عالم الغيب، فأصبح في عالم الشهادة، يكلمهم ويخاطبهم، فحينئذ لا ينفع التكذيب ولا الرد ولا الجدال ولا يقبل عَلَى الإطلاق، إما أن يؤمنوا ويذعنوا فوراً وإما إن يحيق بهم العذاب من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن عندما يأتي بشر مثلهم فيدعوهم إِلَى الله فَيَقُولُ: إنه يوحى إليّ من الله، إذا أمنوا بنبوته فإنهم يؤمنون فعلاً عَلَى الغيب لا عَلَى الشهادة، فإذاً لم تأتهم الآية وإذا أتت الآية ورأوها عياناً فما بعدها إلا العذاب كما رأى قوم صالح الناقة مبصرة، فماذا حصل لهم لما عقروها؟ أهلكوا.
أصحاب المائدة توعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه بعد أن ينزلها عليهم ((فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ))[المائدة:115] لأنهم يرون الغيب شهادة، فكذلك بالنسبة للأنبياء فمن رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنه أرسل الرسل من البشر ليكون هناك مجال للأخذ وللجدال وللنقاش، ولا يأتي العذاب المفاجئ، هذا أمر.
والأمر الآخر وهو أظهر وأوضح في الحكمة أن النبي إذا كَانَ من الملائكة، وقال لهم: اتقوا الله لا تسرقوا ولا تزنوا ولا تخونوا الأمانة ولا تفعلوا كذا وكذا، ورأوه يلتزم بعمل ذلك لأنه بطبيعة الحال لابد أن النبي يلتزم ويعمل بما يدعو إليه، قالوا: هذا ملك ولكن نَحْنُ بشر مركب فينا الشهوة، والضعف، والذنب، إذاً لا تناسب.
فمن حكمة الله ورحمته ولطفه أنه جعل الأَنْبِيَاء أيضاً من البشر، فليس هناك مجال للاعتذار، صحيح أنه لن يبلغ أحد من غير الأَنْبِيَاء مبلغ الأنبياء، ولكن مع ذلك تظل القدرة، وتظل إمكانية المتابعة والتأسي، ويبرز في الأمم التي بعث فيها الأَنْبِيَاء صديقون يقربون من درجة النبوة، كالأئمة العشرة المبشرين بالجنة ومن قاربهم من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأمة، فهَؤُلاءِ أقرب النَّاس إِلَى مرتبة النبوة لأنهم كانوا في أخلاق وإحسان وتقوى الأَنْبِيَاء وتأسوا بخاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاربوهم في هذه الدرجة -درجة البشرية- فيكون الاقتداء وارداً وممكناً بخلاف ما إذا كَانَ هذا النبي من جنس آخر، ومن الحيوان المخلوق من لا يستطيع الإِنسَان رؤيته فضلاً عن الملك، أي أن الإِنسَان قدرته ونظرته محدودة وهذا لا يناسب موضوع الرؤية هنا، وقد قال ابن قتيبة -رَحِمَهُ اللهُ-: إن من الحيات نوع يموت الإِنسَان بمجرد أن يراه نوع مفزع مخيف وفي عينه شعاع خاص بمجرد أن يراه الإِنسَان يموت من عدم تحمل رؤية هذا الحيوان.