وهنا خطورة كبرى، ومطب كبير أفسدتْ به
الصوفية دينَ المسلمين، بل إن سرَّ التصوف يكمُن تحت مثل هذه الأمور.
فلو رجعنا إلى مرجع قديم من مراجع
الصوفية، وهو كتاب
أبي عبد الرحمن السلمي، من كبار
الصوفية المعروفين، مؤلف
التفسير الإشاري و
حقائق التنـزيل كتب كتاباً عن
الملامية، أو
الملامتية: وهم فرقة
الصوفية في المشرق، وهم مِن أوائل الزنادقة الذين أسَّسوا هذه الفكرة، وهي فكرة أن الأولياء مخالفون لظواهر الشرع، ومخالفون لأحوال الناس.
ويقول عن هؤلاء
الملامية أو
الملامتية، في صفحة [98] مِن كتابه
الملامتية، الذي حققه
أبو العلا عفيفي، طبع في
مصر سنة (1364هـ)، يقول: '' إنَّهم رأوا التديَّن بشيءٍ مِن العبادات في الظواهر شِركاً والتزيَّن بشيء مِن الأحوال في الباطن ارتداداً'' يقولون: إن مَن يُظهر شيئاً مِن الطاعات، أو من العبادات فهذا مشرك، وإذا أسرَّ في قلبه شيئاً مِن الأحوال فهو أيضاً مرتد.
ويقولون: إن كلَّ عملٍ وطاعةٍ وقعت عليه رؤيتُك، واستحسنْتَه مِن نفسك فذلك باطل.
وينقل عن أحدهم، فيقول: '' هم قومٌ قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم، ومراعاة أسرارهم، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا مِن أنواع القُرَب، والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنَهم، فلامهم الخلْقُ على ظواهرهم، ولاموا هم أنفسهم على ما يعرفون مِن بواطنهم، فأكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب، وتصحيح الفِراسة في الخلق، وإظهار الكرامات عليهم!! ''.
أي: أن هؤلاء القوم لما أظهروا القبائح -بزعمهم- ازدراءً لأنفسهم، وحتى لا يتعلق بهم النَّاس، وحتى لا يظنوا فيهم أنَّهم أولياء، وهم يريدون أن يكونوا أولياء في الباطن فقط، ولا أحد يعلم بهم، وينـزِّهوا عن أنفسهم الرياء، وعن كلام الناس: أظهروا القبائح، وأظهروا المعايب، وأظهروا الشنائع حتى أن منهم مَن كان يأتي الفاحشة في الدواب علانية أمام الناس، ومنهم مَن دخل الحمَّام فسرق لباس أحد النَّاس، ولبسه بحيث يُرى، وخرج في الشارع، وكان الناس يعتقدون فيه الولاية، فلما رأوه أدركوه، وضربوه، وأخذوا الملابس، فقيل له في ذلك، فقال لهم: حتى أسْقط مِن أعينهم، وأبقى في عين الحق!! إلى آخر ما ينسجونه حولهم مِن الحكايات التي يصنعونها -كما يقولون- في تزكية النفس، وتطهيرها.
وهذا الكلام من المعلوم أنه مخالف لقول النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {
من سرَّته حسنتُه، وساءتْه سيئته، فهو المؤمن} فالمؤمن لا يحب ذلك، ولم يؤمر أن يُظهر السيئات والقبائح، لكن القضية أكبر مِن قضية مخالفة هذا الحديث، القضية: أنَّها مخالفة للإسلام، وهدم له، وإيضاح ذلك بشيء مِن التفصيل أن نقول:
إن الزنادقة الذين أنشئوا هذا الدين، وركَّبوه، ونقلوه إلى المسلمين، ولبَّسوا به عليهم، هؤلاء واجهتهم الأمَّة بالإنكار، والرد والتكذيب حتى العوام مِن المسلمين، ودمغوهم بالكفر، والزندقة، وقلَّ أن تجد عالماً مِن كبار
الصوفية إلا واتُّهم بالزندقة؛ إمَّا أن يكون قُتل بتهمة الزندقة، أو اتُّهم بها، أو سجن كما سجن
ذو النون، وكما اتُّهم
الجنيد، وقتل
الحلاج، وغيرهم مِن هذا النوع.
