المادة    
  1. أنه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته

    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
    [وسادسُها: أن كلامه يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي في المطالب العالية]
    وذكرنا أن صاحب المعتبر هو أبو البركات ابن ملكا البغدادي وأنه من الفلاسفة الذين يدعون إِلَى الفلسفة والكلام؛ لكنه كَانَ أقرب إِلَى السنة من أكثر الفلاسفة، كما بيّن ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في منهاج السنة يقول: إن الفلاسفة يتأثر كل واحدٍ منهم بحسب البيئة التي عاش فيها فـابن رشد نشأ في بيئة كلابية أشعرية؛ ولهذا يكثر في كتب ابن رشد نقد الأشعرية بشدة، ومن ذلك نقده للغزالي فلما كتب الغزالي تهافت الفلاسفة ردَّ عليه ابن رشد بكتاب تهافت التهافت.
    أما ابن سينا فإنه نشأ بين المعتزلة والشيعة وذكرنا أن ابن سينا هو في أصله شيعي من الإثنى عشرية الرافضة؛ ولكنه في حقيقته باطني زنديق فهو من الشيعة الغلاة القرامطة العبيديين

    وأما أبو البركات ابن ملكا فإنه نشأ في بغداد حيث السنة والحديث، فتأثر بتلك البيئة فكان أخف المتفلسفة وأقربهم إِلَى منهج الحق والصواب بخلاف أُولَئِكَ الذين أوغلوا في التجديدات عَلَى طريقة الفلاسفة اليونان، وكتابه المعتبر هو في علم الكلام.
    وأما الرازي فالمقصود به هنا: صاحب المطالب العالية وهو فخر الدين الرازي عبد الله، ويُقال له: ابن الخطيب أو ابن خطيب الري؛ لأن أباه كَانَ خطيبَ الري، ثُمَّ ورث الخطابة أيضاً بـالري من بعده، فإذا جَاءَ في أحد الكتب قال الفخر أو قال ابن الخطيب، فالمقصود به هذا.
    وإذا قيل: قال الرازي والرازي نسبة إلى الري، فمن كَانَ من العلماء أو المتكلمين أو الفقهاء من أهل الري فإنه يُقال له رازي، وهي نسبة من حيث اللغة خاطئة؛ لأن النسبة إِلَى الري ريي وليست رازي، ولكن هذا جرى عليه الاصطلاح.

    وإذا قيل الرازي في علم الكلام أو الفلسفة خاصة فإنه يحتمل اثنين:
    إما الفخر الرازي.
    أو الطبيب أبو زكريا الرازي المشهور بالطب أكثر منه في علم الكلام، أو في التفسير أو في الدين، ولكن التمييز بينهما ممكن واضح بأمور:
    أولاً: أن أبا زكريا الرازي الطبيب توفي سنة 311هـ، بينما الفخر الرازي توفي سنة 606هـ، فهناك ثلاثة قرون بينهما، فهذا مما يعين عَلَى معرفة صاحب القول.
    ثانياً: أنه إذا كَانَ في موضوع الفلسفة البحتة الإلحادية وفي مجال الطب أو ما يسمى بالعلوم الطبية أو العلوم الطبيعية، إذا أطلق الرازي فهو الرازي الطبيب وقد كَانَ زنديقاً مُلحداً -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا الذي يفتخر به الباحثون في العلوم أو في الطب، ويقولون: إنه ممن أسهم من الْمُسْلِمِينَ في تقدم البحث، فهذا هو الطبيب وليس الرازي فخر الدين المفسر المتكلم.
    وهو بلا شك مفخرة للإسلام في ظل حكم الإسلام وفي ظل حضارة الإسلام، أن ينبغ أي إنسان في أي مجال أو أن يخترع أو يكتشف أو يتفوق، حتى لو فرضنا أن هذا الإِنسَان يهودي أو نصراني؛ ولكنه نبغ في ظل الدولة الإسلامية أو العالم الإسلامي، واشتهر واخترع وابتكر، فهذا مفخرة للحضارة الإسلامية؛ لأن المكتشفين والمخترعين في الغرب، في ظل حكم الكنيسة النصرانية قبل القرن السادس عشر والسابع عشر كانوا يتعرضون للحرب والإعدام والصلب والسجن، وأمثال ذلك من العقوبات.
