المادة    
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى.
أيها الإخوة المشاهدون في مشارق الأرض ومغاربها، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
عندما تضعف الأمم تظل تكابر عن الاعتراف بالضعف إلى أن تجثو تحت مطارق الهزيمة، وحينئذٍ تحار العقول، ويستبد اليأس، فلا يبقى إلا نزر يسير من العقلاء يتعاملون مع النتائج وينظرون إلى الواقع كما هو، وليس كما يشتهون، ويلتفتون إلى الأسباب كما يجب، وليس كما يريد رعاع الناس في محاضن التخبط والإحباط والجهل والبعد عن العلماء. وفي عقلية الظلم والاستبداد يولد العنف، العنف لا يعرف وطناً ولا ينحصر في طائفة، ولا يستقر على قاع، ولا يحده سطح، فلماذا يتهم المسلمون وحدهم دون غيرهم بالعنف؟!
عليك الأدهى والأمر، أيجد العنف تأصيلاً وتبريراً؟
أيجد البغي تصحيحاً وتيسيراً؟
صحيح أن فريقاً منا يريدون أن يولد الفجر قبل انقضاء الليل، وأن يولد الجنين قبل تمام الحمل ولو ولد ميتاً مشوهاً، فلا يجدون بداً من تجاوز السنن التي لم ولن تجامل أحداً: ((فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً))[فاطر:43].
هل بات الصبر والحلم عقيماً والعنف ولوداً؟
وهل أصبح العلم والفقه قاصراً والجهل قادراً؟
ألا نتفق أن العنف يشترك فيه كل فاعل له، وداعٍ إليه، ومفتِ به، ومصرّ على تكريس أسبابه وفتح أبوابه، ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99].
أحبتي: أهلاً وسهلاً بكم في هذا اللقاء (المسلمون والعنف بين التهمة والحقيقة)، يسر قناة اقرأ الفضائية أن تستضيف في هذه الليلة الشيخ الدكتور العلامة/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الأمين العام للحملة العالمية لمقاومة العدوان، باسمكم جميعاً -أيها الأحبة- أرحب بفضيلته أجمل ترحيب، فأهلاً وسهلاً بكم في قناة اقرأ الفضائية وفي برنامج البينة.
  1. التلاعب بالمصطلحات

    المذيع: فضيلة الشيخ! الإسلام على رأس الرسالات والأديان السماوية التي حاربت العنف، واتخذت منه موقفاً واضحاً لا غبش فيه، إلا أن هناك من يسعى متعمداً الخلط بين موقف الإسلام والممارسات الإرهابية؛ ليوحي إلى الناس بالطعن والتشكيك أن الإسلام يحث ويملي على تابعيه استخدام العنف وقتل الأبرياء للوصول إلى أهداف معينة، فماذا يقول الشيخ الدكتور سفر الحوالي في هذا الموضوع؟
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد:
    الحقيقة إن هذا الموضوع لا بد له من مدخل أو مقدمة، إن لم نستوعب هذه المقدمة فلن ننتهي إلى شيء في هذه القضية، فهناك مقدمة ضرورية ولعلي لا أطيل فيها بقدر الإمكان، لكن لو لم يكن من نتيجة هذا اللقاء المبارك إلا أن يستوعب ويفهم الإخوة المشاهدون هذه القضية، فهي بذاتها نكون قد خرجنا بشيء.
    هذه القضية هي أن المشكلة التي يعاني منها الفكر العالمي عموماً، ويعاني منها الفكر أو التفكير الإسلامي أيضاً، المشكلة التي لو ضبطت لما اختلف أكثر المختلفين هي: ما مفهوم العنف؟ وما مفهوم الإرهاب؟
    بمعنى أعم: الفكر العالمي يعاني من مشكلة المصطلح .. مَنْ وضعه؟
    ومن يحدده؟
    ومن يروج له؟
    وكيف يفهم في بيئة دون بيئة، وفي سياق دون آخر؟
    هذه المشكلة مهمة جداً، لا يوجد في عالم المنطق البشري ولا لدى الفلاسفة والمنظرين ما يمكن أن يضبط هذه القضية، وقد شكا منها أئمتنا الكرام، شكا منها حتى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، حيث ذكر أن أكثر ما يختلف فيه الناس هو بسبب التأويل، أي: ما معنى هذه الكلمة؟ وكيف نفهمها؟
    هذه القضية هي مشكلة فكرية عادية إذا ضممت إليها وربطتها بواقع عالمي ضخم، واقع يستخدم الكلمة الموجهة، ويصنعها أو يستصنعها ثم يوظفها كما يشاء، ويروجها كما يشاء، ويراوغ بها كما يشاء على أمم مستضعفة لا تملك أن تقاومه.
    فهي حرب نفسية عنيفة جداً تشن من قبل القوى الطاغية المستكبرة على الأمم الضعيفة، ولا سيما هذه الأمة التي تمثل الحضارة الند في مقابل تلك الحضارة الأخرى المعادية.
