المادة    
ننظر الآن إلى كتابٍ مِن كتب محمد علوي مالكي -ربَّما لم يطلع عليه بعض النَّاس- الكتاب سمَّاه: المختار مِن كلام الأخيار، طبع في مصر سنة (1398هـ)، ولنقارن ما جاء في هذا الكتاب بما سمعنا الآن مِن عقائد الصوفية؛ لننظر على أيِّ دينٍ هذا الرجل، ونعرف عندئذٍ حكمَه، ونعرف القضيَّة الأساسيَّة التي هي -كما قلتُ- أنَّ التصوف دينٌ مستقلٌ عن الإسلام، وأن من داخله من ينتسب إلى الإسلام ويدَّعي أنَّه مسلم، والإسلام بريء منه!
  1. السري السقطي يخاطب الله!!

    يقول محمد علوي مالكي في هذا الكتاب -صفحة [134]- عن السري السَقَطي -يقول: '' رأيتُ كأنِّي وقفتُ بين يدي الله عز وجل، فقال: يا سري خلقتُ الخلقَ فكلُّهم ادَّعوْا محبتي، فخلقتُ الدنيا فذهب منِّي تسعةُ أعشارهم وبقيَ معي العشر، قال: فخلقتُ الجنَّة فهرب منِّي تسعةُ أعشار العشر، فسلَّطتُ عليهم ذرةً مِن البلاء؛ فهرب تسعةُ أعشار عشر العشر! فقلتُ للباقين معي: لا الدنيا أردتم، ولا الجنَّة أخذتم، ولا مِن النَّار هربتم، فماذا تريدون؟
    قالوا: إنَّك لَتعلم ما نريد فقلتُ لهم: فإنِّي مسلِّطٌ عليكم مِن البلاء بعدد أنفاسكم؛ مالا تقوم له الجبال الرواسي، أتصبرون؟
    قالوا: إذا كنتَ أنتَ المبتلي لنا فافعل ما شئتَ. فهؤلاء عبادي حقاً ''.
    لاحظوا هذا الكلام!! متى خاطب الله السري؟
    هل كلَّم اللهُ أَحَداً بعد موسى عليه السلام؟
    هل حصل هذا عن طريق الوحي؟
    هل نزل جبريل على أحدٍ بعد محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
    هذه هي الأقوال التي أقول: إنَّها أساس الخلاف بيننا وبين الصوفية، وهو: التلقِّي، إنَّهم لا يتلقَّوْن مِن الكتاب والسنَّة، بل يتلقَّوْن مِن المخاطبة المباشرة علم الحقيقة، العلم اللدني، العلم المباشر عن الله كما يدَّعون أنَّ الله يكلِّمهم، ويخاطبهم مثل ما ذكر هؤلاء الأئمة خشيش، أو الرازي، أو السكسكي، أو الأشعري.
    هذا الكلام ينقله محمد علوي مالكي عن السريِّ السقطي، فلنفرض أنَّ السريَّ السقطي أخذ هذا الكلام مِن كتاب بانتجل، كتاب الهند -الذي ذكره البيروني، أو كتاب زندأفستا، أو أي كتاب، أو أي مصدر، كيف ينقله محمد علوي مالكي؟
    السؤال هنا للمالكي: كيف تنقل هذا النصَّ وتقرُّه؟
    وأين هم هؤلاء الذين يعبدون الله لا خوفاً مِن النَّار، ولا حبًّا في الجنَّة؟
    هؤلاء أفضل مِن أنبياء الله الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90] والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- تعوَّذوا مِن البلاء، ومتى امتحن الله تعالى الخلقَ بعددِ أنفاسهم مِن البلاء ما لا تصبر له الجبال الرواسي؟
    وهؤلاء هم -فقط- مَن يحبُّون الله؟
    وقد بيَّن الله تعالى لنا طريق محبتِه أعظمَ البيان، فقال الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54]، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ))[آل عمران:31].
    فذكر أنَّهم يجاهدون في سبيل الله، وأنَّهم يتَّبعون رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هؤلاء هم الذين يحبُّون الله.
  2. التلاعب بالأدعية المشروعة

    وننتقل إلى نصٍّ آخر، يقول محمد علوي مالكي صفحة [135] -في هذا الكتاب المختار- نقلاً من كلام علي بن موفق قال: '' اللهمَّ إن كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً مِن نارك فعذِّبني بها! وإن كنتَ تعلم أنِّي أعبدك حبّاً لجنتك فاحرمني منها! وإن كنتَ تعلم أنِّي إنما أحبُّك حبّاً منِّي لك، وشوقاً إلى وجهك الكريم: فأبِحْنيه، واصنع بي ما شئت!! ''
    هذا كلام عجيب! يجعل أدعية النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم الكثيرة في الاستعاذة مِن النَّار، وما أمرنا به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن نقوله في القرآن: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[البقرة:201]، ودعاء الذين ذكرهم الله تعالى في آخر سورة آل عمران [.. فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[آل عمران:191]، هذه الآيات كلها باطل! ولهو! ولعب عند الصوفية! والصحيح، والدين الحق -عندهم-: هو المحبة المطلقة، أو ما يسمونه: العشق المطلق، يعني: كلمة ثيوصوفية، عِشق الله عِشقاً مطلقاً، محبة مطلقة، هذه هي التي كانت عند الهنود، وهذه التي ينقلها محمد علوي مالكي وجماعته، ويقولون: إنَّهم لا يشتهون الجنَّة، وإنَّهم زهَّاد في الدنيا، ومع ذلك ينقل هو -المالكي- في صفحة [129] من كتابه عن بشر الحافي، '' أنَّه اشتهى الشواء أربعين سنةً!! ''
    أقول: فكيف يجمع المالكي بين نقله عن هؤلاء الذين لا يشتهون الجنَّة، وبين نقله عن بشر، وعن -أيضاً- رجلٍ يُدعى إسماعيل الدويري أنَّه اشتهى حلوى كذا سنين.
    فهذا التناقض كيف يوفِّق بينه هذا الرجل؟
    بأنَّ بشراً الحافي رحمه الله مِن أمثلهم، وأفضلهم، بل هو ليس صوفياً، إنَّما رجلٌ، فاضلٌ، عابدٌ.