    لكن في ظل سماحة الإسلام ويُسره تتقدم وتنمو، أو تترقى هذه العلوم من طب أو هندسة أو فيزياء أو رياضيات أو ما أشبه ذلك، وإن كَانَ المبدع فيها ليس مسلماً، فإن الفضل للإسلام وللحضارة الإسلامية، فـابن سينا أو الرازي هذا الطبيب كلاهما كَانَ مُلحداً زنديقاً بلا شك؛ ولكن علمهم وأمثالهم هو من إنتاج الحضارة الإسلامية، أي: ما أبدعوه في جانب الرياضيات والطب وغيرها فالفضل يعود فيه للإسلام، ولا نتكلم في جانب الإلهايات والعقيدة؛ لأنه مردود عليهم قطعاً، والمقصود أن الرازي الذي هو فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير وصاحب الأصول هو صاحب المطالب العالية الذي ذكره المُصنِّف هنا.
  2. عيبان ظاهران في كتب الرازي

    ومن عجائب الفخر الرازي التي ذكرها عنه العلماء أنه يورد الشبهة ويستدل لها، ثُمَّ لا يستطع أن ينقضها، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يأتي بالشبهة نقداً، ويجعل الجواب عنها نسيئة، فالذي يقرأ كتبه قد يتشكك من إيراد الشبهات؛ ولكنه لا يجد الرد عليها، فـالرازي كَانَ أولاً يطول النفس في الكتابة ثُمَّ ينقطع، فطول نفسه يذهب في إيراد الشبهات، فإذا أراد أن يُجيب كَانَ قد تعب فلا ينقض هذه الشبهات، ولهذا قيلت فيه هذه العبارة.
    وهناك ظاهرة أخرى موجودة وملحوظة في كتبه وهي التناقض والافتراض، وهذه تهمنا هنا فـالرازي في موقفه من قضية الكلام -التي هي موضوع حديثنا- مضطرب ومتناقض في عدة كتب من كتبه وقد كتب أحد الباحثين بحثاً طويلاً بعنوان فخر الدين الرازي وآراءه الكلامية فأقر هذه النتيجة أن الرازي مضطرب متردد متقلب في موقفه من العقيدة ومن علم الكلام خاصة.
    فمثلاً في بعض كتبه يقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام قديم وهو المعاني القائمة بالنفس، وكلام حادث مخلوق وهو: الألفاظ والحروف والأصوات، وهذا هو مذهب الكلابية.
    وفي بعض كتبه يصرح بأن القُرْآن مخلوق، وأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا مخلوقاً، وهو بذلك يشبه المعتزلة فهو مرة أشعري ومرة معتزلي.
    وفي كتب أخرى ينقض قول المعتزلة، وينقض قول الأشعرية، ويُقرر كلاماً من نوعٍ آخر، وهنا كما في المطالب العالية ذكر هذا الكلام: أن كلامه -تعالى- يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته فيقول الرازي: إن كلام الله لا يخلو أن يكون خبراً أو إنشاءً أمراً أو نهياً فمثلاً أمر الله في شيء ليس هو كلامه الذي يأمر به، وإنما إرادته وإخباره بأنه سوف يثيب من فعل كذا وكذا، ونهيه عن شيء هو إرادته وإخباره بأن من فعل كذا وكذا فسوف يعاقب، وهذا القول نقده الأشعرية أنفسهم الذين يدعون أن الرازي من أعظم أئمتهم وهو -كما قلنا- إمام المرحلة الثالثة من مراحل تطور المذهب الأشعري حتى أن التفتازاني صاحب المقاصد ذكر ذلك وقَالَ: إن هذا القول ضعيف؛ بل قَالَ: وهذا ظاهر الضعف؛ لأن إرادة الثواب للمطيع الممتثل للأمر، أو إرادة العقاب لمرتكب النهي هذه لوازم الأمر والنهي أو من نتائجه، وليست هي الأمر والنهي فإذا هذا الوجه ظاهر الضعف.
    وكما أشرنا إِلَى أن المذاهب الرئيسة هي الثلاثة التي ذكرناها:
    مذهب المعتزلة.
    ومذهب الأشعرية الكلابية.
    ومذهب السلف.
