إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لك الحمد على ما قدرت، وعلى ما قضيت، وعلى ما جمعت، لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، على أن جمعتنا بهذه الوجوه الطيبة المباركة بإذنك في هذه الليلة، ونسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: فإن ما نعيشه في هذه الأيام من الأحداث والفتن ومن تكاثر وتوارد دواعي الحزن والألم لكثير جداً، ولهو مما يدع الحليم حيران، وإنني لم آتِ إليكم حقيقة في هذه الليلة لأزيدكم من ذلك أو لأحدثكم عنه، بل إنما أردنا بهذا اللقاء الطيب المبارك بإذن الله تبارك وتعالى أمرين:
الأمر الأول: أن يكون لقاء تشاور فيما بيننا، عملاً بقوله تبارك وتعالى: ((
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ))[الشورى:38] وقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ))[آل عمران:159] فالأمر يهم ويعني كل واحد منا.
والأمر الثاني: أرجو أن أوفق لأن أنقل لكم الجانب الآخر والصورة الأخرى لبعض ما يجري من أحداث هذه الأيام، وما قد يأتي أيضاً، فإن كثيراً من الناس قد يصيبهم الإحباط أو اليأس عندما يرون أو يسمعون من جهة واحدة فقط، وهذا مما ينبغي أن نحاربه، ونقاومه في أنفسنا ومجتمعنا كما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى.
فأقول: أيها الإخوة الكرام! إن مما ينبغي أن نعلمه جميعاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي أمة مرحومة، وهي أمة مباركة، وهي أمة مصطفاة، وهي أمة منصورة بإذن الله تبارك وتعالى، وهي أمة جعل الله العاقبة لها في الدنيا والآخرة، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، بل هي مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لكثرة ما جاء فيها من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك: أن الله تبارك وتعالى قال: ((
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ))[فاطر:32]، فجعل الله تبارك وتعالى هذه الأمة هي الأمة المصطفاة، وجعل أول من ذكر هو الأدنى ثم كن أعلى منه ثم الأعلى، فجعل الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهو الذي أسرف وارتكب الذنوب وعمل المعاصي لكنه على التوحيد ومن أهل القبلة - جعله الله تبارك وتعالى داخلاً في الأمة المصطفاة.
ولذلك لابد أن نتوقع في المقابل أن ما جاء في الأحاديث الأخرى، وما جاء في الآيات والنصوص الأخرى من العقوبات التي تحل وتنزل بالمذنبين إنما هو من باب تمحيص وتطهير هذه الأمة في الدنيا، حتى تلقى الله تبارك وتعالى وما عليها من ذلك من شيء.
وهذا بخلاف أمم الكفر، فإن الله تبارك وتعالى يملي لهم ويستدرجهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه
معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه: {
لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، ظاهرين على أمر الله -وفي رواية: يجاهدون في سبيل الله- لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله} وأمر الله: هو الريح التي تأتي في آخر الزمان فتقبض كل نفس مؤمنة فلا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم القيامة.
فإذاً: لا بد من بقاء طائفة ولا بد من وجودها، وأن تكون ظاهرة ومنصورة، ويصدق ذلك قوله تبارك وتعالى: ((
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105] وهذا الذي قاله أصدق القائلين تبارك وتعالى إلى الآن موجود في الزبور عندهم في كتابهم المسمى: (الكتاب المقدس)، أن الأرض يرثها الصالحون، وفي مواضع منه يبين الله تبارك وتعالى أنه نزع ولاية الأرض ووراثتها من بني إسرائيل وأورثها لغيرهم، وهذا جاء في سورة الجمعة، فإن الله تبارك وتعالى اختار هذه الأمة الأمية وبعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم من فرع إسماعيل عليه السلام، عندما نقض بنو إسحاق، وكما ذكر في المثل الذي ضربه الله تبارك وتعالى لهم أصبحوا كالحمار يحمل أسفاراً.
فنقلت منهم الأفضلية، ونقل منهم الملك، ونقلت منهم وراثة الأرض إلى أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الأمة الأمية ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام أجمعين.
ولكن هناك قاعدة، ونأتي فقط بمثالين عليها:
المثال الأول: أنه صلى الله عليه وسلم عندما جاءه جبريل عليه السلام لأول مرة، عندما أنزل الله تبارك وتعالى عليه: ((
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1] وعندما عاد إلى بيته -والحديث مشهور معلوم ومتفق على صحته- وحدّث
خديجة رضي الله تعالى عنها بما حدَث، ثم ذهبت إلى بيت
ورقة بن نوفل، وكان رجلاً من أهل الكتاب لديه علم، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم - كان من جملة ما قال له: {
ليتني أكون فيها جذعاً -أي: قوياً ونشيطاً- إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم. ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} هذه سنة.
وفي آخر الأمر وقبيل حدوث الفتوحات والانتصارات العظمى، يقول هرقل -كما في الحديث الصحيح- لـ
أبي سفيان: {
فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه } فقال هرقل في جوابه: {
... وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون العاقبة لهم }.
ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى: ((
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))[آل عمران:140].
إذا: أيها الإخوة الكرام! القضية ليست قضية أرض أو معركة، أو قضية هزيمة في ميدان من الميادين أو في بلد من البلدان، القضية أكبر من ذلك وأعم، إنها قضية حق وباطل، حق أنزله الله تبارك وتعالى، ولا سيما بعد أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء بالحق المبين وبالذكر الحكيم وبالصراط المستقيم، وجاء بالشفاء، وقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وأقام الحجة على الناس أجمعين، هذا حق وفي مقابله باطل، لا بد أن يبتلى هؤلاء بهؤلاء، كما قال الله تبارك وتعالى: ((
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))[محمد:4] فلا بد من البلاء والمقارعة، ولا بد من المجادلة والأذى في أول الدعوة، ثم يعقب ذلك كله الفتح المبين، والجهاد، ثم انتشار الدين، وعودة الحق، وهكذا كرات ودورات شهدها تاريخ الإسلام، مع أمم الكفر.
أهل الكتاب هؤلاء وأمم الكفر من بعدهم عامة لم ولن يمر عليهم يوم ولا ليلة منذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلا وهم يكيدون ويدبرون المؤامرات ويخططون للقضاء على هذا الدين، وكم من معارك دارت، وكم من شهداء، شهداء في جنوب
فرنسا، وشهداء في
أسبانيا، ثم أُخذت
الأندلس كلها، وشهداء في بلاد
المغرب، وفي
أفريقيا، وفي أقصى المشرق، في كل مكان، كم فقدت الأمة، وكم قاومت، وكم قارعت! لكن في النهاية تكون الغلبة لها بفضل الله تبارك وتعالى.
لكن هذا لا يأتي إلا بعد الجهد، وبعد النصر والمشقة والعناء الشديد، الذي لو كان أحد ينجو منه لنجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكرم الخلق على الله، وأحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى.
ما الذي حدث له في كثير من معاركه؟ في يوم
أحد -مثلاً- شج صلى الله عليه وسلم وكسرت ثنيته، وسقط في الحفرة، وحدث له من البلاء ما الله تعالى به عليم.
ماذا حدث له صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في
مكة؟ حوصر في الشعب قرابة ثلاث سنوات هو وبنو هاشم ونالهم من الضيق والأذى والكرب والشدة ما جعل قلوب المشركين ترق لحالهم، ويتداعون واحداً واحداً لتمزيق الصحيفة الظالمة الجائرة التي وقعوها فيها على محاصرته صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب.
انظروا هذا الأذى والصبر الطويل، بل الصبر الجميل الذي صبره صلى الله عليه وسلم، والصفح الجميل الذي صفحه، والهجر الجميل الذي هجرهم به صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لما جاء يوم الفتح وأظهره الله تبارك وتعالى عليهم قال: {
ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء} صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لا يريد لهم إلا الخير والهداية، وكل ما ناله في سبيل الله عز وجل فإنما عمله من أجل الله وفي ذات الله وحده، واحتسبه عند الله، وأتم الله عليه نعمته وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما جاء: ((
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً))[الفتح:1] كل هذا من عند الله.
وهكذا حال هذا الدين، جاءت الهجمة الصليبية الأولى، ثم جاءت الهجمة التتارية المغولية، ثم جاءت الهجمة الاستعمارية الأخيرة، أو الحرب العالمية الأولى، ثم الآن نحن نعيش في هذه الهجمة العنيفة الشديدة، التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يعين عليها كما أعان على ما قبلها، وإن الله سبحانه وتعالى لقدير، وإنه تبارك وتعالى قد وعد فقال: ((
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *
يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ))[غافر:51-52].
إذاً.. كل ما يصيب هذه الأمة هو تطهير وكفارة؛ ليتخذ الله منها شهداء، هؤلاء الذين لم يفعلوا ما يستوجب العقوبة، بل هم أهل الطاعة والجهاد والمقاومة للعدو، هؤلاء يختارهم شهداء، وآخرون يطهرهم الله تبارك وتعالى ويمحص قلوبهم، ويكفر عنهم خطاياهم بما ينالهم وما يبتليهم به سبحانه وتعالى، ففي النهاية العاقبة محمودة، ولله الحمد والشكر.
وأما الكفار فقد حذرنا الله تبارك وتعالى ونبهنا، فقال: ((
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ *
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ))[آل عمران:196-197] لا نغتر ونقول: عندهم المال والحضارة، وانتصروا في المعركة، وعملوا كذا وكذا، والله إنهم لفي شقاء وضنك، وإنهم لفي كربات وآلام لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: ((
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:124] هؤلاء القوم يعانون المعيشة الضنك، وإن ما وقع في الأحداث السابقة والتي هي في الحقيقة لم تنته حتى الآن، لهو أحد الأدلة على ذلك.