المادة    
المحبة لله يتفرع عنها محبة عظمى، وهي محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث المتفق عليه: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل قلبي عظيم، وقربة عظمى، فهي قرة عيون المؤمنين، فأما من رآه منهم فوالله ما يعدلون برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً في هذه الدنيا، وإن كانوا ممن لم يروه -كما هو حالنا- فوالله لا يرون أن شيئاً في هذه الدنيا يساوي أن يكونوا قد رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما أوتوا من متاعها، وإن أعظم ما يرجوه عند الله في الجنة أن يروا ربهم عز وجل، وأن يروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويكونوا رفقاءه في الجنة، فهذا غاية ما يسعى إليه كل مؤمن.
ومن لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاهتداء بهديه والاقتداء بسنته، ومحبة ما أحب، وأعظم ما أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أحب الله، وأحب الجهاد، وأحب الأمر بالمعروف، وأحب النهي عن المنكر، وأحب الصلاة، وأحب المؤمنين، وأبغض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفر، والشرك، والنفاق، والكافرين، والمشركين، والمنافقين، والفجار، والكذابين، والظالمين، وهكذا.
فإذا أحب الإنسان ما أحبه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبغض ما أبغضه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الإنسان سائراً على درب المحبة وطريقها، كما قال عز وجل: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ))[آل عمران:31].
  1. حقيقة المحبة لله

    جعل الله تعالى حقيقة محبته في اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رتب على ذلك (( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله)) [آل عمران:31] فرتب على اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحبهم الله، فإذاً: ليس الغرض أن يدعي أحد محبة الله، كما قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله هذه الآية، فهذه آية المحنة أو آية الامتحان، لأنها امتحان لهم في حقيقة المحبة.
    فليس الغرض فقط أن يدعي قوم أنهم يحبون الله، بل الغاية أن الله يحبهم، فلو أن أحداً ظن أنه يحب الله، ولكن الله لا يحبه فلن ينفعه ذلك أبداً!
    فانظر إلى عباد النصارى الذين حجروا على أنفسهم في الأديرة والصوامع، وحرموا ما أحل الله اعتقاداً وظناً منهم أنهم يفعلون ذلك قربة إلى الله، وأن الله يحبهم؛ ولكن لم ينفعهم ذلك، لأن الله لا يحبهم، فلذلك لم ينفعهم أي عمل، فالغرض من هذه العبادات حصول الثمرة وهو أن يحبهم الله، وليس أن يدّعوا هم محبة الله، فلهذا قال (( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ )) [آل عمران:31] فإذا أحبك الله فهذه هي النعمة، وهذا هو الرضوان، وهذه هي البشرى، فأبشر بالجنة وأبشر بالخير، وبمحبة الناس لك في هذه الحياة الدنيا، فإن الله تبارك وتعالى كما ثبت في الحديث: {إذا أحب عبداً نادى جبريل -عليه السلام-: إني أحب فلان فأحبه، فيحبه جيريل عليه السلام، وينادي في أهل السماء: إن الله تبارك وتعالى يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض؛ فيحبه أهل الأرض} فهذا الفضل من الله لمن يحبه الله عز وجل.
    فنحن محتاجون إلى محبة الله لنا، أما دعوانا أننا نحب الله، فيمكن لكل كافر وزنديق وملحد وأي إنسان من بر أو فاجر أن يدعيها، لكن ما حقيقة ذلك وما دلالته؟!
  2. المحبة لله ورسوله تكون في الاتباع