واستدل العلماء، والمسلمون بظاهر حالهم هذا المخالف للشرع على خبث الباطن، وعلى خبث الطوية؛ لأنَّه ليس بوسع المسلم أن يرى رجلاً يمشى مكشوف العورة، أو رجلاً يرتكب الفاحشة في البهائم علانية، ويترك الجمع، والجماعات، ويُقر على ذلك؛ فضلاً عن أن يعتقد أن هذا مِن رجال الغيب، أو مِن أولياء الله، لا يمكن هذا أبداً.
فهؤلاء الزنادقة أرادوا أن يخترعوا تقاة، أو تقية، أو خديعة شيطانية، لكي يوقعوا بها النَّاس، ويلبِّسوا بها على المسلمين، فقالوا لهم: هؤلاء القوم أولياء، فوصلت بهم مجاهدة النفس إلى حد استعذاب الأذى في ذات الله تعالى، وإلى استجلاب تهمة الناس لهم، هم يدْعون النَّاس إلى أن يتهموهم، ويلوموهم، ويتكلموا فيهم، ويكرهوهم، ويحتقروهم، هم يريدون بذلك أن يُنقُّوا أنفسهم، بمحبتهم لله، وأن يتجردوا عن الرياء، وعن الشهرة، وأن يسقطوا مِن عين الخلق، ويبقوا في عين الحق -كما يقولون- فهم متعمِّدون في هذا، ويحبون أن يقول النَّاس: إنَّهم زنادقة! مخالفون! ويستمرون على إظهار هذه الأحوال على حد قول الشاعر كما يقولون:
أجد المـلامة في هـواك لذيـذة حبّاً لذكــرك فليلمني اللُّـوَّم
لكن في الحقيقة أن المسخور منهم، والمستهزأ بهم هم هؤلاء أصحاب الظاهر المغفلون الذين ينتقدون مثل هؤلاء الأولياء، أو يلمزونهم، أو يتكلمون فيهم بدعوى أنهم مخالفون لظاهر الشرع، وهؤلاء شهدوا الحقيقة الكونيَّة، وأدركوا سرَّ القدر، واشتغلوا بإصلاح القلب عن إصلاح الظاهر، واشتغلوا بمحبة الحق عن سماع إنكار الخلق، ويقولون مِن جملة ما يقولون ويتعللون به: إنَّكم أنتم يا أهل الظاهر -الفقهاء، والعلماء، والرسوم- تنكرون علينا أن نترك صلاة الجمعة، وأنتم تكتبون في كتب الفقه: أن مَن خاف ضياع ماله جاز له تركها لأجله، ومَن كان مسافراً، ولو كان مسافراً للدنيا أو للتجارة يجمع المال تسقط عنه صلاة الجمعة، فكيف بالذي في الخلوة مستغرق مع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وقلبه متعلق بمحبة الله الذي هو أغلى مِن الدنيا كلِّها؟
وتقولون: هذا لا يمكن أن يَترك الجمعة، والجماعات؟
ولا يجوزله أن يعتكف في خلوة، ويترك الجُمُع والجماعات؟
ويقولون: أليس الله تعالى أغلى وأعظم مِن الدرهم والدينار؟
والمجتمِع مع الله أليس هو أعظم ممن هو مجتمِع على قليلٍ مِن المال يخشى أن يضيع منه؛ فيجوز له -عندكم وفي فقهكم- أن يترك الجمعة لأجله؟!
ويقولون: أنتم تقولون: إن الإنسان إذا أغمي عليه؛ فانكشفت عورته فهذا جائـز، وقد يكون هذا الإغماء بسبب ضربة شمس، أو لمرضٍ، أو نحوه، فلا حرج عليه أن تكشف عورته.
وتذكرون -أيضاً- في كتبكم يا
أهل السنة أن زوج
بريرة كان يتبعها في طرقات
المدينة، ودموعه تنحدر حبّاً لها، ولم يُحرَّج عليه في ذلك، وكان ذلك في عهد النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لا تُنكرون ذلك؟ وتنكرون على مَن يكون إغماؤه لآية سمعها، أو كشفٍ جَلَّى له الحق فأغمي عليه وكشفت عورته، وأخذ يصرخ ويقول: أنا الحق، أنا الحق، أنا الله، أنا الله!! كيف تُعذرون مَن سقط وتكلَّم بما لا يدري من مرضٍ أو نحوه، وبين مَن لم يسقط إلا حبّاً، ووجداً، وهياماً بالمعبود الحق، وبالحبيب الأعظم، وهو الله تعالى عندهم!!