    وقول الرازي يعد من فروع مذهب الأشعرية الكلابية، وإن كَانَ أراد أن يتفلسف فيه قليلاً، لكن المذهب نفسه فيه التناقض والاضطراب، وهذا الذي حصل ووقع للرازي من بدايته، فقد تأرجح الرازي بين كونه فيلسوفاً، وبين كونه معتزلياً، وبين كونه أشعرياً، وفي آخر عمره يقول في وصيته وفي بعض كتبه: إن منهج القُرْآن هو الصحيح، وهو صاحب الأشعار التي يقول فيها:
    نِهَايةُ إِقْدَامِ العقولِ عِقَالُ            وغَايةُ سعي العَالمِينَ ضلالُ
    وَلم نستَفِد مِنْ بحثِنَا طوُلَ عُمرِنَا            سِوَى أنْ جَمعنَا فيه قِيلَ وقالوا
    هو الذي اعترف بذلك في قصيدة له ضمن أقسام اللذات، وأوصى عند موته بطريقة القرآن، وقَالَ: رأيت المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية فما وجدتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ووجدت أفضل الطرق طريقة القُرْآن أقرأ في الإثبات ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ))[الإخلاص:1، 2] و((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] واقرأ في النفي ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] فهو في آخر أمره رجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهذا ما حصل لـأبي حامد الغزالي، وحصل مثله للجويني الذي سيأتينا مذهبه وهو المذهب الثامن.
    وهذا الاضطراب الذي يقع فيه أكثر أئمة الأشعرية، ومنهم أبو الحسن الأشعري نفسه الذي انتقل من قول إِلَى قول؛ يدلنا عَلَى حيرة المتكلمين عموماً، ولا سيما المتكلم الذي يريد أن يوفق بين الفلسفة، والمنطق والكلام الذي هو كلام اليونان وأمثالهم؛ وبين الكتاب والسنة، فمن كَانَ لديه حظ من الكتاب السنة ومحبة للكتاب والسنة كما كَانَ هَؤُلاءِ، لكنه في الوقت نفسه لديه قناعة بصحة كلام الفلاسفة وأمثالهم؛ نجد أنه يضطرب ولا يزال عَلَى هذا الاضطراب حتى يتمحص في الأخير لأحدهما، فـالجويني أبو محمد رجع إِلَى عقيدة السلف، وابنه أبو المعالي الجويني رجع إليها، وألف الرسالة النظامية، ومن قبل رجع أبو حامد الغزالي، والرازي؛ لكن بعضهم لم يرجع وإنما اضطرب وتخبط وتناقض، فهذا التناقض ظاهرة عامة.
    ولذلك نجد هنا أن المذهب السادس، والسابع، والثامن، والرابع، هي في الحقيقة ترجع إِلَى المذهب الثالث، وهو المذهب الأشعري الكُلابي، وقد يكون السبب -والله أعلم- في هذه الحيرة أنه لضعف الحجج التي يحتج بها الأشعرية إذا أتي المعتزلي رد عليها ونسفها، فنتيجة لهذا الضعف يضطر أصحاب هذا المذهب أن يبحثوا عن تعليلات وعن تخريجات، ومن هنا كثرت الأقوال المتشعبة من هذا المذهب بل يمكن أن نعتبر منها أيضاً المذهب السابع الذي هو مذهب الماتريدية.

    إذاً المذهب السادس لا يُخالف أصحابه في أن القُرْآن مخلوق، فهم يقولون: إنه مخلوق، وإنما كلامهم في وصف حقيقة الكلام النفسي، وكفى بذلك بدعة وضلالا نسأل الله السلامة والعافية.
  3. السابع أنه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره

    قَالَ المُصنِّفُ رحمة الله:
    [وسابعُها أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي].
    أبو منصور الماتريدي هذا رجل من الحنفية من أصحاب الرأي، عاش في بلاد ما وراء النهر، وتوفي في منتصف القرن الرابع حوالي سنة 350هـ، وهو إمام الطائفة والفرقة المسماه بـالماتريدية، وهذه الفرقة أقرب شيء إِلَى الأشعرية، إلا أن بين الفرقتين خلافات أكثرها كلامي نابع من الاجتهادات الكلامية البحته، وليس في قضايا النصوص وفي معرفة الأدلة، المهم أن أبا منصور الماتريدي هذا ينتمي إِلَى الإمام أبي حنيفة بحكم أنه حنفي، ويدعي أن ما هو عليه من المذهب هو مذهب الإمام أبي حنيفة.
    ولهذا نجد أن المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يقول في نفس البحث، بعد حوالي أربع ورقات أو خمس في آخرها، يقول لما ذكر كلام الإمام أبي حنيفة في الفقة الأكبر: [والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقرائتنا له مخلوقه، والقرآن غير مخلوق]
    لما ذكر المُصنِّف هذا قال في شرح هذا الكلام: ففهم منه -يعني من كلام أبي حنيفة- ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء.