    والإمام أحمد رحمه الله إنما أخذ على بشر أنه لم يتزوج، وهذا مأخذ شرعي، رحم الله الإمام أحمد في ذلك، فهو يثبت لـبشر الحافي التعبُّد، والزهد، والورع، ولكنَّه انتقده؛ لأنَّه لم يتزوج: فقد عدَّه الإمام أحمد مخالفاً للسنَّة في هذا.
    ونعود إلى كلام المالكي نستعرض ما في هذا الكتاب الذي سمَّاه كما قلنا المختار من كلام الأخيار، والأخيار عند الصوفية هم البهاليل، أو المجانين، أو المجاذيب منهم!!
  3. الكرامات عند الصوفية

    يقول أيضاً عن إبراهيم بن سعد العلوي ''مِن كراماته: معرفة ما في الخاطر، والمشي على الماء، وحرَّك شفتيه فخرجت الحيتان مِن البحر مدَّ البصر رافعةً رءوسها، فاتحةً أفواهها'' إلى آخره.
    يعني: أن إبراهيم كان يعرف ما في الخاطر، وكان يستطيع أن يمشى على الماء، وكان يجمع الحيتان مدَّ البصر بحركة مِن شفتيه!!
    مثل هذه الكرامات -علم الغيب- تربطنا بقضيةٍ كبيرةٍ جداً تعرَّض لها هؤلاء الخرافيُّون الأربعة -وهم: الرفاعي، والبحريني، والمغربييْن- وهيَ قضية: أنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب! ودافعوا عن علوي مالكي في ذلك.
    ومن المعلوم أن الصوفية حينما يدَّعون أنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب، ويُكثرون من الكلام على معجزات النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يريدون أن يثبتوا بذلك الكرامات للأولياء؛ لأنَّهم يقولون: [ كل ما ثبت للنَّبيِّ معجزة، فهو للولي كرامة ] فإذا أيقنتَ، وآمنتَ أنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب: فيجب عليك -تبعاً- أنْ تعتقد، وتؤمن بأنَّ الأولياء يعلمون الغيب أيضاً؛ لأنَّ هذه للنَّبيِّ معجزة، وهذه للوليِّ كرامة، والفرق بينهما: أنَّ النَّبيّ يدَّعي النُّبوة، والوليُّ لا يدعيها، وأما ظاهر أو صورة الخارق للعادة فهي صورة واحدة، وهذا سيأتي له بسط إن شاء الله فيما بعد.
    المقصود: أنَّ هذا الرجل ينقل هذا الهراء، وهذه الخرافات، ويسميها كرامات!
  4. الزهد في طلب الجنة

    ونستمر معه وهو يتكلم عن النوري ويقول: '' سئل النوري عن الرضا، فقال: عن وجدي تسألون؟
    أم عن وجُد الخَلق؟
    فقيل: عن وجدك، فقال: لو كنتُ في الدرك الأسفل مِن النَّار لكنتُ أرضى ممن هو في الفردوس!! '' نسأل الله العافية.
    معنى كلامه هذا: أن الله عز وجل لو وضعه في الدرك الأسفل مِن النَّار سيكون أرضى عن الله تعالى، وعمَّا هو فيه ممن هو في الفردوس!! لماذا هذا الرضا؟
    يَظنون أنَّهم بهذا يرتفعون عن درجة العامَّة، هم خاصة الله، أهل الرضا، محبتهم بلغت بهم إلى هذا الحد مِن محبة الله بزعمهم، أمَّا العامَّة، ومنهم -في نظرهم والعياذ بالله-: الأنبياء فهؤلاء يخافون مِن النَّار، ولا يرضون بها، فهم بزعمهم أعلى درجةً مِن الأنبياء! وحصلت لهم أحداث تدل على كذبهم في ذلك؛ فإنَّ سامون، وقيل: إنَّه رويم لما أراد أن يَمتحن محبته، فصنع بيتاً من الشعر فقال:
    لم يــبق لي في سـواك بد            فكيفما شئتَ فامتحنيِّ
    فامتحنه الله بعسر البول، فحبس بوله عن الخروج، فكان يصرخ في الطريق، وينادي الصبيان، ويقول: احثو التراب على عمِّكم المجنون، أو انظروا إلى عمكم المجنون.
    هذه بعض الأمثال -نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العافية- ولا ندَّعي كما يدَّعي هؤلاء الزنادقة -وهم فعلاً زنادقة- أنهم يعتقدون عبادة الله عز وجل بالحب وحده، وكما نعلم أن السلف جميعاً قالوا: '' مَن عَبَد الله بالخوف وحده فهو: حروري - يعني: مِن الخوارج - ومَن عَبَد الله بالحبِّ وحده فهو: زنديق، ومَن عبده بالرجاء وحده فهو: مرجئ، ومَن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو: السنيِّ ''.
    فمن عبده بالحب وحده فهو زنديق، وهذا يتفق مع ما ذكره المؤلِّفون في الفرق وهم: الإمام خشيش، والأشعري، والرازي، والسكسكي هؤلاء كلهم أئمَّة فرَقٍ وذكرنا النُّقول عنهم في أنَّ هؤلاء زنادقة، فهذه العبارة أيضاً تتفق مع ذلك، فما كان المدَّعون للحبِّ المجرد عند السلف إلا زنادقة؛ لأنَّهم يُبطنون، ويخرجون جزءاً مهمّاً جدّاً مِن أعمال القلوب وهي من أنواع العبادات العظمى، وهي: عبودية الرجاء، وعبودية الخوف، فيسقطونها بالحب.
    والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قلنا- ذكر عن أنبيائه أنَّهم يسألونه الجنَّة، ويستعيذون به من النَّار، وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام يقول كما في سورة الشعراء: ((وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ))[الشعراء:85].
    فكيف يدَّعي هؤلاء أنَّهم أعظم مِن خليل الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأعلى درجةً منه، بل وبلغ بهم الاستخفاف أنَّهم نقلوا - كما في طبقات الشعراني- أنَّ رابعة العدوية قالت لما قرئ عندها قول الله تبارك وتعالى: ((وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ))[الواقعة:20-21]، '' يَعدوننا بالفاكهة والطير كأنَّنا أطفال!! '' نعوذ بالله مِن الاستخفاف، وسواء صحَّ عنها أنَّها قالت ذلك أو لم يصح، فالمهمُّ أن مَن نقل هذا الكلام فهو مقر بهذا الاستخفاف بنعيم الله عز وجل وبجنته.
