المادة    
وبعد أن ذكر الشيخ أحمد شاكر الجملة الأخيرة من كلام ابن كثير، رحمه الله قال: ''أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟
بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها''.
فهو يقيس وضعنا الحالي على حالة جنكيز خان والياسق، وكيف ابتُلي المسلمون بهذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكيف دخل أثر هذه القوانين إلى الناس.
  1. فساد القوانين الوضعية

    ولعلنا نستعرض بعض الأمثلة، ثم نكمل بقية كلام الشيخ أحمد شاكر، فلقد نشر في جريدة المسلمون العدد (328)، بقلم الشيخ محمد الغزالي، يقول: للقوانين الوضعية أثر عميق في إفساد الأمم التي نكبت بها، لا سيما إذا كانت هذه القوانين قد جاءت مع استعمار حاقد على الإسلام مكذب لنبيهم، ومضاد لتعاليمه وقيمه إنه في الحالة هذه يريد زلزلة العقيدة والشريعة معاً، وتدريب الأفراد والجماعات على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنشاء تقاليد جديدة تألف الخمر، والخنا والربا ووسائل الآثام التي يستهين بارتكابها أو يستحله.
    والقصة التي أحكيها الآن كنت أحسب العلم ببواعثها حكراً على جمهور القضاة والمحامين، حتى فوجئت بأنها معروفة لدى العمال والفلاحين، فأدركت أن الفساد في مجتمعنا قد رسب في القاع بعد ما لوث السطح، وأذكر القصة التي بعث بها إلي الأستاذ فلان.
    قال: منقول عن جريدة الأخبار، القصة تقول: تلقى العميد السيد البدوي -مدير مباحث الدقهلية- بلاغاً من أهالي كوم النور قرية مركز بيت غمر، أنه تم ضبط فاطمة علي حسن عمرها عشرين سنة، وهي تحاول سرقة جاموسة، وهرب شريكها في الحقول، وكانا يريدان أن يسرقا جاموسة، وأمام العقيدين محمد شعيشع ومحمد أنور اعترفت المتهمة فاطمة علي حسن:
    أولاً: بأنها كانت تقضي بين الحقول وقتاً سعيداً مع صديقها في الزريبة، ولم تكن تحاول السرقة، وتطلب من رجال المباحث التستر عليها حتى لا يعلم زوجها، ويطلقها حفاظاً على الأسرة والأولاد، فقالوا لها: لماذا هربت؟ قالت: كان معي رجل -حتى اعترفت بالفاحشة والعياذ بالله- فهربت حتى لا تُعرف جريمتها فالقضية قضية زنا، وترجو التستر عليها؛ لأنه لو اطلع الزوج فيمكن أنه يقيم دعوى فينهدم البيت.
    يقول: ولكن تحريات الرائدين رشدي فودة، وجابر الدين وهما رائدين جيدين، قالوا: لا، فالزنا ليس هو القضية، لأن القضية أهم، فقاما بالتحريات حتى أثبتا أن شريكها في السرقة هو زوجها محمد عبد العاطي وعمره اثنان وعشرين سنة، ومهنته فلاح، وهي تريد التستر عليه بهذه القصة الغريبة، وتم ضبط الزوج الذي اعترف بالسرقة، فقرر عبد العزيز حبيب وكيل النيابة حبسهما على ذمة التحقيق أربعة أيام.
    ثم يقول: هل لاحظت شابة تصف نفسها بالزنا مع صديق، وتقول: هذا مجرد زنا وليس هناك جريمة، وتطلب من المباحث التستر عليها خشية أن تنكشف محاولتها بالسرقة بالاشتراك مع زوجها الذي ادعت أنه صديقها، وهذه الشابة تجهل القراءة والكتابة كما هو الغالب في المناطق الريفية.
    يقول الشيخ: ولكنها تعرف بالتأكيد أن الزنا في مصر لا عقوبة عليه إذا تم برضى الطرفين، وبشرط أن يكونا بالغين فهي في العشرين من عمرها، وهو في الثانية والعشرين من عمره، وهي تعلم أن هذا أهون بكثير من السرقة التي يعاقب عليها بالحبس أو السجن، وهي تعترف لضباط المباحث وقد نضب الحياء من وجهها بأنها كانت بالزريبة بقصد الزنا مع صديقها المزعوم، وتطلب بكل وقاحة من المباحث أن تتستر عليها.
    يقول الشيخ: وفي الماضي كانت الفلاحة تُفضِّل الموت على أن يقال لها: زانية! فما الذي حدث في مصرنا العزيزة منذ قيام الثورة العلمانية المباركة، حتى انقلب كل شيء رأساً على عقب في هذا البلد المسكين.