    وسيأتي هذا إن شاء الله ونشرحه في موضعه، والمقصود أن قول الماتريدي قد شرحه المُصنِّف بعد هذه الصفحات في هذا الموضع، وهو أن كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معنىً قائماً بنفسه تعالى، ولا يمكن أن يسمع ولا يتصور أن يسمع، فليت شعري يا أبا منصور فماذا سمع موسى عندما كلمه الله؟
    ويقول: إن هذا خلقه الله، خلق الله الألفاظ وخلق الأصوات والحروف، وأما حقيقة الكلام النفسي فإنه لا يمكن أن يسمع لكن يطلق الكلام عند أبي منصور الماتريدي على المعنى الحقيقي الذي هو المخلوق، ولكن المخلوق يتضمن المعنى النفسي، وهذا هو الفرق بينه وبين المذهب الثامن.
    والمذهب الثامن يرى أن الإطلاق مشترك؛ فإذا قيل كلام الله، فإنه مشترك بين النفسي والحروف والأصوات بزعمهم، أما هذا فَيَقُولُ: كلامه هو ما خلقه في غيره لكنه يتضمن ما في نفسه، وليس عَلَى هذه الأقوال من دليل إلا الابتداع والظن واتباع الرأي، فيجهد الواحد منهم نفسه الليالي والأيام ليخرج برأي باطل، ولو أنهم اتبعوا الكتاب والسنة، وسألوا علماء الإسلام لما كَانَ نهاية فعلهم الوبال والضلال نسأل الله السلامة والعافية.
    فهل سمعت أو قرأت لأحد ممن اشتغل بعلم السنة ولم يشتغل بقيل وقال، وإنما اشتغل بكلام الله وكلام رسوله، وكلام علماء السلف، مثل الإمام أَحْمد بن حَنْبَل ومالك والشَّافِعِيّ وأبي حنيفة والفضيل وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة وأمثال هَؤُلاءِ الأعلام، هل سمعت أحداً نشأ عَلَى كتبهم، وتربى عَلَى أقوالهم، وقرأ سيرهم وأحوالهم، شكى الاضطراب أو التناقض أو الحيرة، أو رجع عن ذلك -والعياذ بالله- إِلَى الفلسفة، أو إِلَى عكس ما كَانَ عليه؟
    لا يوجد أبداً، وإنما يعيش الواحد منهم ويموت وهو مرتاح البال، مطمئن واثق من دين الله عَزَّ وَجَلَّ.
  4. الثامن: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات

    قَالَ المُصنِّفُ رحمة الله:
    [وثامنُها: وهو أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهو قول أبي المعالي ومن تبعه].
    أبو المعالي هو الذي تمنى عند موته أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، وكان من بلدة نيسابور.
    صحيح أن عقيدة عجائز نيسابور خير، وأفضل من عقيدة أهل الكلام وأهل الحيرة والضلال والشك -عافانا الله وإياكم- من ذلك؛ لكن أليس هناك ما هو أفضل من دين العجائز، أو عقيدة العجائز؟
    بلى عقيدة الراسخين في العلم، لماذا لا نتمنى أن نموت عَلَى عقيدة الراسخين في العلم؟ الذين قال قائلهم لو كشف لما ازددت يقيناً، وقال الآخر: لو أني رأيت الجنة والنَّار لما كَانَ إيماني بها أقوى من إيماني بها الآن، قيل: وكيف ذلك؟
    قال لأني رأيتهما بعيني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى))[النجم:17]، ولو رأيتهما بعيني لربما زاغ بصري أو طغى، فسُبْحانَ اللَّه ما أعظم التمسك بالسنة، وما أبعده عن الشك والريب!
    بل هو اليقين كله والطمأنينة كلها والخير كله؛ أما هَؤُلاءِ فتجد الحيرة والتخبط والتناقض، كما هو ظاهر في أقوالهم، ولو أننا نسترسل في حكاية أقوالهم وفي تفصيلها، لمللت وسئمت من كلام معقد لا طائل تحته، ولا دليل عليه -نسأل الله العافية- ولكن نحاول أن نشرح بقدر ما نفهم الفكرة في الجملة ونستوعبها.