    فالتناقض -كما قلنا- أنَّهم ينقلون مثل هذا الكلام؛ مع نقلهم أنَّ فلاناً اشتهى الشواء أربعين سنَة، وهذا اشتهى الحلوى كذا سنة!!
    ماذا يريد هؤلاء الزنادقة مِن مثل هذه الأمور؟
    لا شك أنهم يريدون إسقاط التعبدات، وبعد أنْ نستكمل قراءة كتاب المالكي، هذا الكتاب -كما قلنا- لم يطلع عليه بعض النَّاس، أو ربما رأوه ولكنهم لم ينتبهوا لما فيه، ولم يردَّ عليه أحدٌ، ونحن نقول لهؤلاء الخرافيين الذين يدافعون عن الذخائر: انظروا أيضاً إلى هذا الكتاب، واجمعوا فكر الرجل مِن جميع جوانبه، ثم انظروا أيضاً ما هي صلته بالإسلام، أو بـالتصوف الذي هو الدين القديم.
  5. الرياء الكاذب

    يقول المالكي '' قال رويم: مكثتُ عشرين سَنَة لا يعرِض في سرِّي ذكر الأكل حتى يحضر ''
    أي: أن مِن زهده أنه لا يعرض له في خاطره ذكر الأكل إلا إذا حضر أمامه.
    ونحن نقول:
    أولاً: هذا أمرٌ لم يتعبدنا الله عز وجل به، والله عز وجل ذكر الطعام في القرآن، وإن كان يخطر ببالِ كلِّ إنسان، وورَدَ ذكره في أحاديث كثيرة -وليس هنا المجال لحصرها- وليس هناك ما يعيب الإنسان أن يتذكر الطعام، أو غيره.
    وأيضاً: ليس هناك ما يرفع درجته بأنَّه لا يتذكر الطعام؛ لأنَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يتعبدنا بهذا، ثمَّ هذا عملٌ وأمرٌ لو حصل لأحدٍ فهو أمرٌ خفيٌّ؛ لأنَّ الخواطر في القلب، فلماذا يظهرُها ويخبر النَّاس بها؛ إلا وهم - والعياذ بالله - يحرصون على أن يشتهروا، أو يُعرفوا.
    فهذا العمل الذي لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، ولم يفتخر به الأنبياء، يأتي مثل هذا الرجل فيذكرونه في الرياء الكاذب، هذا هو الرياء الكاذب حقّاً.
    ومن الرياء الكاذب أيضاً ما ينقله المالكي عن بعضهم أنَّه قال: '' منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمةٍ أحتاج أن أعتذر منها ''.
    وينقل في صفحة أخرى عن آخر قوله: '' منذ عشرين سنة ما مددتُ رجلي في الخلوة، فإنَّ حسن الأدب مع الله تعالى أولى ''.
    و بعد هذا الكلام قد تقولون: هذه فرعيَّات! نعم، لكن نربطها بمنهج الرجل.
    يعلِّق المالكي على هذا القول الأخير، يقول: '' فإنَّ قيل: فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمدُّ رجلَه في الخلوة، وكان أحسن العالمين أدباً؟
    قلنا - أي: المالكي -: شأن أهل المعرفة أبسط وأوسع من شأن أهل العبادة، ولكن لا إنكار عليهم في تضييقهم على أنفسهم؛ لأنَّ ذلك مقتضى أحوالهم ''.
    لاحظِ العبارة "شأن أهل المعرفة أبسط وأوسع من شأن أهل العبادة"، يعني: النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أهل المعرفة؛ فشأنه أبسط، وأوسع مِن أهل العبادة، فيمدُّ رجله لكنَّ أهل العبادة لا إنكار عليهم في تضييقهم على أنفسهم؛ لأنّ ذلك مقتضى أحوالهم!!
    هذه الحال، وقضية الحال عند الصوفية، وأنَّ الولي يسلَّم له حاله، ولا يعترض عليه، هذه جعلوها طاغوتاً، وركَّبوا عليها مِن القضايا البدعيَّة والشركيَّة الشيءَ الكثير جدّاً، فكون هذا صاحب حالٍ: لا يعترض على حاله؛ لأنَّه صاحب عبادة، وهذا صاحب معرفة! وهذا مِنَ العوام، وهذا مِن الخاصَّة! والحال يسلَّم للخاصة! وفرقٌ بين هذا الرجل وبين غيره، فما كان حلالاً في حقِّ هذا، فهو حرامٌ في حقِّ الآخر، وما كان حسنُ أدبٍ مع هذا، فهو سوء أدبٍ مع الآخر!!
  6. التقنينات المالكية

    ثم ينتقل المالكي في صفحة بعدها يقول: '' إنَّ الشبلي -وهو مِن أئمَّتهم- لا نعلم له مسنداً سوى حديثٍ واحدٍ عن أبي سعيد رضيَ الله تعالى عنه، قال: { قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـبلال القَ اللهَ عزَّ وجلَّ فقيراً، ولا تلْقَهُ غَنِيّاً، قال: يا رسولَ الله! كيف لي بذلك؟ قال: هو ذاك، وإلا فالنَّار }'' .
    يقول المالكي: '' إن قيل: كيف تجب النَّار بارتكاب أمرٍ مباحٍ في الشرع؟
    قلنا: حال بلال وطبقته مِن الفقراء تقتضي ألاَّ يدَّخروا! فمتى خالفوا مقتضى حالتهم استوجبوا العقوبة على الكذب في دعوى الحال، لا على كسبهم وادِّخارهم الحلال! ''
    إذاً: هنا قضيَّة تشريعيَّة مهمَّة، هنا مناط تكليف، ومناط تشريع يختلف، ليس المناط أو متعلق التكليف هو أنَّه مسلمٌ، عاقلٌ، بالغٌ، حرٌّ، لا، هناك مناط آخر وضعته الصوفية، وهو: هل هو صاحب حال، أو صاحب عبادة مِن العامة؟
    إنْ كان مِن أهل الشريعة، أو من أهل العبادة، أو مِن العامة، فهذا في حقِّه الأشياء حلال، لكن إن كـان مِـن أصحاب الأحوال، فهذا حتى مجرد جمع المال، عليه حرام، فإمَّا أن يلقى الله عز وجل فقيراً، وإلاَّ فليدخل النَّار، كما وضعوا هذا الحديث المكذوب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول -كما يقول المالكي-: ''متى خالفوا مقتضى حالهم: استوجبوا العقوبة على الكذب في دعوى الحال، لا على كسبهم'' !!