    لا بد أن يعلم الإنسان أن المحبة في الحقيقة هي في الاتباع، ولا نقول: إن الاتباع يتجرد عن المحبة بمعناها القلبي، لأن المحبة القلبية هي من الاتباع، فما محبة الله ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا في الاتباع العام، والالتزام بسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثر لازمٌ وظاهرٌ لهذه المحبة التي هي عمل قلبي، فإن كانت المحبة صادقة فإن هذا يظهر في سلوك جوارح وأعمال المحب. وذلك بأن يحب العبد كل ما أحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبغض كل ما أبغضه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتأسى به في كل عمل، وفي كل ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وتقديم محبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غيره يثمر للعبد ثمرةً عظيمة ونعمة كبرى، لا تعادلها كنوز الدنيا جميعاً ولا ملذاتها، ألا وهي حلاوة الإيمان، جاء في الحديث {ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان} فالإيمان شيء وحلاوته شيء آخر، فكونك تجد حلاوة الإيمان وتعلم نعيمها، فإنه يهون أمامك كل شيء، وتشعر بأن هذه هي جنة الدنيا، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: ''إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة'' فبقدر تنعمك بحلاوة الإيمان في قلبك يكون تنعمك بالجنة بإذن الله.
    أما الذين أغلقت قلوبهم وحجبت، وطمست بالكفر والشهوات والشبهات في الدنيا عن ذكر الله ومحبته فهؤلاء هم أهل النار والعياذ بالله، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلاوة الإيمان : {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} فلا يقدم عليهما في المحبة أي شيء، وإن حدث تعارض بين مقتضى محبة الله مع مقتضى محبة الأهل أو النفس أو الزوجة أو غير ذلك من الأحباب والأخلاء والأصدقاء، فإنه يجب أن يقدم مقتضى محبة الله تبارك وتعالى على ذلك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله} وهذا فرع عن الأول، لأن الناس لا بد لهم من علاقات فيما بينهم، على أن تكون هذه العلاقات بين الخلق مبنية على المحبة في الله، وهذا ما دلت عليه الآية ((يحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ))[المائدة:54].
    فكل الآيات والأحاديث في مدلولاتها وتطبيقاتها في منهج أهل السنة والجماعة تترابط دائماً وتدل على معنى وحقيقة واحدة.
    فمن ذاق طعم الإيمان، وذاق حلاوته، وأحب الله ورسوله، وقدم محبتهما على كل شيء، وأحب المرء أخاه ولم يحبه إلا لله خالصاً لوجهه الكريم، فإنه لا بد أن تثمر عنده: {وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار} فهذه هي الحالة الثالثة، وكما قد جرى لأصحاب الأخدود، وعذب أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما يفتن المؤمنون في كل زمان ومكان، ولا يرجعون عن دينهم أبداً، لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان.
    ولهذا يجعل الله تبارك وتعالى من الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: {رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه} لأن محبتهما تجردت عن أن تكون لهوى أو لشهوة أو لغرض مما يجتمع عليه الناس، وهذه هي المحبة التي تدوم عند الله تبارك وتعالى.
    أما ما عداها: فكل نسب، وكل علاقة، وكل صلة، وكل محبة يوم القيامة ليست لله عز وجل فهي مقطوعة، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاًَ على مودتهم في الحياة الدنيا ((الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ))[الزخرف:67] فالمتقون أحباء في الدنيا وأحباء في الآخرة.
    ولهذا كما في حديث أنس في الصحيح أنه قال: لم يكن عند الصحابة أرجى من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المرء مع من أحب} قالوا: هذا أرجى ما سمعنا، فنحن نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحب أبي بكر وعمر، ونرجوا أن نكون معهم.
    فمعنى كلامهم: إن لم نلحق بهم بأعمالنا فإننا نرجو أن نلحق بهم بمحبتنا لهم.
  3. أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة

    أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة أنها: تثمر لصاحبها علواً ورفعةً في الدرجة، لم يكن ليصل إليها لولا هذه المحبة، إن قصر بك عمل الجوارح من أن تجاهد كجهادهم، أو أن تأمر بالمعروف كأمرهم، أو تتعبد كعبادتهم، فيجب أن تحبهم بقلبك، وأن تسأل الله تبارك وتعالى مرافقتهم، وأن تبغض من أبغضهم، وتعادي من عاداهم، وبذلك تصل -بإذن الله تبارك وتعالى- من الخير الكبير، وأن تصل إلى قربهم أو أن تدنو منهم، وهذا شرف عظيم، وفخر كبير، وغاية لو شمر لها العابدون والساعون الدهر كله لكانت مستحقة لذلك. فحقيقة المحبة إذاًَ هي ما قدمنا من حيث علاقتها بالإيمان، والعبادة حيث إن المحب على الحقيقة لا يقدم أمراً ولا نهياً، على أمر ونهي من يحبه وهو الله تبارك وتعالى، مما يثمر ذلك لديه الاستقامة في السر والعلانية، وفي كل شأن من شئون الحياة، واتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جُعل اتباعه امتحاناً لحقيقة المحبة وامتثالها. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يحبهم الله ويحبونه، وممن يقيم هذه الأعمال وهذه الحقائق القلبية الإيمانية في نفسه وأهله ومجتمعه، ويدعو إلى ذلك، إنه سميع مجيب.