أقول: رأى الزنادقة أن هذه هي أخطر وسيلة لهدم دين الإسلام، وإبعاد الأوامر والنواهي وإبطالها، وإبطال الجهاد، وإبطال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واندثار أمر الإسلام بالكلية، والقصص في ذلك كثيرة، منها: ما ذكره
شَيْخ الإِسْلامِ، وتحدَّث عنه في كتاب
الاستقامة: أن بعضهم كان إذا سمع المؤذن قال له: اسكت يا كلب! لعنك الله! أو نحو ذلك وينهره ويشتمه، وكثيرٌ مِنهم كان يصنع هذا، فإذا قيل له: كيف تقول ذلك؟!
قال: هؤلاء أهل الظاهر يؤذِّن في الظاهر، وهو في الباطن لا يعلم حقيقة التوحيد الذي يقوله عندما يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، فإذا نقدهم أحد كيف تقول للمؤذن هذا الكلام؟
يقول: هذا مِن ولايته، هذا مِن فهمه للتوحيد يشتم المؤذن؛ لأنه يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، وهو لا يدرك التوحيد... إلى غير ذلك.
المهم أن هذه طريقة لإسقاط الأوامر والنواهي، فأنت لا تنكر على أي إنسان منهم؛ لأنك لا تدري -في عرفهم، وفي كلامهم- أن هذا المجذوب الذي تراه مطروحاً على المزبلة والناس هناك يصلون؛ ربما أنه لا يفعل هذا إلا تستراً، وإلا فهو قوَّام بالليل، وبكَّاء بالسَّحَر، وأوَّاه منيبٌ في خلوته حين ينقطع عن الخلق وينفرد بالحق.
وما يدريك أنك قد تنكر على رجلٍ سكران في الشارع، وليس بسكران سُكْر خمرٍ إنما هو سُكْر الوله، والمحبة، والوجد، والشوق!!
أيضاً: قد ترى امرأة عارية الشعر والنَّحر تتواجد وتتمايل، فتقول: هذه لاهية، أو راقصة، أو مطربة، وهي وليَّة! مستغرقة في عين الجمع مع الله! أنت ترى جسدها على الأرض، ولكن قلبها في السماء عند الله، أو في العرش!!
ويمكن أن ترى مجنوناً يرغي ويزبد ويطارد الصبيان في الشوارع، وتقول: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به"، أو نحو ذلك، لكن لا تدري -على كلامهم- أنك أنت المبتلى بحجاب الغفلة، هذا عارفٌ مِن العارفين، أو بَدلٌ مِن الأبدال، تستَّر بالجنون حتى لا يُدرى من هو، وتكون هذه الولاية خاصة بينه وبين الله، حتى يلومه النَّاس فيما يفعل؛ فيحصُل له الأجر مِن لومهم.
أقول: إن مثل هذا الكلام هو: تلبيس للحقائق، وإضاعة للمعايير التي نعرف بها الصالح مِن الطالح، والمجنون مِن الصحيح، فتضيع المعايير، ثم تنشر هذه الترهات والخزعبلات بين عامة المسلمين وجهلتهم، خاصة في المناطق النائية في القديم، فماذا يكون رد الفعل عند المسلمين إذا اعتقدوا أن الولي ليس الذي يدرِّس كتاب الله، و
الصحيحين في المسجد الحرام -مثلاً- أو يجاهد في سبيل الله؟
وإنما الولي: هذا الأشعث الأغبر القذر المنتن، الذي نراه يلتقط القمائم مِن جوار الحرم، ولا يمد يده لأحدٍ لأنَّه متوكلٌ، فيقول: ربما كان هو "القطب الأعظم"! أمَّا هذا الذي يمكث في الحَرَم يُدرِّس
البخاري، أو
فتح الباري فهذا من علماء الظاهر، ومِن الناس العاديين، وليس مِن "رجال الغيب"، ولا مِن "أهل الحقائق" فهنا الخطورة.
وتحت هذا اللَّبس يذكرون الكرامات، ويذكرون الشركيات الشنيعة، ويدافعـون عن ذلك دفاعاً مريراً، وأنا أنقل نصّاً واحداً يبين ذلك من كتاب
المشْرَع الروي في فضائل آل با علوي نقلاً عِن
اليافعي الذي له كتاب
مرآة الجنان وهو مليء بهذه الخرافات أيضاً.
