المادة    
رجال الغيب هؤلاء هم -كما يزعمون-: الأولياء وهم الذين يتصرفون في الكون، ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة؛ كما سيأتي في النماذج التي سوف نذكرها عنهم إن شاء الله.
أعظم رجال الغيب عند الصوفية هو: القطب الأعظم، أو قطب الوجود، أو الغوث الأعظم، أو واحد الزمان، وهذه أسماء متقاربة.
هناك حقيقة فلسفيَّة ثابتة، وأكثر الباحثين المعاصرين ذكروها ونقلوها، ومن قبلهم وهي: أنَّ أصل فكرة القطب الأعظم عند الصوفية هي العقل المطلق عند أفلاطون، وأفلاطون كما ذكر سيد قطب -رحمه الله- في خصائص التصور الإسلامي في فصل الواقعية نقلاً عن العقاد -كما أظن- وقد ذكرها في صفحة [166]، والعقاد ذكر ذلك في عقائد المفكرين.
المهم من ذلك أن أفلاطون يقول: ''إن الله كامل، ولا يصدر عنه الشر، والعالم ناقص، والشر فيه كثير، ولا يليق بالكامل أن يفكر في الناقص، ولا يليق بالله أن يكون هذا الشر منه؛ فلابد من تقدير واسطة بين الله والعالم؛ تكون هي المتصرفة في الكون، وهي المفكرة فيه، المشتغلة بأمره، وتكون الشرور، ومصدر الشرور منها، وتكون تفكيرها في هذه الشرور'' ولا ننسب هذه الشرور إلى الله بزعمهم.
فـالصوفية أخذوا هذه الفكرة مِن أفلاطون، ولا تستغربوا عندما أقول: أخذوها من أفلاطون؛ بينما أنا أقول: إن أصل التصوف هندي؛ لأنَّ البيروني نفسه ذكر هذا، وهذا معروف أيضا في تاريخ الفكر الأوروبي؛ فاليونان لم يكونوا يملكون فكراً فلسفيّاً، وإنَّما كانوا يقتبسون مِن الهند، والجنس الآري: يجمع الأوروبيين بالهنود في جنس واحد، ثم لما وُجدت لهم فلسفاتهم -أفلاطون، وأرسطو، وأمثالهم- استغنوا، وانفصلوا عن الهنود في حين أن أرسطو، وأفلاطون يُعتبروا متأخرين، بينما فلاسفة الهنود كانوا قبل آلاف السنين قبل الميلاد.
والحاصل: أن هذا العقل المطلق عند أفلاطون سماه الصوفية: [القطب الأعظم] أو [واحد الزمان]، أو [الغوث الأكبر]، أو نحو ذلك، ويقولون - كما في طبقات الشعراني [1/ 173] - يقول: '' لو لم يصبح واحد الزمان يتوجه في أمر الخلائق مِن البشر لفاجأهم أمرُ الله عز وجل فأهلكهم ''اهـ.
يقول: إن مهمة القطب هذا أنه لو كان أمر الله يأتي البشر مباشرة؛ بأن يأمر الله أن هذا يحيا، وهذا يموت، وهكذا -مباشرة- فلن يتحمل البشر، وسيفاجأهم الأمر، يهلكهم، فيحتاج الله - والعياذ بالله - إلى واسطة يتلقَّى الأمر، ثم هو ينفذه في الكون، وهو الغوث، وهو واحد الزمان، أو القطب الأعظم، ويقولون: "لو أنَّ المدد الحقيقي ورد في هذا العالم مِن عارفيْن على السواء لسرى في قلوب الآخذين -أي: المتلقين للمدد- الشرك الخفي".
يعني: لابد أن يكون القطب واحداً، ولذلك فـالرفاعي الذي ذكرتُه لكم تعيينه قطباً، يقول: حتى النَّبيين سلَّموا له، والصديقين كلهم، والأبدال جميعاً، والنجباء، والنقباء كلهم سلَّموا له؛ لأنَّه لابد أن يكون واحداً، لماذا؟ قالوا: لو كانوا اثنين ربما يدخل الناس في الشرك!!
سبحان الله! كأن الصوفية يحاربون الشرك، قالوا: لابد أن يكون القطب الواسطة بين الله والخلق، المتصرف في الأكوان: واحداً!
والعجيب: أنَّ كل طائفة مِن طوائف الصوفية تدَّعي القطبيَّة العظمى لشيخها فقط دون مَن سواه، وبذلك فرَّقوا الأمة ومزقوها.
