مقدمة في كيفية بدء الحروب الصليبية
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبعد: لقد تحدثنا سابقاً عن مستقبل العالم الإسلامي في ظل الحرب الصليبية الجديدة المتسترة بما يسمى: الوفاق الدولي، سوف نذكر الآن بعض العبر والمواقف من الحروب الصليبية الأولى؛ لأن فيها معالم نحتذي بها إن شاء الله في مقاومتنا لهذه الحملة المعاصرة؛ ولأن فيها من العبر والعظات الشيء الكثير الذي قصرت عنه العيون فلم يُطلع عليه، ونحن أحوج ما نكون إليه في هذه الأيام.
إن في إمكاننا أن نقرأ أو نستعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو تاريخ الصحابة الكرام، والفتوحات الإسلامية، وهذا أمر مطلوب وحق، والعبرة فيه عظيمة بلا ريب، بل هي أعظم العبر، لكننا إذ نختار أن نأخذ مرحلة الحروب الصليبية بالذات؛ فإن ذلك له دلالته الخاصة من جهة أنها تشابه الواقع الذي نعيشه الآن، والمرحلة التي تحياها هذه الأمة في ظل هذه الهجمة الخبيثة الماكرة التي يستجمع الغرب فيها قواه مرة أخرى؛ فما أشبه الليلة بالبارحة!
إن المؤرخين يقولون: التاريخ يعيد نفسه، ونحن نقول: سنة، قال تعالى: ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا))[فاطر:43]، هذه هي سنة الله تعالى في الأمم، وبالذات في الأمة الإسلامية؛ فكل حياتها كر وفر، وكل مواقفها إقبال وإدبار.
قبل ألف سنة تقريباً من الآن اجتمعت أوروبا، شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، في غارة واحدة على العالم الإسلامي، جاءت الجيوش من بولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وما بقيت -تقريباً- بقطعة في أوروبا إلا وتدفقت منها الجيوش استجابة لداعي تلك الحملة الهوجاء التي بدأها أول من بدأها البابا جريجوري السابع الطاغية المشهور، ثم خلفه البابا أوربان الثاني ومعه المدعو بطرس الناسك .
وبطرس الناسك مشهور جداً في تاريخ الحروب الصليبية؛ فلقد ركب حماراً وطاف به أرجاء أوروبا داعياً الأوروبيين إلى حرب صليبية دينية على المسلمين الذين انتزعوا منهم بيت المقدس، والذين يهينون الحجاج النصارى -حسب زعمه- ويسيئون إليهم.
لقد رفع عقيرته بهذه الدعوة الخبيثة؛ فاستجابت له جموع من الوحوش الضواري، يعترف التاريخ كله شرقيه وغربيه أنهم كانوا مجموعات من الوحوش والرعاع والهمج الذين لا يضبطهم ضابط، ولا يردعهم رادع من خُلق أو دين، وإنما يجمعهم تعصب حاقد، فانسالت هذه الجموع وتدفقت إلى المملكة البيزنطية أو الإمبراطورية الشرقية، ومنها إلى بلاد الشام؛ حيث بدءوا تلك الحروب التي تسمى الحروب الصليبية، واحتلوا مواقع كثيرة، أهمها -بلا ريب- القدس التي دانت وخضعت لهم قرابة قرن؛ حتى حررها الله سبحانه وتعالى واستنقذها بـصلاح الدين الأيوبي .