يقول
اليافعي في [1/322]: '' وكثيرٌ مِن هذه الطائفة -أعني:
الصوفية- جمعوا بين الوَلَه والتجريد في ظاهر الشرع -تخريباً بائناً- أسقطهم عن أعين الناس؛ ليستتروا عن شهرة الصلاح، يخفون محاسنهم ويظهرون مساوئهم، ومنهم مَن يكشف عورته بين الناس، ومنهم مَن يُرى أنَّه لا يصلي، وهم يصلُّون، ويجتهدون فيما بينهم وبين الله تعالى، وقد شوهد كثيرٌ منهم يصلي في الخلوات، وفى جوف الليل؛ لأنَّهم كانوا يبالغون في نفي رؤية الخلق، وإسقاطها مِن قلوبهم، ولا يبالي أحدهم بكونه عند النَّاس زنديقاً إذا كان عند الله ليس زنديقاً، كنسوا بنفوسهم المزابل لتحيا لمولاهم حياةً طيبةً قبل المعاد!'' اهـ.
يقولون: فليكن زنديقاً عندك، وعند غيرك، لكنه عند الله ولي!!
لو جاء زنديق حقيقي، وقال هذه الكفريات! فما أدرانا أن يكون هذا وليّاً؟!
إلى أن يقول: '' ومنهم مَن يحتجب بحاله عن أعين الناس، وهم معهم في الصلوات! }'' أقول: انظروا يصلي مع الجماعة ويمكن أننا لم نره!!
يقولون: هذا موجود فلا تُنكر عليه، '' ولهؤلاء أطوار لا يدركها العقل'' - هم يسمُّون اختلاف التشكل: تطوراً!! لعلنا نقرأ هذا في الكرامات، هذا التطور مِن عمل المشعوذين، والسحرة، والجن، واستعانتهم بالشياطين، '' وإنما تدرك بالنُّور- يعني: بالكشف- ويعرفها العارفون بالله تعالى -يعني: لا نعرفها نحن المحجوبون ''.
يقول: '' فقد روِينا أن بعضهم كان لا يُرى أنَّه يصلي، فأقيمت الصلاة يوماً وهو جالس، فقال له بعض الفقهاء: قم فصلِّ مع الجماعة - فالفقيه أنكر عليه، وقال له: قم صلِّ- فقام، وأحرم معهم، وصلَّى الركعة الأولى، والفقيه المنكِر ينظر إليه، فلمَّا قاموا إلى الركعة الثانية: نظر الفقيه إلى مكان الرجل، فإذا به غيره يصلي؛ فتعجب مِن ذلك، ثم رأى في الركعة الثالثة شخصاً ثالثاً، ثم في الرابعة رابعاً، فزاد تعجبه - أربعة أشخاص في أربع ركعات- فلما سلَّم مِن صلاته التفت، فرأى صاحبَه الأول جالساً مكانه، وليس عنده أحدٌ، فتحير الفقيه مما رأى، فقال له الفقير وهو يضحك -الصوفي يسمونه فقيراً-: يا فقيه! أي الأربعة صلَّى معكم هذه الصلاة؟
يقول
اليافعي: فاعترف الفقيه بفضله وزال ما عنده من الإنكار! }''
إذاً: مادام أنه يصلي كل ركعة بشكل شخص آخر: إذاً يمكن أنه يصلي في أي وقت، وأنت لا تنكر على أي إنسان تراه تاركاً للصلاة، والناس يصلون الجمعة والجماعات لأنَّك لا تدري؛ لعله صلَّى في صورة أخرى، كيف تنكر على أولياء الله فأنت مِن جهلك تنظر بنظرك العقلي، الحسي العادي، وهؤلاء قوم لهم أمور أخرى، ولهم أطوار أخرى!
أقول: إنَّه بمثل هذا الكلام والتلبيس استطاعت
الصوفية أن تضرب بسورٍ عريضٍ بين أولياء الله الحقيقيين المجاهدين في سبيل الله، وعلماء الأمة العظام الذين يقفون في وجه المنكرات، ويحاربون أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبين عامة المسلمين، ضربوا بينهم بسورٍ عظيمٍ؛ فأصبح مَن لم يكشف عورته، ومَن لم يترك الصلاة، ومَن لم يطرح نفسه على المزابل، أولمَ يَظهر للنَّاس أنَّه بَهلول، أو مجنون؛ فهذا ليس بوليٍّ عند عامَّة المسلمين، وليس مِن أصحاب الكرامات، ومِن ثَمَّ فلا يلتمس منه هدًى ولا علم؛ لأنَّه مِن أصحاب الظاهر، ومِن أصحاب الرسوم، ومِن الملبَّس عليهم، ومن المحجوبين.. إلى آخر هذه الألقاب التي ينبز بها هؤلاء
الصوفية علماء الشريعة، وفقهاء السنَّة، وأولياء الله تعالى الحقيقيين.