    أي: أن بلال رضيَ الله عنه وأرضاه لو جمع مالاً حتى صار غنيّاً، فإنه يدخل النَّار ويعذب لا على أنَّ المال الذي جمعه حرام -هو حلال نعم- لكن على أنَّه مخالف للحال! كيف يدَّعي حالاً ولا يوافقها؟!
    فأية دعوى التي ادعاها بلال؟ وأية حال؟
    هذه هي المشكلة؛ أن القوم يضعون تشريعات، وتقنينات أصلها مأخوذ من أولئك الزنادقة.
    ويأتي إلى موضع آخر من نفس الكتاب لينقل عن رجل يقال له أبو أحمد المغازلي، يقول: ''خطر على قلبي ذكرٌ مِن الأذكار، فقلت: إن كان ذِكرٌ يُمشى به على الماء فهو هذا، فوضعتُ قدمي على الماء فثبتت، ثم رفعتُ قدمي الأخرى لأضعها على الماء فخطر على قلبي كيفية ثبوت الأقدام على الماء فغاصتا جميعاً!!''
    أرأيتم هذا الذكر خطرَ على قلبه، لا هو مِن صحيح البخاري، ولا هو مِن المواهب اللدنية التي يرجع إليها هؤلاء الخرافيُّون، ولا من السيوطي، ولا مِن ابن عساكر، ولا مِن الحلية، إنَما خطر على قلبه!
  7. العلم اللدني

    وهنا نقف عند قضية خطيرة في منهج التصوف، والتي أشرنا إليها، وهي قضية التلقِّي - العلم اللدنِّي- المباشر عن الله.
    هم يقولون: حدَّثني قلبي عن ربِّى، ويقولون: أنتم -أي: أهل السنة والجماعة- تأخذون علمَكم ميِّتاً عن ميِّت - حدثنا فلان عن فلان عن فلان، كله ميِّت عن ميِّت - ونحن نأخذ علمَنا عن الحيِّ الذي لا يموت!!
    وأنا أقول: إنَّ الحيَّ الذي لا يموت إلى يوم يبعثون كما أنبأ الله تعالى هو إبليس، ولاشك أنَّ الصوفية يأخذون هذه الوسوسات مِن إبليس؛ وإلا كيف يخطر على قلب هذا الرجل ذِكرٌ مِن الأذكار؟ ما هو هذا الذِّكر؟ ما مدى مشروعيته وما مدى صحته؟ لا ندري!! فيقول في نفسه: إن كان ذِكراً يمشى به على الماء فهو هذا، ثمَّ يضع قدمه على الماء، ثم يمشي على الماء.
    انظروا هذه الخرافات، يَنقلها هذا الرجل، ويقرُّها، وأنا لا أقصد أن هذه الخرافات في ذاتها فقط مجرد خرافة، إنَّما أقصد أن نربطها بمنهج الرجل - منهجه في التلقي - وهو الاستمداد مِن العلم المتلقَّى اللدنِّي، أو الاستمداد مِن المنامات والأحلام كما يأتي أيضاً بعض إيضاح لذلك.
  8. طريق من ذهب وأخرى من فضة

    ثم ينقل -مِن جملة ما ينقل- عن إبراهيم الخواص، يقول: '' إنَّ الخواص قال: سلكتُ البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً، منها: طريقٌ مِن ذهب! وطريقٌ مِن فضَّة! ''
    ثم يقول علوي مالكي: '' فإنْ قيل: وهل في الأرض طرقٌ هكذا؟، قلنا: لا؛ ولكن هذا مِن جهة كرامات الأولياء! ''.
    مَن مِن الناس يفهم هذا الكلام أو يتخيله في عقله؟ لكن أنتم مخطئون إذا استخدمتم العقل؛ لأنَّ الصوفية لا تؤمن بالعقل أصلا، بل ولا بالنقل، الصوفية تؤمن بالكشف، وبالذوق، فأنتم ما ذقتم- ولا أنا - شيئاً، ما تذوقنا أنَّنا نمشي في البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً، منها طريقٌ مِن ذهب، وطريقٌ مِن فضة، إذا قلنا مشينا إلى مكة فما رأينا شيئاً، قالوا: أنتم لستم أصحاب أحوال، أنتم مِن العامَّة، أصحاب شريعة؛ لكننا نحن أصحاب حقيقة! نرى هذه الطرق، فهذه مِن كرامات الأولياء.
    هكذا ينقل محمَّد علوي مالكي، يستشكل، ثمَّ يأتي بالجواب الذي يعتقد أنَّه جوابٌ مفحِمٌ مُسكتٌ.
  9. التوكل والتواكل

    وينقل المالكي عن أخت داود الطائي، أنَّها قالت له -وهذا يذكرنا بما يفعله عُبَّاد الهنود، كما ذَكَر البيروني وغيره مما هو معروفٌ عنهم الآن مِن تعاليم النفس-: ''لو تنحيتَ مِن الشمس إلى الظلِّ'' أي: تقول: انتقل مِن الشمس إلى الظل - فقال: هذه خطىً لا أدرى كيف تُكتب.
    الصوفية يؤمنون بالجبريَّة المطلقة - سلبية المطلقة - التوكل عندهم هو تواكل، يذهب يجلس في البادية بدون أي زاد ويقول: إني متوكِّل على الله! يجلس في المسجد، وتُعطى له الزكاة، وتعطى له الصدقات، والهبات ويقول: أنا متوكِّل على الله.
    تقول له أخته: قم مِن الشمس إلى الظل، فيقول: خطىً، لا أدرى كيف تكتب.
    لو قمتَ وقلت: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[التكوير:29]، فالله عز وجل قال لنا هذا، وأمَرَنا أنْ نتخِّذ الأسباب.
    فمن مثل هذه الأشياء ينقلها المالكي، ويعتبرها هي درر كلام الأخيار ومِن أفضله.
  10. رؤية الله عند المالكي

    ننتقل إلى موضوع آخر ينقل عن أبي يزيد البسطامي قوله: '' رأيتُ ربَّ العزة في المنام فقلت: "يابارا خدا" '' - بالفارسية -.