والغريب: أنَّ الرفاعي، والقادري كانا متعاصريْن، فإذا كان القطب واحداً فأيهما كان هو المتصرف في الكون؟!
نتركه لكلام الصوفية، ولهؤلاء الخرافيين الذين يقولون: نحن أهل السنة والجماعة، نفرق الأمة عندما نقول: اتركوا هذه الخرافات!! فماذا يكون جوابهم عن وجود قطبين في وقت واحد؟ الله أعلم.
المهم: أن بعضهم -أيضاً- يدَّعي أنَّه أعلى مِن درجة القطبية، فمثلاً: أحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية يدَّعي ذلك، فقد نقل عنه الشعراني أنَّه قال له أحد تلاميذه: يا سيِّدي أنت القطب؟ فقال: نزِّه شيخك عن القطبيَّة، فقال: وأنت الغوث؟ فقال: نزَّه شيخك عن الغوثيَّة!!
ويعلِّق الشعراني على هذا قائلا: قلت: ''وفي هذا دليل على أنَّه تعدَّى المقامات، والأطوار؛ لأنَّ القطبيَّة، والغوثيَّة مقامٌ معلومٌ، ومن كان مع الله وبالله فلا يُعلم له مقام، وإن كان له في كلِّ مقامٍ مقالٌ والله أعلم'' اهـ.
يقول: إنَّ الصوفية متفقون على أنَّه ليس بعد القطبية إلا الألوهية، وفيما أعلم أنه ليس هناك عندهم خلاف في هذا، فدرجة القطب أعلى درجة، وليس هناك مقام أعلى مِن مقام القطبيَّة.
إذاً: فهذا يتفق مع دعواهم الاتحاد بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو حلول الله فيهم، أو وحدة الوجود، أي: أنه ليس بعد درجة القطبية إلا أن يكون في درجة الألوهية فيتحد بالله؛ فكأنَّه هو الله!! وليس هذا غريباً بعد أن سمعنا ما سمعنا من كلامهم، ونعلم جميعاً ما صرَّحوا به من قولهم: أنا الله! وما في الجبة إلا الله! وقول ابن عربي:
العبد رب والرب عبد
فهذا كله جائز.
  1. أعمال القطب الأعظم عند الصوفية

    بقيَ أن نتحدث عن بعض أعمال القطب الأعظم، غير تصرفه في الكون! وإنقاذه الملهوفين وإغاثتهم! مما سيأتي ذكره في الكرامات.
    فمِن أعظم أعمال القطب الأعظم: التشريع، فهو يشرِّع لهم الأذكار، والأوراد، والأدعية، ثم يستعملونها وهي -كما يزعمون- ترفع المريدين إلى الملأ الأعلى، وتوصلهم إلى العرش، بالقوة الروحانيَّة! كما في كتاب -وهو مطبوع- أوراد الرفاعية، وأيضاً الأوراد الشاذلية تقرأ فيها أن لهذا الذكر قوة روحانية عظمى دافعة... إلخ، هذه القوة الروحانية -في زعمهم- تجعل الذاكر المريد يرى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، بل تجعله يرى الله تعالى بزعمهم!!
    ونختار من هذه التشريعات قضيتين كانتا مما ناقش وجعجع حولها الرفاعي -وتعرض لها أصحابه أيضاً- وهي قضية صلاة الفاتح، والقضية الثانية: قضية التوحيد والوحدة.
    صلاة الفاتح ذكَر نصَّها الرفاعي في صفحة [67] مِن "ردِّه"، وهي: "اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمَّد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، وناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آله حق قدره، ومقداره العظيم".
    وأعرف ممن هداهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ممن كان في جانبهم مَن أحضرها لي، وذكر لي كم يقولونَها مِن مَرَّات، وماذا يحصل نتيجة هذه القراءة، وأيضاً هناك مصدر وثيق موجود وهو كتاب التيجانية فقد ذكَر هذه الصلاة، وتعرَّض لها.
    والذي يهمُّنا هنا هو أنها من أعمال القطب، قول الرفاعي -نقلاً عن القسطلاني-: '' إن هذه الصلاة أنفاسٌ رحمانيَّة، وعوارف صمدانيَّة -أي: كأنها مِن أنفاس الرحمن، ومن عوارف الصمد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لقطب دائرة الوجود، وبدر أساتذة الشهود، تاج العارفين، سيِّدنا، وأستاذنا، ومولانا الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري '' إلخ.
