إن هذه النقطة وأهميتها تجعلني أقول: لا بد أن يراعي الدعاة أمرين؛ ولعل ذلك يعيننا على أن تكون أخلاقنا هي أخلاق الدعاة إلى الله، وأن تزول هذه الحالة السيئة التي هي واقعة بين الدعاة.
الأمر الأول: أنه إذا كان كل منا على شعبة من الحق ومن الخير، فلا يجوز للآخر أن يغمط تلك الشعبة، لأنه على شعبة أخرى وعلى حظ آخر كما أشرنا، فلنعلم أن الدعاة إلى الإسلام الذين يدعون إلى الله على عقيدة صحيحة وعلى منهج سليم، لا يدخل في ذلك أهل البدع، ولا يدخل في ذلك أهل المناهج المنحرفة؛ ولكن نعني كل من يدعو إلى -الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويرفع راية التوحيد، ويعتقد عقيدة السلف الصالح، ويتبع أهل السنة والجماعة؛ ولكن يقع بينه وبين أمثاله من التنازع أو الاختلاف في مناهج الدعوة ما يقع، فنقول: اعلم أنك على شعبة من الحق، وأن أخاك على شعبة أخرى، فلا تغمطْه حقه، ولا تغمط تلك الشعبة حقها؛ إن كنت على علم فهو على جهاد أو دعوة، وإن كنت أنت على جهاد فهو على علم.
إن كنت على أمر من أمور الوعظ أو الحث على التقوى والتعلق بالآخرة وترك الدنيا، فهو على جانب بيان الأحكام من حلال وحرام وكلاكما على حق، وكلاكما تتكاملان، وما أحسنكما لو تتكاملان، فما أجمل ذلك! ولكن:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها             كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
من الذي يضمن أن تكون له كل صفات الداعية الناجح؟! فنحن نسعى إلى ذلك، ونجتهد لكي نكون كذلك؛ لكن الواقع لابد من وجود هذه الفجوات؛ فإذا قدر الإنسان أنه على جانب من الحق، وأن أخاه على جانب آخر من الحق، وأن المنهج واحد، وأننا ندعو جميعاً إلى أمر واحد، فإن هذا يزيل كثيراً من الجفوة بين الدعاة، أو سوء الظن الواقع بينهم.
الأمر الثاني: أن يعلم أن جانب الأسلوب في الدعوة أمر اجتهادي، وما اجتهاد أحد بمقدم على اجتهاد الآخر، وهذه قاعدة معروفة؛ فالإنسان حتى في صلاته لو اجتهد أن القبلة هاهنا، واجتهد الآخر أن القبلة هاهنا، لما جاز لأحد منهما أن يقلد الآخر، فليصل كل واحد حسب اجتهاده، وتقبل صلاته وتصح، ويؤجر عليها بحسب اجتهاده، ولكن إذا كان اجتهاده بأن القبلة هاهنا، وقلد الآخر مجرد تقليد، فإنه يكون قد صلى إلى غير القبلة.
إذاً الأمر اجتهادي، ومعنى الأمر الاجتهادي أنني لا أجعل بيني وبينه الخصومة أو العداوة، بل أعذره ويعذرني؛ لأن الأمر فيه سعة، فإذا جئنا عند الدليل وعند النص، فلا كلام لأحد مع قول الله ومع قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا اجتهاد لأحد كائناً من كان مع صحة النص ومع قطعية دلالته.
هكذا يجب أن نكون؛ لنرتقي بعد ذلك إلى الواجب الكمالي وهو أن نكون إخوة متحابين، متآلفين، متآخين؛ وإن كان كل منا يغلب عليه جانب معين نتيجة ما فطره الله عليه من الطبع، نتيجة ما يسره الله تبارك وتعالى في أمر دينه ودنياه، وكل ميسر لما خلق له، هذا من أهل الخطابة، وهذا من أهل التأليف، وهذا من أهل العبادة، وهذا من أهل الجهاد، وهذا من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أهل العلم، وهذا من أهل الصبر، وهذا من أهل الزهد، وهكذا، وكلها أمور عظيمة، وكلها من أمور الدين، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ييسر كل إنسان لما يشاء من سبل الخير وطرائقه.
ويجب أن يعرف كل إنسان من الطرفين أن هذا هو ما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، وأن الإعذار فيما بيننا ضروري؛ لكي نكون أمةً واحدةً في مواجهة أهل البدعة، والشر والباطل.