    تعتقد الصوفية أنَّهم يروْن الله تعالى في المنام، وكذلك يروْن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليقظة والمنام.
    وبعض تلاميذ علوي مالكي سواءٌ الذين هداهم الله أو غيرهم يقـولون: إنَّهم يمشون في هذا الطريق - أي: الترقِّي - حتى يرَوا الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، وأنَّهم سيستمرُّون على هذا الطريق حتى يرونه يقظةً.
    وهذه مِن العقائد الراسخة عند الصوفية -أغلب طرقهم أوكلها- فمثلا: كتاب التيجانية ذكر أنَّ رؤيتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن عقائد التيجانية، وموضَّح فيه، وكذلك طبقات الشعراني نقل هذا الكلام عن كثيرٍ منهم، وجامع كرامات الأولياء -أيضاً- نقل هذا، وكثيرٌ ممن لا أستطيع أنْ اسمِّيَهم الآن ذكروا أنهم رأو النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وأنه أمرهم بكذا! ونهاهم عن كذا! وكلُّ هذا مِن البدع، ومِن الضلالات التي زيَّنها الشيطان لهم.
    فـالمالكي ينقل عن أبي يزيد البسطامي يقول: '' إنَّه رأى ربَّ العزَّة في المنام ''.
    وقول هؤلاء: إنَّهم يرَوْن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أشنع منه: مَن يدَّعي رؤية الله تبارك وتعالى.
    لكن تجد عند الصوفية المتأخرين أن قضية رؤية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الدنيا قد خفت نوعاً ما؛ لأنَّ الاستنكار عليهم ربما كثُر، ولسببٍ آخر مهمٍّ وهو: ازدياد علاقة التصوف بالتشيع، فكلَّما غلا أولئك في علي -رضي الله عنه- غلا هؤلاء في الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ الهدف واحدٌ.
  11. الخرقة عند الصوفية

    ننتقل الآن إلى قضيَّة مهمَّة عند الصوفية وهي قضية أنَّ أعلى سند عند الصوفية ينتهي إلى علي رضي الله عنه، يقولون: إنَّ علياً أخذ الخِرقة مِن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
    فهذه الخرقة يتناقلونها يداً عن يدٍ إلى علي رضيَ الله عنه، ويتعلق الصوفية بـعلي رضي الله عنه تعلُّقاً شديداً يشبه تعلُّقَ الرافضة.
    وبهذا تظهر لنا الصلة الوثيقة بين دين الشيعة الذي أسَّسه عبد الله بن سبأ وبين التصوف، فتأليه البشر، أو الحلول والاتحاد -الذي ادَّعاه عبد الله بن سبأ موجودٌ لدى الطائفيين جميعاً، وأصله -كما نعلم- مِن اليهود؛ لأنَّ عبد الله بن سبأ يهوديٌّ؛ فأصلُ هذا الحلول مِن اليهود، واليهودي بولس شاؤل هو الذي أوجد هذا الحلول في دين النَّصارى، وقال: إن الله -جلَّ وتعالى عن ذلك- حلَّ في عيسي عليه السلام، فهو مبدأ يهودي أدخله اليهود في هذه الأديان.
    الحاصل: أَّننا نجد أنَّه في القرن الخامس اجتمعت الضلالات والبدع، ونجد أنَّ نهاية سند الخرقة الصوفية، ومبدأ العلم اللدنِّي، والحقيقة -التي يدَّعونها- علم الباطن ينتهي إلى علي رضي الله عنه.
    وكذلك المعتزلة تدعي أن سندهم ينتهي إلى علي رضي الله عنه وأنَّه أولُّهم، ففي كتاب طبقات المعتزلة وكتاب المنية والأمل وأمثاله يجعلون أولَّهم علي رضي الله عنه، فأوَّل المتكلمين هو علي رضي الله عنه.
    وكذلك -أيضاً- بالنِّسبة للشيعة؛ فمن المعروف أنَّهم يجعلون علياً -رضي الله عنه- أول الأئمَّة الإثنى عشرية. وكذلك الفرق الباطنية يدعون أن علياً -رضي الله عنه- هو الدور السابع مِن أدوار الباطنية، أو الإسماعيلية، على اختلاف فِرَقِهم في ذلك.
    إذاً هناك خطط ومؤامرات، وجدوا أنَّ نجاح هذا الهدف، وتحقيق هدم الإسلام يمكن أن يكون عن طريق تدفق العواطف لحب علي رضي الله عنه.
    والصوفية لما رأوا كراهية عامة المسلمين للتشييع والرفض؛ لجئوا إلى الطريق الأخبث، وهو الغلو في محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلُّ ذلك بإيحاءٍ مِن الشيطان، فغلا هؤلاء في النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمََم غلُوّاً خرجوا به في كثيرٍ مِن الأمور عن حدِّ الإسلام، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك تخطيطاً وتعاوناً ماكراً هدفه هدم الإسلام، واجتثاث هذا الدين من أساسه، والقضاء على عقيدة أهل السنة والجماعة بالتلاعب بعواطف العامة بالنسبة لحبِّ علي رضي الله عنه، أو حب النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  12. العلم الباطن

    ولو أردنا أن نأخذ بعضَ الأدلَّة مِن كلام الصوفية على ذلك، فلننظر مثلاً إلى ما كتبه أبو حامد الغزاليالغزالي كما هو معروف مِن أئمَّة التصوف الكبار- يقول: '' قال علي رضي الله عنه -وهو يتحدث عن العلم اللدني-: إنَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أخبر عن الخضر فقال: ((وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً))[الكهف:65] وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: أدخلتُ لساني في فمي، ففتح في قلبي ألف بابٍ مِن العلم، مع كلِّ بابٍ ألفُ باب!!
    وقال: لو وُضعت لي وسادة، وجلستُ عليها، لحكمتُ لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم!! ''.
    يقول الغزالي : ''وهذه مرتبة لا تُنال بمجرد التعلم الإنساني، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني... '' وقال أيضاً: '' : ''يُحكى في عهد موسى عليه السلام بأنَّ شرح كتابه أربعون حِملاً، فلو يأذن الله بشرح معاني الفاتحة: لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك يعني: أربعين وِقرا!!
    وهذه الكثرة والسعة والانفتاح في العلم: لا يكون إلا لدُّنيّاً، إلهيّاً، ثانوياً '' ''. انتهى كلام الغزالي.