    إذاً: ينبغي أن نحدد بالضبط الموقف من العنف أو من الإرهاب، هل هو موقف الفيلسوف النظري المجرد الذي يتكلم الكلام العادي؟ أم هو موقف السياسي الذي يتعامل مع كمٍّ ممكن من الحقائق والواقع؟ أم هو موقف العالم المفتي الذي يتكلم ويخاطب القلوب بالإيمان وبالمواعظ الإيمانية والقرآنية والنبوية، ولكن العالم في وادٍ آخر أحياناً؟
    المذيع: لكن هل هذه المواقف إذا اجتمعت تخرج بتعريف للعنف والإرهاب؟
    الشيخ: لا يمكن. لا يمكن أن يجتمع الناس، وسيظلون مختلفين؛ لأن هذه المصطلحات كل منهم يعبر بها من خلال عقيدته وإيمانه وخلفيته، وهذا طبيعي! فكيف -كما قلت- إذا كان هدفاً متعمداً، وأصلاً متعمداً لقوى طاغية متجبرة في الأرض، تريد أن توظف ذلك، وهذا لا جديد فيه؟!
    عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم مستضعفاً في مكة كانت قريش توظف المعلومة والمصطلح في عكاظ ومجنة، وفي داخل مكة: مجنون .. كذاب .. ساحر ... إلخ؛ حتى إن أكثر العرب أو كثيراً من العرب خدعوا بهذا، فإذا قيل: المجنون أو الصابئ أو كذا.. فإنه مباشرة ينطلق إلى مَنْ؟ إلى أفضل الخلق وأطهرهم وأزكاهم محمد صلى الله عليه وسلم.
    المشكلة ليست في موقف الإسلام، أو في حقيقة العنف عندما أتكلم عنه أنا أو أنت أو أخ مسلم، أو شيخ أو داعية أو عالم، المشكلة أكبر من ذلك، المشكلة: أين التفكير العالمي والمنطق السليم الذي يمكن أن يستوعب حقيقة أن كل واحد يوظف العبارة كما يريد ضد الآخر؟
  2. العنف المذموم والقوة المشروعة

    المذيع: إذاً دعني أنطلق وآخذ منكم هذه المعلومة: ما هو مفهوم العنف بعبارتكم، ومن منطلق مفهوم الفكر الإسلامي؟
    الشيخ: في الفكر الإسلامي وفي عقيدتنا وإيماننا أن الله تعالى أنزل إلينا هذا الكتاب مفصلاً، فلدينا كل شيء مفصل، لا إهمال في هذه القضايا على الإطلاق، يفرق القرآن وهو الفرقان بين الخير وبين الشر بوضوح، يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا وبين هذا بوضوح، يفرق بين القوة العادلة المشروعة وهي مطلوبة ولا بد منها: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))[الأنفال:60] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف}.
    يُفرق بينها وبين العنف، العنف ليس من ديننا، فالعنف مذموم، لكن القوة المشروعة مطلوبة، من أين يأتي الإشكال؟ من الفهم، ويأتي الخلل في التطبيق، فالآن لدينا من لا يفرق بين الكذب وبين المعايير....
    المذيع: فضيلة الشيخ! لغزارة علمكم أريد أن ألاحق العبارات واحدة تلو الأخرى: أنت قلت: إن هناك فرقاً في التطبيق، ماذا قصدت؟
    الشيخ: الإشكال يأتي في التطبيق، وهذه لا بد أن نوضحها إن شاء الله، المهم عندما نتكلم عن ديننا الذي هو ما أنزله الله من وحي، فإننا نتكلم عن كمالات مطلقة لا شر فيها، لكن عندما نتكلم عن تطبيقي وتطبيقك له وواقع الحضارة الإسلامية، وواقع الدول الإسلامية يأتي فيها عنف، يكون فيها ظلم، ويكون فيها من الأخطاء التي لا يجوز أن تحسب على المبدأ والعقيدة والدين، إنما تحسب علي وعليك وعلى من فعلها.
    المفهوم في الإسلام واضح ومحدد، الإسلام عندما يحدد العدل فهو عدل لنا وعلينا، لنا ولغيرنا، عندما يحدد العنف يحذر منا ومن غيرنا، وهذا لا يوجد في أي حضارة أخرى إلا في الحضارة الإسلامية التي كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة الأساس القوي التي قامت عليه.
    المذيع: إذاً أنا أستنتج مما تقول: أن تطبيق هذا المفهوم يختلف، ومنه ينتج العنف؟
    الشيخ: لا. مفهوم العنف نفسه يختلف، ما تراه أنت عنفاً ..
    المذيع: أنا لا أتكلم ما بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى، بل أتكلم بين الأمة الإسلامية نفسها؟
    الشيخ: الأمة الإسلامية نفسها يحصل بينها العنف، والجور.
    المذيع: ما سبب عدم تطبيق المفهوم الصحيح للإسلام؟
    الشيخ: إن أي مشكلة نعاني منها فهي بسبب ذلك، وهي أننا لم نفهم ديننا، ولم نعمل به كما أمر الله تبارك وتعالى، ومن هنا وجد في الإسلام طواغيت تستخدم العنف ضد الشعوب، ووجد في الإسلام أيضاً من المفكرين أحياناً أو من الأدباء، أو من بعض العلماء من كان في أسلوبه عنيفاً جداً مع العلماء الآخرين، ووجد أيضاً من العامة، ووجدت فرق منهجها الداعي هو العنف، كـالخوارج مثلاً.
    نحن لا نزكي أنفسنا باعتبارنا بشراً وباعتبار حضارتنا جهداً بشرياً ..