    وأبو المعالي الجويني هذا هو الملقب بإمام الحرمين وهو شيخ أبي حامد الغزالي، من أسباب خطأ الجويني في أول حياته أنه كَانَ جاهلاً بعلم الحديث، ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ إنه لما ألف كتاباً كبيراً في مذهب الشافعية -لأنه كَانَ شافعي المذهب- لم يأت فيه بحديث صحيح إلا حديثاً واحداً.
    وهذا الحديث عزاه للبخاري وليس فيه؛ لكن لو سُئل في علم الكلام، أو لو قرأت كتاب الإرشاد، وهو مطبوع، لوجدت أنه مطلع عَلَى علم الكلام، وعلى الأقوال وعلى هذه الفلسفات والأمور التي لا خير فيها، ولا ثمرة ترجى منها،
    ولهذا رجع الجويني في آخر الأمر إِلَى عقيدة السلف في الجملة، وذلك في الرسالة النظامية، وإن كَانَ هو يظن أن السلف يفوضون المعنى، لكن يكفي أنه هدم المذهب الأشعري الذي كَانَ عليه هو وأصحابه، وهو التأويل.
    وقَالَ: "لما رأينا أن السلف والصحابة والتابعين ومن بعدهم مطبقون ومجمعون عَلَى عدم التأويل" وهذه حقيقة، فلا يوجد أبداً في الصحابة ولا في التابعين مؤول عَلَى الإطلاق، قَالَ: "وهم أزكى النَّاس وأعلم النَّاس وأحفظهم للدين" هذا معنى كلامه، "فلو كَانَ التأويل حقاً لسبقوا إليه ولكانوا أولى النَّاس به" وهذا كلام صحيح.

    فترك التأويل وقال في صفات الله: نثبتها ونفوضها، بينما التفويض عند السلف في الكيفية فقط، والسؤال عن ذلك بدعة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي يعلم ذلك، لكن نثبت المعنى، فالاستواء مثلاً معناه معلوم وهو: استقر، وعلا، وارتفع، وصعد، كما ذكر السلف، وهذا معنى معروف في لغة العرب؛ لكن الكيفية أمرها إِلَى الله في جميع الصفات، ونحن نجهل كيفية صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- مثلما نجهل ذاته، وصفاته فرع عن ذاته، وأما إثبات الصفات، ومعرفة معناها، فإننا نعرف معناها، ونرى آثار الرحمة، ونفرق بين الرحمة وبين الحكمة وبين العلم. لأن لكل منها معاني وآثار كل منها تختلف في لغة العرب.
    والشاهد أن أبا المعالي فوّض بإطلاق، فقول أبي المعالي وهو القول الثامن، هو أن كلام الله مشترك، بين المعنى القائم بالنفس، وبين المخلوق الذي هو الحروف والأصوات، لا كما يقول الأشعرية أن الكلام فقط هو ما في النفس، فكأن أبا المعالي جدد كلام ابن كلاب، فـابن كلاب يقول: هو ما في النفس فقط، وأما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، مثل أي خلق من مخلوقات الله، لا يطلق عليها كلام الله، وأبو المعالي يطلق كلام الله عَلَى النوعين عَلَى كلام الله الذي هو ما في نفسه من المعاني، وعلى كلام الله الذي هو ما خلق.
  5. التاسع: مذهب أهل السنة

    المذهب التاسع هو الذي يهمنا، وينبغي أن نفهمه ونعرفه الآن بالجملة، ثُمَّ نأخذ تفصيله إن شاء الله قليلاً قليلاً في أثناء البحث. قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
    [وتاسعها: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً، إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو يتكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة] .
    مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الله يتكلم بصوت يسمعه من يريد اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يسمعهم ذلك الصوت، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم بما شاء في الأزل في ما لا أول له أو في ما لا نهاية له كما شاء، لا حجر عَلَى ذلك أبداً، وهذه العبارة رد عَلَى الكرامية أصحاب المذهب الخامس الذين قالوا: إن الكلام تحول من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، أي كَانَ ممتنعاً ثُمَّ تكلم ويتفلسفون في ذلك، كما ذكرنا في قضية حوادث لا أول لها، لكن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتكلم كما يشاء في أي وقت شاء، وكذلك في الأزل فيما لا أول له، فالنوع قديم، وأما آحاد أو أعيان الكلام فإنها متجددة -مثلاً- أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما كلم موسى هل كلمه بما كلم به الملائكة لما خلق آدم؟ لا.