    يقول الشيخ الغزالي: وقد عجبت مما عجب منه الأستاذ محمد عبد الرحيم -الذي أرسل له- فعجبت من علم فلاحة في إحدى القرى القصية أن القانون الوضعي يبيح الزنا، وإن كان يرفض الإكراه عليه.
    يقول: وتعرف هي أن الزوج إذا سكت عن جريمة زوجته التي زنت فإن القانون الديوث لا يتدخل حماية للأسرة، فيترك المرأة تتبع صاحبها الوغد يعيشا في بيتهما الموبوء، وبقية الافتراضات القانونية معروفة، فإن الشخص الزاني إذا قتل الزوج الغضبان الثائر سقطت دعوى الزنا بوفاته، ثم اعتبر القاتل مدافعاً عن نفسه، ويضيع دم القتيل الشريف عياذاً بالله.
    يقول: ولست أدري إلى متى يظل المسلمون بعيدين عن دينهم وشرعهم وشرفهم في ظل قانون وضعي، فرضه الاحتلال الأجنبي الكفور، واستبقاه الغزو الثقافي الذي خدر الناس، وأمات في دمائهم دون أدنى مقاومة.
  2. محاباة الشريعة الإسلامية

    ونشر أيضاً في جريدة الأخبار المصرية المستشار القانوني سعد العيسوي، يقول: إن صح ما قرأت فهو خطأ في تطبيق القانون.
    وهذا الرجل سمع ما قضت به إحدى المحاكم بجلد متهم ثمانين جلدة جزاء سكره وسيره في الطريق العام مخموراً.
    يقول: إن صح ما قرأت في الصحف عن أسباب هذا الحكم؛ فأقول إجابة على سؤالك: إن هذا الحكم من تلك المحكمة وهي جنائية، قد أصابه الخطأ والعوار من نواحي عديدة.
    والقضية أوضحها لكم بإيجاز: قاضي مسلم أحس في نفسه بأن بلدنا مسلم، ولا بد أن نكون مسلمين، وهو بإحدى المحاكم الابتدائية -أظنها في جنوب القاهرة كما في الجريدة- فقال: لماذا لا يطبق الإسلام في بلادنا، وعندنا مادة في الدستور، تقول: إن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع؟!
    فالمادة الدستورية هذه عندهم تقضي على اللوائح التفصيلية، وهذا معروف عندهم، فالدستور أعلى مرتبة ثم القانون ثم اللوائح، فقال: الدستور يجعل الشريعة مصدراً من المصادر، فلماذا أنا لا أحكم على هذا السكران بالجلد بحسب الشريعة، وأسند الحكم إلى المادة الثانية من الدستور؟!
    فإذا سألوني قلت: أنا ما أتيت بشيء خارج عن الدستور، وأنا حكمت بمقتضى الدستور، والدستور يجعل الشريعة هي المصدر، وأنا حكمت بحكم الشرع، فيجعلهم في حرج، ويرى هل فعلاً سيلتزمون بحكم الله؟! فأقدم على هذا العمل، فحكم بجلد الشخص ثمانين جلدة.
    فحدثت ضجة كبيرة في البلد، وكتب هذا المستشار يقول: هذا الحكم خطأ، وباطل من عدة وجوه:
    أولاً: أن من كتبه وقضى به ونطق به حنث في يمينه القضائي، وهو يمين يتعين على كل من يتولى وظيفة القضاء أن يقسمه، سواءً كان في أول سلم العمل القضائي كمعاون نيابة، أو في أعلى مناصب القضاء وهو رئيس محكمة النقض، وهذه اليمين نص عليها في المادة (71) من قانون السلطة القضائية، ونصه: ''أقسم بالله العظيم، أن أحكم بين الناس بالعدل، وأن أحترم القوانين، وحكم العدل، واحترام القوانين يتضمن أن أقضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملآئمة في حدود القانون المطبق''.
    قال: فهذا الرجل حنث في اليمين، فهو حلف أنه يطبق القانون ثم ذهب يطبق الشريعة فهو حانث في يمينه.
    ثانياً: أن من قضى بهذا الحكم، وصح أنه فعل ذلك، فقد خالف نصاً في الدستور، وهو نص المادة (66) أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا يقال في ذلك: إنه حد السكر شرعاً، وأن الشريعة الإسلامية هي الأولى بالتطبيق، فيقول: لا يقال ذلك؛ لأن الشرع يطبق قوانين مكتوبة ومقررة، وليس للقاضي أن يعمل غيرها من لدنه مهما اختلفت مع معتقده الديني أو السياسي -نعوذ بالله من الكفر- إلى آخر ما قال.