    إذا نظرنا إلى هذه العبر؟ هل يمكن أنْ يقول علي رضي الله عنه هذا الكلام؟ ما معنى: "أدخلتُ لساني في فمي"؟ وأين كان اللسان؟ وانظر إلى ركاكة العبارة، وصياغتها، ثم كيف يحكم علي رضي الله عنه لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم! والله عز وجل قد نسخ هذه الكتب، ونسخ هذه الشرائع؟ وكيف عرف علي رضي الله عنه ذلك، ونحن عندنا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد وغيرهم، والأئمَّة في مواضع كثيرة {أنَّ أحد أصحاب علي رضي الله عنه - وهو أبو جحيفة - قال له: يا أمير المؤمنين! هل خصَّكم رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيءٍ مِن العلم؟ فقال علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبَّة، وبرأ النسمة، ما خصَّنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيءٍ مِن العلم؛ إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهماً يؤتاه المرء من كتاب الله عز وجل، فأخرج الصحيفة، فإذا مكتوب فيها: العقل - أي: الديات - وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلمٌ بكافر -وفي بعضها-: أنَّ المدينة حَرامٌ }.
    فهي وثيقة كتبها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: إنَّها مِن الوثائق التي كتبها في معاهدات الصلح، احتفظ بها علي رضي الله عنه.
    المهمُّ من ذلك أن علياً رضي الله عنه يُقسِم أنَّ ذلك لم يكن، وهذا دليل على أنَّ الدعوة قديمة قيلت في عهده -رضي الله عنه- وأنَّ عبد الله بن سبأ، والزنادقة الذين كانوا معه مِن اليهود وأمثالهم هم الذين ابتدعوها.
    وننظر إلى كتاب طي السجل -وهو أحد مراجع الرفاعي في ردِّه على الشيخ ابن منيع- في صفحة [322] يقول: '' يُروى أنَّ الإمام جعفر الصادق أخذ علم الباطن عن جده لأمِّه الإمام القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم أجمعين- وهو -أي: أبو بكر رضي الله عنه- أخذ -أي: العلم الباطن- عن سيِّدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه! وهو -أي: سلمان- أخذ عن سيِّد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
    لكن يقول بعد ذلك: وقد صحَّ أنَّ سلمان تلقَّى علم الباطن عن أمير المؤمنين علي، وهو ابن عمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا فرق إذ الكلُّ راجع إليه صلوات الله عليه وسلامه ''.
    نقول: ما هو هذا العلم الباطن الذي أخذوه؟ وأين يوجد؟ ولماذا وُضع سلمان بالذات؟
    انظر كيف أنَّ الباطنية تضع سلمان هنا؟! لأنَّ أصل هذه الفكرة، سواءً التصوف، أو الباطنية، أو الزنادقة: جاءت مِن الأفكار المجوسيَّة، والوثنيَّة، والهندية، وغيرها.
    والرجل الأعجمي الذي كان في عهد النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الديار: هو سلمان رضي الله عنه.
    فإذاً فليُجعل هذا هو التُّكئة، وجُعل سلمان عند بعض طرق الباطنية هو الباب أو الحجاب، أو الإمام مستور!! وعند الشيعة هو -أي: سلمان- رضي الله عنه مع أبي ذر، والمقداد، وعلي -هؤلاء الأربعة- هم الوحيدون المسلمون مِن الصحابة!! وإن كان بعضهم يصلهم إلى أكثر مِن هؤلاء الأربعة فيضيف عمَّاراً، وأمثاله.
    المهمُّ: أن سلمان يعتبر مِن المعدودين الذين ثبتوا على الإسلام عند هؤلاء، ولم يرتدوا، والسبب في ذلك: أن الفكرة التي تهيئ نفسها فكرة يهوديَّة، مجوسيَّة؛ نشأت في بلاد المجوس، وانتشرت عن طريقهم، فيوضع سلمان -رضي الله عنه- في السند، وأنَّه تلَّقى علم الباطن.
    والعلم الباطن هو الذي نجده في كلام الصوفية في تفسيرهم الذي يسمونه "التفسير الإشاري"، وفي إشاراتهم، وفي أقوالهم، وفي كتبهم، هذا العلم الباطن الذي هو تعبيرٌ آخر عن ما يسمَّى بالعلم اللدني، أو علم الحقيقة، ليس هو العلم الذي بين أيدينا، ليس هو البخاري، ولا مسند الإمام أحمد، ولا كتب الفقه المعروفة أبداً.
    ولذلك قلتُ: إنَّ معرفتنا بمنهج المتصوفة أهمُّ مِن الردِّ التفصيلي عليهم؛ بأنَّ نقول لهم: هذا الحديث الذي استشهدتم به ضعيف، أو صحيح، أو غير ذلك، بل نقول لهم: ليس مِن منهجكم العلمي أنْ ترجعوا إلى كتب السنَّة، ولا إلى غيرها حتى تردُّوا علينا "بأنَّكم ضعفتم حديثاً، ونحن نصححه"، والخلاف يسير، ولا داعي للتكفير.
    نقول: لا، أنتم مرجعكم إلى الكشف، وإلى الحال، وإلى الذوق، وإلى الوجد، وليس مرجعكم نصوص الوحي، فهذا العلم اللدني الذي تتلقونه عن طريق الكشف، أو العلم الباطن، نحن نبدأ الجدال، والنقاش بيننا وبينكم من هذه النقطة؛ نقول لكم: إمَّا أنْ تعودوا إلى الشريعة، وإمَّا أن تُصروا على أنَّ ما أنتم عليه هو الحقيقة، وهو العلم الباطن، فتأخذون حكم الباطنية، وحكم الملاحدة الذين يدَّعون ذلك.