    إنما تكلم مع الملائكة، ثُمَّ تكلم مع موسى، وهكذا نجد أن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخاطب من شاء ويتكلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما يشاء متى شاء، وأما الكيفية فكما قلنا في جميع الصفات: إن كيفية كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر لا يستطيع العبد أن يدركه، وإنما نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الكلام بالصوت الذي يسمعه المخاطب الذي يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخاطبته وإعلامه وإفهامه به، كما سيأتي إن شاء الله في تفصيل الأدلة عَلَى ذلك، والمقصود أن نعلم أن هذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
    قَالَ المُصنِّفُ رحمة الله:
    [وقولُ الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ: وإنَّ القُرْآن كلامٌ الله "إنّ" بكسر الهمزة عطفٌ عَلَى قولهِ: "إنّ الله واحد لا شريك له" ثُمَّ قَالَ: وإنَّ محمداً عبده المصطفى، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله.
    وقوله: كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، رد عَلَى المعتزلة وغيرهم، فإن المعتزلة تزعم أن القُرْآن لم يبدُ منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يُحرِفوُن الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل.
    فإنَّ المضافَ إِلَى الله تَعَالَى مَعَانٍ وأَعْيَان، فإِضَافةُ الأعيان إِلَى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره، فإن هذا كلُّه من صفاته، لا يُمكن أنَّ يكون شيء من ذلك مخلوقاً] اهـ.

    الشرح:
    القاعدة في اللغة العربية أن الهمزة بعد القول تكون مكسورة دائماً، وهذا يقول: [وإن القُرْآن كلام الله] هذا عطف عَلَى ما سبق في أول العقيدة، ثُمَّ يقول: [منه بدا بلا كيفية] أي نَحْنُ لا نفسر الكيفية ولا نعرفها وقوله: [بدا] يمكن أن تكون [بدأَ] من البدء، ويمكن أن تكون [منه بدا] أي ظهرَ، والذي مشى عليه المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو أن كلمة بدا من بدا يبدو، وبعض العلماء يقول: "منه بدأَ وإليه يعود" فالعبارة هنا بعد ذكر [وإليه يعود] يترجح أن تكون بدأَ من البدء لأن البدأَ يقابله العودة، لكن الإمام الطّّحاويّ هنا لم يذكر كلمة [وإليه يعود] وإن كَانَ هو يؤمن بها، فبقي الأمر محتملاً للاحتمالين.
    والذي يبدوا لي أن المُصنِّف اختار كلمة بدا أي ظهر، ولم يختر كلمة بدأ؛ لأن الحنفية شرحوا العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً، وقد ألمحنا إِلَى ذلك فيما سبق، فإذا قَالَ: "منه بدأ" أي منه ابتدأ، فقد يفهم بعضهم أنه قبل ذلك لم يكن متكلماً، أو أنه ابتدأ الكلام، وأن جنس الكلام، أو نوع الكلام ليس بقديم، فحتى يزيل هذا الإشكال مال إِلَى قوله [منه بدا] مع أن هذا الإشكال له جوابه، وليس هذا موضعه، لكن فيما يبدو من اختيار المُصنِّف أنه تعمد أن يختار "بدا" ولم يشر إِلَى "بدأَ" لأنه يقول: "وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: "منه بدا بلا كيفية قولاً" أي ظهر منه، ولا ندري كيفية تكلمه به.
    وأكّد هذا المعنى في قوله "قولاً" فأتى بالمصدر المعرف للحقيقة؛ كما أكد الله تَعَالَى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً))[النساء:164] ونجد أن المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عندما يتكلم في أصحابه الحنفية يذكر أنهم قالوا: إن إطلاق الكلام عَلَى القُرْآن هو من قبيل المجاز، فكأنه أراد أن يأتي بمعنىً لا يحتمل الشبهة ولا الشك ولا المجاز، فقَالَ: [منه بدا] أي ظهر منه كما سيأتي.
  6. شبهة المعتزلة والجواب عليها:

    تقول المعتزلة إذا قلنا: إن القُرْآن كلام الله، لا يمنع أن يكون مخلوقاً.
    ودليلهم أنهم قالوا: نَحْنُ نقول بيت الله والبيت مخلوق، وناقة الله والناقة مخلوقة، إذاً كلام الله مخلوق، وهذه شبهة تبدو قوية.