    مادام أن هذا القطب البكري هو الذي وضعها، وهو الذي كتبها: فهي أنفاس رحمانية، وعوارف صمدانية، ولا يحق لأحدٍ أن يعترض عليها على الإطلاق، والتيجانية أخذوها لأنها عن هذا القطب.
    ويقول مؤلف كتاب التيجانية صفحة (116): '' قال مؤلف جواهر المعاني: ثم أمرني بالرجوع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى صلاة الفاتح لما أُغلق، فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فضلها؛ فأخبرني أولاً بأنَّ المرة الواحدة منها تعدل مِن القرآن ست مرات!! ''
    أي: الذي يقرأ هذه الصلاة مرة واحدة كأنه قرأ القرآن ست مرات! لاحظوا مَن الذي يزدري كتاب الله، ويحتقره، وبالتالي يحتقر رسول الله ويكرهه ولا يحبه؟
    '' ثم أخبرني ثانياً: أن المرة الواحدة منها تعدل مِن كل تسبيحٍ وقع في الكون، ومِن كلِّ ذكرٍ، ومِن كل دعاءٍ كبيرٍ أو صغيرٍ، ومن القرآن: ستة آلاف مرة؛ لأنَّه مِن الأذكار أي: القرآن.
    ثم ذكر أيضاً في [1/117]: '' إنهم يعتقدون أنها مِن كلام الله، وفى ذلك يقول مؤلف الرماح إنَّ مِن شروط هذه الصلاة: أنْ يعتقد أنَّها مِن كلام الله ''، وهاشم الرفاعي نفسه في "ردِّه" ينقل أنَّها أنفاس رحمانية مِن أنفاس الرحمن.
    إذاً: هذا يؤيد ما قلناه مِن أن القطب عندهم له درجة الألوهية حتى أنَّه يشرِّع هذه الأشياء، ويقول: إنَّها مِن الله، وأنَّ على الذاكر أن يعتقد أنَّها مِن كلام الله.
    ويقول أيضاً مؤلف التيجانية: '' وقال أيضاً مؤلف حلية المستفيد: مع اعتقاد المصلي أنها ليست من تأليف البكري، ولا غيره، لأنها وردت من الحضرة القدسية، مكتوبة بقلم القدرة في صحيفة نورانية.
    هذه هي صلاة الفاتح، وهذه قيمتها عندهم، وهي أيضاً مِن كلام الله عند الصوفية ولها هذه المنـزلة.
    وفي صفحة [110] مِن الذخائر يذكر محمد علوي مالكي هذه الصلاة ويشرحها.
    فهذا رفاعي على الطريقة الرفاعية، وهذا تيجاني على الطريقة التيجانية، والمالكي طريقته -أظن- على الطريقة الحسينيَّة العربيَّة في مصر.
    فالطرق تختلف لكنهم يتفقون كلهم على هذه الصلاة التي يقولون فيها: إنَّ مَن ذكرها، وقرأَ بها فإنها أفضل مِن القرآن ستَّة آلاف مرة، فهل بعد ذلك من كفرٍ، وهل فوق هذا من شرك؟
    أقول: هذا فيما يتعلق بقضية صلاة الفاتح، والقضية الأخرى التي من تشريعات الأقطاب أو من كلام الأقطاب قضية: الوحدة والتوحيد.
  2. الوحدة والتوحيد

    العبارة التي يقولها الصوفية وهى: "اللهم اقذف بي على الباطل فأدمغه، وزُجَّني في بحار الأحدية! وانشلني من أوحال التوحيد!".
    يقول الرفاعي في شرح هذه العبارة -مهاجماً الشيخ ابن منيع لأنه هاجمها-: '' فنحن نقول لشرح معنى هذه العبارة التي التبست عليهم -يعني: على العلماء في المملكة- [وزُجَّني في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد] إن التوحيد لغةً: الحكم بأنَّ الشيء واحد، والعلم بأنه واحد، والتوحيد شرعاً: إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته، والتصديق به ذاتاً، وصفاتاً، وأفعالاً''.
    ثم يقول: ''والتوحيد في اصطلاح أهل الحقيقة مِن الصوفية: تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام، ويخيل في الأذهان، والأوهام!! '' انتهى كلام الرفاعي.