  13. قصة منامية لأحد أئمة الطائفة الرفاعية

    وبمناسبة ادعائهم رؤية النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام -كما سبق- وأيضاً بمناسبة العلم اللدنِّي؛ أنقل قصة عن أحد أئمَّة الرفاعية، ومشايخها الكبار، الذين أخذوا عن أحمد الرفاعي مؤسس هذه الطريقة، كما أوردها صاحب كتاب طي السجل، نقرأ قصة إلباس الخرقة للشيخ علي الأحور، كما نقلها هذا الرجل، يقول مؤلف كتاب طي السجل: '' وهنا نذكر تيمُّناً قصة إلباس الخرقة للشيخ الجليل علي الأحور شيخ السيد علي الأهدل، مِن يد حضرة القطب الأعظم السيد الكبير أحمد الرفاعي رضي الله عنه، بأمر النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الإمام العلامة أبو بكر الأنَّصاري في عقود اللآلئ حين ترجم للعارف الأحور ما نصه:
    شيخ الشيوخ، الإمام العارف بالله، الشيخ علي الأحور بن أحمد -.. الخ النسب- أخذ في بداية أمره عن الشيخ العارف بالله عبد القادر الجيلي -يعني: الجيلاني- قدس الله سرَّه، رأى بـ " أسعر " من بلاد الجزيرة سنة ستين وخمسمائة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا رسول الله دلني على أحب مشايخ الوقت إليك، وأحبهم طريقة عندك لأتمسك به؟ قال عليه الصلاة والسلام: يا علي أحب مشايخ الوقت إليَّ، وأرضاهم عندي طريقة: طريقة ولدي السيد أحمد الرفاعي صاحب أم عبيدةأم عبيدة بلدة في جنوب العراق في البطائح التي كان يعيش فيها الرفاعي- قلت: يا رسول الله وكذلك هو -يعنى: هو أفضل المشايخ- قال: وكذلك هو، رغماً على أنفك وضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، قال الأحور: فانتبهت خائفاً، مرعوباً، وقمت على قدم الإخلاص راجعاً أكر إلى أم عبيدة، فلما دخلتُ على سيدي إمام القوم، تاج الطائفة، السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، وطلبتُ منه الخرقة؛ فقال لي: أنا وأخي عبد القادر والفقراء كلهم واحد فالزم شيخك!!! ''.
    أيها الإخوة: انظروا إلى تقسيمات الصوفية، هؤلاء هم الذين يفرقون الأمَّة، هذا يتبع هذا الشيخ، وهذا يتبع هذا، ولا يجوز لهذا أن يأخذ من هذا، ولا هذا يأخذ من هذا؛ فكأن المسألة شركات، ومساومات، ويحصل بينهم الغضب الشديد على أن طالباً أخذه هذا من هذا!
    فـالرفاعي يقول: '' الزم شيخك، قلت: لي معك خلوة، قال: فليكن، قال: فلما خلوتُ به، قلت: بالله أسألك مَن أرضى المشايخ طريقةً اليوم وأحبهم عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال -أي الرفاعي-: مَن يقال ذلك بشأنه على رغم أنفك ''يعني: نفسه.
    يقول: -يعني: أحمد الرفاعي- يدَّعي علم الغيب، ويدَّعي أنه عرف الرؤيا، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال لهذا المريد: "على رغم أنفك" -يعني: الرفاعي- فـالرفاعي عنده خبر بهذا الكلام، ولذلك يقول للمريد: أفضلهم مَن قيل في حقه على "رغم أنفك"، يقول هذا المريد الأحور: '' فأغشي عليَّ من هيبته؛ فأجلسني بيديه، وتواضع لي كل التواضع، وقال: يا مبارك أنت لا تعرف الملاطفة، طيب خاطرك! قلت: لا برحتُ إلا بخرقتك، قال: لا جعلني الله ممن يفرق بين الفقراء، ويفضل نفسه عليهم، اصبر هنا برهة يسيرة، ويقضي الله خيراً، قال: فمكثتُ سنَةً كاملةً لا أتجرأ على ذكر شيءٍ مما أنا فيه، وقد جاء شهر ربيع الآخر وفي أول ليلة منه رأيتُ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا في زاوية من زوايا "الرواق"، فطرحتُ نفسي على قدميه، وقلت: يا رسول الله، في الليل تشرفني برؤيتك بـ"أسعر"، وأنا أنتظر أن يسلكني ولدك السيد أحمد الرفاعي.
    (هذا من رفاعة ويقول: ولدك) على طريقتك المباركة فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: يا علي.. نادى أحمد، فجاء سيدي أحمد الرفاعي خاشعاً متواضعاً، فقبَّل يد النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقف أمامه، وقال عليه الصلاة والسلام: يا ولدي سلِّك الشيخ على طريقتك، وألبسه الخرقة! فقال: روحي لك الفداء يا حبيبي، عليك من ربك أفضل الصلاة والسلام، أنت تعرف أنني لا أحب التفرقة بين فقراء الوقت، وقصْد الجميع أنت بعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -أي يقول: أنا لا أريد أن أعتدي على الشيخ عبد القادر الجيلاني ، كلُّنا واحد، وأنت مقصد الجميع- فقال: كذلك، ولكن أنت شيخ الوقت، شيخ الفقراء كلهم، فافعل ما آمرك به، فقبَّل الأرض بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: السمع والطاعة لك يا رسول الله ''.
    يقول هذا المسمَّى الأحور: '' فانتبهتُ فرحاً مسروراً، فأحسْنت الوضوء، وصليتُ ما تيسَّر، ودخلتُ جامع "الرواق" لأداء صلاة الصبح مع الجماعة، فرآني سيدي قبل دخولي باب المسجد، فأخذ بيدي، وضمَّني إليه، وأجلسني على بارية هناك، وأخذ عليَّ العهد، وألبسني الخرقة، وقال: هذه لك مِن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالبسْها مباركةً إن شاء الله تعالى '' معنى هذا: أن الرفاعي يعلم الغيب، عرف الرؤيا، وعرف ما قاله الرسول -بزعمهم-للأحور!!-.
    قال: '' وفي اليوم الثامن من ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر الجيلاني -رحمه الله- في بغداد '' ... إلى آخره.
    أي: أنه ألْبسه الخرقة، فتوفي عبد القادر -شيخه الأول- فكان أحمد الرفاعي هو الشيخ البديل.
    نقول: هذا نموذج مِن نماذج كثيرة جدّاً نعرف بها ادَّعاؤهم بهذا العلم اللدنِّي، مع تعلقهم بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّعوا أنَّهم يحبونه وما قصدهم، وهدفهم إلا ما ذكرنا.