ولم تقف
الصوفية عند هذا الحد فحسب؛ بل أصبحت تُنكر على مَن يُنكر على أي دين! -أي: لا يكفي أن تنكر على إنسان مسلم أنَّه كشف عورته، وترك الجمعة، والجماعة، بل يقولون: لا تنكر على أي إنسان أنه منتسب إلى أي دين!!
انظروا إلى كتاب
أخبار الحلاج ص [54]، يقول
عبد الله بن طاهر الأزدي: '' كنتُ أخاصم يهوديّاً في سوق
بغداد، وجرى على لفظي أن قلتُ له: يا كلب! فمر بي
الحسين بن منصور الحلاج، ونظر إليَّ شزراً، وقال: لا تنبِح كلبك، وذهب سريعاً، فلما فرغتُ مِن المخاصمة قصدته، فدخلتُ عليه فأعرض عني بوجهه، فاعتذرتُ إليه، فرضي، ثم قال لي: يا بني، الأديان كلها لله عز وجل!! شَغَل الله بكل دينٍ طائفة لا اختياراً فيهم، بل اختياراً عليهم، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه: فقد حَكَم أنَّه اختار ذلك لنفسه.
وهذا مذهب
القدرية، و
القدرية مجوس هذه الأمة
واعلم أن
اليهودية، و
النصرانية، والإسلام، وغير ذلك مِن الأديان هي ألقاب مختلفة، وأسامٍ متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف، ثم قال -أي: أنشد
الحلاج شعراً بعد ذلك-:
تفكرت في الأديان جـداً محققاً فألفيتها أصلاً لها شُعُبٌ جمّاً
فلا تطلين للمرء دنيا فإنــه يُصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنـده جميع المعالي والمعاني فَيُفْهَما ''
يقول: الأديان كلها واحدة، ولا يجوز لك أن تقول لأحدٍ: إنَّك يهودي، أو نصراني، كل الديانات حق، وكلها طرق موصلة إلى الله! هكذا يقول، وهنا تلتقي
الماسونية الحديثة بهذه الأفكار القديمة، ومثل هذا قول
ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِ
لقد صار قلبي قابلاً كل صـورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكـعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني
يقول:
ابن عربي: ديني دين الحب -كما قلنا سابقاً أن
الثيوصوفية محبة الله- فدينهم دين الحب فقط، فمَن أحب الله على أي ملة، وعلى أي نحلة -يهوديَّة كانت أو نصرانيَّة أو إسلامية- فهو حبيب الله عندهم، ولا ينكَر عليه على الإطلاق، هنا تلتقي
الصوفية مع
الماسونية، وهنا ندرك لماذا
الماسونية تشجع
التصوف؟
لأنَّ
الماسونية تحت هذا الكلام يهدمون الأديان جميعاً ليبنوا هيكل سليمان، ودين
اليهودية فقط، فيطلبون مِن الناس أن يتركوا أديانهم.
أمَّا اليهود فدينهم مغلق، فهم لا يريدون أن يدخل أحدٌ في دينهم أبداً، فلا يدْعون أحداً إلى دينهم، فيريدون مِن أهل الأديان الأخرى أن يتخلوا عنها، وأن يتركوها، وأن يساهموا جميعاً في بناء هيكل سليمان.
الماسونية و
الصوفية تلتقي هنا، والمؤسسون متفقون مِن الأصل وإلى الآن، ولذلك لا عجب أن نرى
الماسونية والدول التي تحركها
الماسونية في الخفاء تدعم التصوف وتنشره وتحقق تراثه، وتفتتح أقسام الدراسات العليا ونحوها عن الإسلام، وما هي عن الإسلام شيء، وإنما هي عن هذا التصوف.
أقول هذا لنعرف حقيقة هذا الدين، وحقيقة الدوافع التي تدفع
الصوفية لإظهار القبائح -كما يسمُّونها- وعند استعراضنا للكرامات سنجد الكثير مِن مثل هذه الأمور، ونعرف علتهم، وهدفهم وراء ذلك كله.