    إذاً: نقول: أنت الآن تفرق بين التوحيد عند الصوفية، وبين التوحيد شرعاً، كما هو نص كلامك: التوحيد شرعاً: هو إفراد المعبود بالعبادة، والتوحيد عند أهل الحقيقة: هو تجريد الذات الإلهية...إلى آخره.
    فهذه هي القضية، أنهم يفرِّقون بين الشريعة، وبين الحقيقة، فنحن أهل السنة والجماعة أهل شرع، واتِّباع، ولا يمكن للواحد منَّا أن يدعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يخرجه عن التوحيد -والعياذ بالله- لأنَّه مادام التوحيد هو إفراد الله بالعبادة في الشرع -كما يذكر هو أيضاً باعترافه-: فنحن ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبِّتنا على التوحيد، وأن يميتنا موحِّدين، ويبعثنا موحِّدين.
    لكن الصوفية لما كان عندهم علم الحقيقة، والتوحيد في عرف الحقيقة وفى اصطلاح الحقيقة شيء آخر: فهُم يدعون الله تعالى ليل نهار أن يخرجهم من التوحيد الذي هو توحيد أهل الشريعة.
    ويقول: نحن لا نقصد الخروج من التوحيد بمصطلحنا، أو مصطلح الحقيقة؟
    لا، إنما يخرجنا من التوحيد بمصطلحكم أنتم يا أهل الشريعة؛ ليلقيه في بحار الأحدية التي ليس فيها أوهام ولا تخيلات في الأذهان، بل هي كما يعبِّر عنها ويقول: هي التوحيد، وهي حقيقة التحقيق لمعرفة كمال وجمال وجلال الأحدية...إلخ.
    إذاً: نقول لهؤلاء: باعترافكم هذا، ومن كلامكم هذا ماذا تقولون؟
    هل كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التوحيد الذي عرَّفتموه بأنه التوحيد شرعاً؟
    أو على الأحدية التي تريدون أن ينتشلكم الله إليها، ويزج بكم في بحارها؟
    نسألكم، ونقول لكم: الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما أرسل معاذاً إلى اليمن، وقال له -كما في الروايات الصحيحة في البخاري { فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله } الكلام لا يخلو من أمرين: إما أن يكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاهلاً -وحاشاه من ذلك- بأن فوق التوحيد درجة عليا هي درجة الأحدية هذه، ولذلك أرسل معاذاً بالدرجة التي يعلمها فقط، وهي التوحيد دون درجة الأحدية؛ حتى جاء أصحاب الكشف والفيض الأفلاطوني، والذوق، والتيجاني في القرون المتأخرة، أو البكري ووضعوا مثل هذه الأفكار والأدعية التي تُعلِّم الناس التوحيد، وحقيقة التوحيد؟
    وإما أن تقولوا: إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِم التوحيد الشرعي وعلَّم أمته؛ لكن هذا التوحيد هو عين الشرك! وعلَّم الأمة في الجملة عين الشرك، وكتَم التوحيد الحقيقي الذي هو الأحدية! وهذا -والعياذ بالله- اتهام للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحاشاه أن يكتم شيئاً مما علمه الله.
    أو تقولوا كلاماً آخر: وهو أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم توحيد الشريعة للعامة، وعلَّم الأحدية للخاصة، ربما يكون هذا مِن أقوالكم؛ فاختاروا ما شئتم وكلها لا زمة لكم مهما تنصلتم.
    والمضحك فعلاً: أن الرفاعي عندما يدافع عن هذه العبارة يقول: هذه لا غبار عليها، لا تنكروا علينا أننا ندعو الله أن ينشلنا مِن التوحيد إلى الوحدة فهذا هو الصحيح!!
    إذاً أنت تدعو الله أن ينتشلك من التوحيد الذي هو إفراد المعبود شرعاً، أو ينتشلك من التوحيد الذي عرَّفته أنه توحيد الحقيقة؟ فسواء هذا أو هذا فأنت تدعو الله أن ينتشلك منه، إما توحيد أهل الشريعة، وإما توحيد أهل الحقيقة، فتدعو الله أن ينتشلك من التوحيد، على أي التعريفين تعريف أهل الشريعة، أو الحقيقة.
    ولهذا أقول: إن الرجل لا يعي ما يقول، لكن مِن المؤكد أن الأقطاب الذين وضعوا هذه العبارة يعون ذلك جيداً، ويفهمون دلالتها، وأنَّه ينتشلهم من هذا ومن ذاك ليتحقق لهم وحدة الوجود التي هي عندهم عين الأحدية.