  14. من أخبار الحلاج

    ننتقل بكم الآن إلى من هو أقدم مِن هؤلاء لنعرف حقيقة سبب غلوهم في النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ومن أقدمهم الحلاج، والحلاج قد أُفتِيَ بكفره -ولله الحمد- في محضر كبير من علماء المسلمين، وأقيم عليه الحد، وقتل بتهمة الزندقة بعد أن اعترف بكثيرٍ مِن الكفريات، وأنا الآن أقرأ بعض ماذكر مما يتعلق بموضوع الغلو في النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليجد أساسه عند الصوفية.
    للحلاج كتاب اسمه الطواسين -مطبوع- يبتدأ من صفحة 82، من كتاب أخبار الحلاج، وأوَّل الطواسين: هو طاسين السراج، ويقصد بالسراج النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: السراج المنير يقول:
    ''طاسين، سراج مِن نور الغيب، بدأ وعاد، وجاوز السراج وساد، قمرٌ تجلَّى مِن بين الأقمار، برجه من فلك الأسرار، سمَّاه الحق أمِّياً لجمع همَّته، وحَرَمِيّاً - يعني: نسبة إلى الحرم - لعظم نعمته، ومكيّاً لتمكينه عند قربه، شرَح صدرَه، ورفع قدره، وأوجب أمره، فأظهر بدره، طلع بدره من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة، وأضاء سراجه من معدن الكرامة،... '' إلى أن يقول:
    '' ما أبصره أحد على التحقيق سوى الصديق؛ لأنَّه وافقه ثم رافقه؛ لئلا يبقى بينهما فرق، ما عرفه عارف إلا جهل وصفه ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[البقرة:146] أنوار النبوة مِن نوره برزت، وأنوارهم مِن نوره ظهرت، وليس في الأنَّوار نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم، همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم!!! واسمه سبق القلم - أي: قبل أن يخلق القلم - لأنَّه كان قبل الأمم، ما كانت الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق، أظرف، وأشرف، وأعرف، وأرأف، وأخوف، وأعطف من صاحب هذه القضية، وهو سيِّد البرية الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، وأمره أوكد، وذاته أوجد، وصفته أمجد، وهمَّته أفرد، يا عجباً ما أظهرَه، وأنضره، وأكبره، وأشهره، وأنوره، وأقدره، وأظفره، لم يزل، كان مشهوراً قبل الحوادث، والكوائن، والأكوان، ولم يزل، كان مذكوراً قبـل القبـل، وبعد البَعد، والجواهر والألوان، جوهره صفويٌّ، كلامه نبويٌّ، علمه عَلَويٌّ -نسبة إلى علي- عبارته عربيٌّ، قبيلته لا مشرقي، ولا مغربي، جنسه أبويٌّ، رفيه رفويٌّ، صاحبه أميٌّ... '' إلى آخر الكلام الذي ينقله الحلاج، إلى أن يقول:
    '' الحق وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، وهو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة، ما خرج عن ميم محمد، وما دخل في حائه أحد، حاؤه ميم ثانية، والدال ميمٌ، داله دوامه، وميمه محله، وحاؤه حاله، وحاله ميم ثانية ''.
    أقول: هذه الطلاسم التي يذكرونها، هي حساب "الجمَّل"، أو "أبو جاد"، أو "أبجد هوز".
    نستمر في كلام الحلاج لنرى حقيقته، وحقيقة دينه من قوله في طاسين الأزل والالتباس، يقول:
    ''قيل لإبليس: اسجد، ولأحمد انظر، هذا ما سجد، وأحمد ما نظر! ما التفت يميناً ولا شمالاً، ما زاغ البصر، وما طغي''
    انظروا يشبِّه موقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموقف إبليس -والعياذ بالله- وأن إبليس لم يسجد، وأحمد، لم ينظر فالاثنان سواء، فإن قلت: كيف يشابه النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبليس؟ فيقول لك: لا تستغرب، انظر ماذا قال بعد ذلك في صفحة [99] يقول:
    ''تناظرت مع إبليس وفرعون في "الفتوة" - وهي: درجة مِن درجات الصوفية، ومقام من مقاماتهم - فقال -أي: إبليس يقول للحلاج -: إن سجدتُّ سقط عني اسم الفتوة! وقال فرعون: إن آمنتُ برسوله سقطتُّ من منـزلة "الفتوة" -والعياذ بالله- وقلت أنا -أي الحلاج-: إن رجعت عن دعواي، وقولي سقطت من بساط "الفتوة'' ودعواه هي وحدة الوجود.
    يقول: ''وقال إبليس: أنا خير منه حين لم يره غيره خيراً، وقال فرعون: ما علمت لكم من إله غيري حين لم يعرف في قومه من يميِّز بين الحق والباطل''.
    أي: أهل وحدة الوجود يصدِّقون كلام فرعون في قوله "ما علمتُ لكم مِن إله غيري".
    يقول: ''وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق!!'' الحلاج كان يقول: أنا الحق يعني: أنا الله.
    يقول: ''وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق؛ لأنَّي مازلت أبداً بالحق حقّاً، فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هُدِّد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع في دعواه، ولن يضر بالواسطة ألبتة -لن يضر بالوسائط- ولكن قال: "آمنت أنه لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل"، وألم ترَ أنَّ الله قد عرَّض جبريل لشأنه، فقال: لماذا ملأتَ فمه قملاً؟''
    أقول: ما في كتاب الذخائر لـمحمد علوي مالكي أصله مِن مثل كلام الحلاج هذا.
    والحلاج ممن أسَّس لهم الغلو في النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل هذا الكلام أحياناً يجعله - والعياذ بالله - كإبليس! وأحياناً يقول: إنه مخلوق قبل الأكوان جميعاً، وقبل أن توجد السموات والأرض، إلى غير ذلك من الكلام، الذي احتج به الرفاعي وصاحباه بأن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مخلوقاً قبل الكائنات.
    أما نبوة النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنها ثابتة قبل خلق السموات والأرض وهذا حق، كما ورد في بعض الأحاديث: {كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد } : فعلى فرض صحة هذه الأحاديث؛ نقول: نعم نبوة النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابته؛ لأنَّ الله عز وجل: {كتب في اللوح المحفوظ كل شيءٍ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} ، كما في الحديث الصحيح، ومما كُتب أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيكون نبيّاً وسيبعث، فإثبات النبوة شيء، وإثبات أنه أول من خُلق - كما يقول هؤلاء الخرافيون - شيءٌ آخر.