    لكن -والْحَمْدُ لِلَّهِ- الجواب عليها واضح وسهل، فقد أجاب عليها السلف بأن ما يضاف إِلَى الله عَلَى نوعين: معانٍ وأعيان، الأعيان أي الأشياء الحسية، وهذه واضحة أنها مخلوقة، مثل بيت الله الكعبة، وناقة الله، وماء الله، وأي شيء نضيفه إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ من الأشياء الحسية فإن هذا يكون من الأعيان، وتكون الإضافة هنا للتشريف.
    وإذا أضيفت المعاني إِلَى الله تَعَالَى مثل حياة الله، حكمة الله، علو الله، عزة الله، فهي صفات، فإذا قلنا: حكمة الله فالمقصود بها صفة الله التي هي الحكمة، ورحمة الله أي: الصفة التي يتصف بها الله عَزَّ وَجَلَّ، وكلام الله أيضاً معناه الصفة التي يتصف بها الله، فهي ليست مخلوقة، وإلا للزم عَلَى كلام المعتزلة أن جميع صفات الله مخلوقة، لأننا نقول: رحمة الله، وعلم الله وحياة الله، فهل حياة الله مخلوقة والعياذ بالله؟ حتى هم لا يقولون ذلك؛ فعُلم أن قول المعتزلة هذا ظاهر الفساد وظاهر البطلان، ولا بد أن نفرق بين الأعيان وبين المعاني، فما أضيف إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ من الأعيان أي من الذوات فهذا يضاف للتشريف، فمثلاً كل النوق خلقها الله فكلها نوق لله، لكن عندما نقول: ناقة الله (بالذات) فهذه فيها إضافة تشريف، لأن هذه الناقة أخرجها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لتكون آية لثمود، فهي تختلف عن أي ناقة أخرى ولدت بطريقة طبيعية، كما شاء الله عَزَّ وَجَلَّ أن يطبع المخلوقات في التناسل والتتابع.
    وبيت الله مثلاً، كل البيوت بيوت الله، والمساجد (بالذات) بيوت الله ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ))[النور:36] لكن إذا قلنا: بيت الله فإن التشريف هنا يحصل للكعبة أول بيت وضع للناس، وهكذا مثلاً رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه ذات معينة مخلوقة فنقول: رَسُول الله هنا للتشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    أما إذا قلنا: حكمة الله، حياة الله، علم الله، ومنها كلام الله؛ فلا يمكن أن يكون هذا مخلوقاً وإنما هي صفات، ولذلك لا نضيف إِلَى الله إلا الحق لأننا إذا أضفنا إليه شيئاً فإن هذا يدخل ضمن ما يوصف به الله في الجملة، وهذه الشبهة الأولى من شبهات المعتزلة:

    ونقضها قول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
    [والوصفُ بالتكلُّم مِنْ أوصافِ الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: ((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)) [الأعراف:148].
    فَكَانَ عُبَّادُ العِجْلِ مع كُفْرِهم، أَعْرَفُ باللهِ من المعتزلة، فإنَّهم لَمْ يقولوا لِموسى: وَرَبُكَ لا يتَكَلمَ، أيضاً.
    وقال تَعَالَى عن العجل أيضاً: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً)) [طه: 89] فعُلِمَ أَنْ نفي رَجع القولِ، ونفي التَكلِيم نقصٌ يُستَدلُ بِهِ عَلَى عْدَمِ ألوهيةِ العِجل] اهـ.


    الشرح :
    هذا أحد الأدلة البرهانية التي تؤمن بها العقول السليمة، والفطر القويمة، ومن خلالها نثبت أن الله عَزَّ وَجَلَّ متكلم، وهو أن الكلام وصف كمال، بخلاف الخرص فإنه وصف نقص وعيب وذم، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي كل ما كَانَ صفة كمالٍ بإطلاق أي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله تَعَالَى أولى به من المخلوقين، حتى لو كانت هذه الصفة في المخلوق.