  3. رجال الغيب

    ننتقل الآن للحديث عن رجال الغيب، ويوجد لدينا عندنا مرجع صاحبه كأنه معاصر وهو النبهاني / توفى سنة (1350هـ).
    وحتى لا يقولوا هذه أفكار قديمة -كما يقول بعض الناس- وعفا عليها الزمن، لا، فـالنبهاني توفى عام (1350هـ)، وتلاميذه مازالوا موجودين، ومنهم: هؤلاء القوم.
    يقول: '' إن رجال الغيب كثيرون، ومنهم رضي الله عنهم "النقباء"، وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون، ولا ينقصون، ومنهم رضي الله عنهم "النجباء"، وهم ثمانية في كل زمان لا يزيدون، ولا ينقصون، ومنهم رضي الله عنهم "الحواريون"، وهو واحد في كل زمان لا يكون فيه اثنان، فإذا مات ذلك الواحد: أقيم غيره، ومنهم رضي الله عنهم "الرجبيون"، وسموا رجبيين لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب، ومنهم رضي الله عنهم "الأبدال"، وهم سبعة لا يزيدون، ولا ينقصون يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة!! ''
    أقول: كما سبق أن قلنا: إن الله عز وجل عند الصوفية لا يتصرف في الكون إلا بواسطة، فالأقاليم السبعة على الجغرافيا القديمة التي كانت قبل ألف سنة، وضع الصوفية سبعة رجال مِن الأبدال كلٌّ منهم يحفظ إقليمه، ويتصرف فيه.
    ويقول: ''منهم رضي الله عنهم "الختم"، وهو واحدٌ لا في كل زمان، بل هو واحد في العالم، يختم الله به الولاية المحمدية '' قول: خاتم الأولياء واحد، ولذلك ابن عربي و ابن سبعين، وأحمد التيجاني، ومحمود محمد طه، كلٌّ منهم يدَّعي، ويحرص أن يكون هو خاتم الولاية؛ كما يدَّعي كذابو الشيعة، وغيرهم: أنَّ كلاًّ منهم هو المهدي المنتظر.
    يقول: '' ومنهم رضي الله عنهم ثلاثمائة نفس على قلب آدم عليه السلام، ومنهم رضي الله عنهم أربعون نفساً على قلب نوح عليه السلام، ومنهم رضي الله عنهم سبعة على قلب الخليل عليه السلام ''.
    أقول: سبق أن ذكرنا لكم مِن أن حرصهم على تعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما هو تعظيمٌ لأنفسهم؛ لأنهم يقولون: إن رجال الغيب منهم مَن يصل إلى أن يكون على قلب فلان مِن الأنبياء؛ فهو كالنَّبيِّ، وأسقطوا الفرق بين البشر العاديين وبين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، بل وبين الملائكة أيضاً.
    يقول النبهاني: '' ومنهم رضي الله عنهم خمسة على قلب جبريل عليه السلام، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة على قلب ميكائيل عليه السلام، ومنهم رضي الله عنهم واحد على قلب إسرافيل عليه السلام، ومنهم رضي الله عنهم ثمانية عشر نفساً أيضاً هم الظاهر بأمر الله عن أمر الله، ومنهم رضي الله عنهم ثمانية رجال يقال لهم "رجال القوة الإلهيَّة"، ومنهم رضي الله عنهم خمسة عشر نفساً، هم "رجال الحنان والعطف الإلهي"!! '' أقول: هل قوة الله تعالى وحنانه، أو رحمته تكون عن طريق هؤلاء بزعمهم؟!
    قال: '' ومنهم رضي الله عنهم أربعةٌ وعشرون نفساً في كل زمان يسمَّون "رجال الفتح"، ومنهم رضي الله عنهم واحد وعشرون نفساً، وهم "رجال التحت السفلي"، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس، وهم "رجال الإمداد الإلهي والكوني"، ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس "إلاهيون، رحمانيون" في كل زمان، ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد وقد تكون امرأة في كل زمان، ومنهم رضي الله عنهم رجلٌ واحدٌ مركَّبٌ ممتزج في كل زمان لا يوجد غيره في مقامه، وهو يشبه عيسى عليه السلام متولِّدٌ بين الروح والبشر، لا يُعرف له أبٌ بشري، كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجنِّ والإنس، فهو مركَّب بين جنسين مختلفين، وهو "رجل البرزخ، به يحفظ الله تعالى البرزخ.. ''إلى آخر كلامه.
    انظروا ترتيب هؤلاء الرجال، وانظروا تصنيفهم، أعدادهم، لماذا كانوا بهذا الشكل، ثم هذا الأخير الذي يشبه عيسى عليه السلام، أليس هذا يصدِّق بأن أصل الصوفية، أو مِن أصولها النصرانية التي هي في الأصل منقولة عن النصرانية، نقلها شاؤل اليهودي، فهي في الأصل دسيسة يهودية نقلت من النصرانية ديانة وثنية شرقية إلى النصارى، ثم أخذها هؤلاء عن طريق النصارى؟
    وهذا يؤكد ما هو معروف مِن أنَّ أول مَن وضع ما يسمُّونه [خانقاه]، أو [الرباط] للصوفية هو أحد أمراء "الرملة" النصارى في فلسطين، هو الذي وضع لهم [الخانقاه] هذا أو [الرباط]، ثم انتشرت الأربطة فيما بعد، وهذا الكلام - وهو أنَّ أول مَن بنى الرباط هو أمير نصراني في الرملة -: نقله عبد الرحمن الجاني في كتابه نفحات الأنس صفحة 34، ونقله الدكتور طلعت غنام صفحة 64 في كتاب جهلة الصوفية وعبد الرحمن الجاني يعد مِن الصوفية الذين يقولون بوحدة الوجود، عاش في نهاية القرن التاسع، وله كتاب في وحدة الوجود طبعه الطابعون في مصر مع أساس التقديس للرازي لأنَّ القوم أشاعرة، وصوفية؛ فطبعوا أساس التقديس -كتاب الأشاعرة- وطبعوا معه رسالة الجواهر أو الدرر لـعبد الرحمن الجاني في وحدة الوجود، وترجم له الزركلي في الأعلام.
    والحديث عن هؤلاء الرجال طويل جداً، ولا أستطيع أن أتحدث عنه بالتفصيل بقدر ما أحاول -إن شاء الله- أن أنقل كثيراً مما نُسب إليهم مِن كرامات، وشركيَّات، وتعلقات بهم، إنما هناك قضية خطيرة ينبغي لي أن أنبِّه عليها وهي تجمع هؤلاء الرجال جميعاً، وتعطينا وصفاً لهم.
    هذه القضية: أنَّ رجال الغيب عند الصوفية الموصوفين بهذه الصفات، هم يعيشون بين الناس، وهم رجال مِن البشر، يعيشون بيننا، منهم المعروف، ومنهم المجهول، ومنهم الظاهر للناس، ومنهم المستتر عنهم، بحيث إنَّه يراهم، وهم لا يرونه، ويكاشف متى شاء!! أي: هذه الصفة مشتركة بين هؤلاء الرجال، ولذلك تجد الصوفية -حتى من العوام وغيرهم- يقولون: "فلان يمكن أن يكون ولياً"، "ويمكن أن يكون مِن رجال الغيب فلا تتعرض له ولا تكلمه"!!
    كيف وبأي دليل يستدلون على هذا؟!
    هنا القضية، وهي: أن هؤلاء الرجال مخالفون في سيرتهم، وفي أحوالهم للشريعة، ولمألوفِ النَّاس، فلا تتصور رجلاً مقيماً في مكان يدرس سنَّة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عالم مِن العلماء مشتغل بالتفسير، أو بالحديث، أو بالسنَّة أو بالدعوة، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالجهاد.
    لا تتصور أن الصوفية يعتقدون أنَّ هذا مِن رجال الغيب، لا ليس هذا أبداً، القضية: أن هذا الرجل ينبغي أن يكون كما يسمونه "بهلولاً"، "مجذوباً"، يقع على المزابل، يلتقط من القاذورات، ورأينا نماذج مِن هؤلاء في الحرم مِن أقذر الناس، شعورُهم نافرة، وأظافرهم طويلة، وهكذا نجد أشكالاً غريبة جدّاً، خارجة عن المألوف، ويقال: هؤلاء هم "الأولياء"، ربما يكون هذا هو "القطب الأعظم" الذي يدير الكون كلَّه وأنت لا تدري!! وربما يكون مِن "رجال الغوث"، ربما يكون مِن "النجباء"، وربما يكون مِن "الرجبيين"، وربما يكون مِن "الرحمانيين"، وربما يكون على قلب نوح، أو الخليل، وأنت لا تدري!