    وقيدنا بقولنا: "على الإطلاق"؛ لأن من الصفات ما تكون كمالاً في المخلوق، وهي لا تليق بالخالق كالنكاح مثلاً فإن المخلوق الذي يتزوج أكمل من المخلوق العاقر، أو العقيم، أو الذي لا يتزوج؛ لكن هذا في حق الله -عز جل- يكون نقصاً، فلذلك قيدنا وقلنا "لا نقص فيها بوجه من الوجوه" أو "لا نقص فيها عَلَى الإطلاق" ومن ذلك أنه جل شأنه مُتَكلِّم؛ لأن صفة الكلام ممدوحة وهي كمال في حق المخلوق، والدليل عَلَى ذلك قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)) [الأعراف:148] فدلت الآية عَلَى أن الإله الحقيقي يتكلم، ويأمر وينهى ويشرع، أما هذا الذي لا يتكلم ولا يهديهم سبيلاً فكيف يتخذُّ إلهاً؟

    وهنا أمر دقيق نريد أن ننبه عليه وإن استطردنا لكنه مهم، وهو أن الذين يدخلون في قضية لم يرد فيها شيء من الكتاب والسنة ويتعبون أنفسهم فيها، وهي قضية التجسيم، فيقولون: ما ثبت أنه جسم فليس بإله، نقول: ففي هذه الحالة عباد العجل ألم يكن العجل جسداً موجوداً أمامهم؟ أما كَانَ يكفي الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو العليم أن يقول: ألم يروا أنه جسد، فما دام العجل جسداً إذاً فليس بإله.
    وكذلك في صفة الدجال فقد كَانَ يمكن أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه ليس بإله لأنه جسم، والله ليس بجسم، ولكن الألفاظ المسكوت عنها في الكتاب والسنة، السكوت عنها له دلالته، وهذا دليل عَلَى أن الوحي من عند الله، والقرآن وكلام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعظم الأدلة وأصدق البراهين.
    فلهذا لم يأت في القُرْآن والسنة لا إثبات الجسم ولا نفيه؛ بل هو أمر مسكوت عنه، ويجب علينا أن نسكت عنه ولا نخوض ولا نبحث فيه، ولا نتعرض لشيء مسكوت عنه، وإذا أثبتنا شيئاً لله فنثبت ما أثبته لنفسه ولا نزيد عليه، فلا نقول: جسم ولا غير ذلك من الزيادات، وإذا نفينا فننفي ما نفاه تَعَالَى عن نفسه في الجملة، ولا نقول: ليس بجسم، ولا بد أن نعلم أننا كلما تمسكنا بالوحي، فإننا نكون في عين اليقين، وبعيدين أيضاً عن كل شبهة، فالله عَزَّ وَجَلَّ أتى بدليل واضح بَيِّن عَلَى أن العجل لا يمكن أن يكون إلهاً فقال:((أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)) [الأعراف:148] فالعجل له خوار لكن لا يتكلم بمعنى لا يهدي لا يقول كلاماً فيه هداية؛ فليس بإله.
    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فكان عباد العجل مع كفرهم] بل هم من أكفر خلق الله عَزَّ وَجَلَّ، لأنهم عبدوا العجل والنبي بين ظهرانيهم، وقد دعاهم إِلَى التوحيد فليسوا مثل الأمم الجاهلة، هذا غاية الكفر؛ لكن مع كفرهم [كانوا أعرف بالله من المعتزلة] ومن نفاة كلام الله جميعاً [فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً] وإلا لأفحموا موسى عَلَى زعمهم، ولكنهم فهموا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتكلم، وأنه كلم موسى، كما هو معلوم في القرآن، ونقول: إن هناك مناسبة بين قوله تعالى: ((أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ))[الأعراف:148] وبين ما يعلمه قوم موسى ويفخرون به من هذه الميزة العظيمة، وهي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلم موسى عَلَيْهِ السَّلام، وهذا لا شك مفخرة وميزة لكن كيف تثبتون أن الله كلم موسى نبيكم هذا ثُمَّ تعبدون العجل الذي لا يتكلم ولا يهدي؟! ومع ذلك فهَؤُلاءِ أعرف بالله من المعتزلة، ومن نفاة كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإلا لقالوا إن ربك لا يتكلم أيضاً، فلو كَانَ عباد العجل معتزلة أو كلابية لقالوا: إن ربك لا يتكلم.
    فـالمعتزلة والكلابية جعلوا الله -تعالى -عن ذلك علواً كبيراً- مثل العجل مع أن العجل له خوار، وهَؤُلاءِ أيضاً لم يثبتوا له شيئاً، ويقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن العجل: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً))[طـه:89] [فعلم أن نفي رجع القول، ونفي التكليم نقص يستدل به عَلَى عدم ألوهية العجل] فالإله الحقيقي -ولا إله إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يرجع القول ويتكلم ويقول، وأيضاً هو الذي يملك الضر والنفع فسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عما تقوله المعتزلة علواً كبيراً.