    ثم يقول: وأفصح المشرِّع عن ذلك صراحة في المادة الأولى من التقنين المدني، بأن القاضي يطبق القانون، فإن لم يجد في نصوصه ما ينطبق على الواقعة طبق العرف، وإن لم يجد طبق أحكام الشريعة الإسلامية، وإن لم يجد طبق القانون الطبيعي وقواعد العدالة، فحينئذٍ قال: هذا لا يجوز، ولا يقبل من القاضي جنائياً أن يُحرّم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، فلا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون... إلى آخره.
    ثالثاً: إن هذا القائل بهذا الحكم، أخطأ عدة أخطاء في مجال القضاء والحكم، منها: أنه جعل من أسباب الحكم مجالاً للتعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية، ولو فتحنا هذا الباب فسيأتي كل إنسان يطبق شيئاً ويقول: هذا موافق للشريعة، مما ينتج عنه ضياع الدولة -نعوذ بالله من الخذلان- ثم يقول: ولو كان القانون يسمح بذلك المسلك لأدى الأمر إلى فوضى، فهذا يحكم بالجلد طبقاً لمعتقده، وذاك يحكم بغيره طبقاً لمعتقده، وهو يرى أن الحكم لا بد أن يكون بالقانون.
    رابعاً: من أسباب ومبررات بطلان هذا الحكم: أن هذا الحكم يدل على أن كاتبه أو قائله لا يعرف شيئاً عن علم العقاب -فهو يقول: هذا قاضٍ جاهل لا يعرف شيئاً عن علم العقاب- قال: فهذه الجريمة من الجائر الحكم فيها بهذا، لأنه يمكن الحكم فيها بالحبس ستة أشهر.
    وهذا القاضي لم يحكم من عند نفسه، بل هذا الحكم في شريعة رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالتهمة موجهة إلى الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- ثم بعد ذلك فصلوا هذا القاضي من العمل.
    فقدم دعوى وتظلم، وقال: أيها الناس! أنا حكمت بمقتضى الدستور، ولم أخالف الدستور، فقالوا: لا هذه مخالفة، ورفض التظلم، وتمت العقوبة التي عوقب بها.
    فالشاهد بعد ذلك، أنه عرض الموضوع وصار قصة طويلة، وانتهى الأمر بأن القاضي أدين لأنه حكم بحكم من أحكام الشريعة الإسلامية، ونشر بالصحف هذا الهجوم الشديد بأن هذا العمل غير قانوني ويؤدي إلى فوضى.
  3. خطر القوانين الوضعية

    وبعد هذه القصة نرجع إلى كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
    يقول: ''إن المسلمين لم يُبلَوا بهذا قط فيما نعلم من تاريخهم -أي: بتحكيم القوانين الوضعية- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلامُ التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيء الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه''.
    فكان خاصاً بالحكام التتار ولم يندمج في الأمة، أما الآن مثل قصة هذه الفلاحة فاطمة علي حسن فقد اندمج القانون الوضعي كقانون نابليون بالأمة، حتى عرفته الفلاحة في أقصى الريف الجاهلة بأنه لا عقوبة عليها.
    يقول الشيخ أحمد رحمه الله: إن قانون التتار لم يندمج بالأمة: ''ولم يتعلموه ويعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره''.
    أما الآن فقد جعلوا له أقساماً: أقسام القانون، وأقسام العلوم الاقتصادية، وأقسام الأنظمة وأقسام كثيرة أخرى، وهي في الحقيقة قانون وضعي، وتدرس كل شرائعه.
    يقول: ''أفرأيتم هذا الوصف القوى من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟
    -ونحن دخلنا الخامس عشر، فالله المستعان- إلا في فرق واحد -بين قوانين جنكيز خان وبين قوانين اليوم-: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية -الآن- تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناسٌ ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً''.
    فالواحد منهم إذا أصبح ولده مستشاراً فهذا منصب عالٍ ورفيع، أما إذا كان -مثلاً- عضواً في محكمة النقض فهذا أعلى، أو رئيس محكمة النقض، أو رئيس المحكمة العليا بالبلد فهذا يعادل رئيس الجمهورية، ويعادل رئيس مجلس النواب في المرتبة، فهذه منزلة عظيمة جداً عندهم لجميع المجتمعات التي تحكم بالقوانين الوضعية.
    يقول: ''هذه القوانين التي يصطنعها ناس... ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا: الياسق العصري!! ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم رجعياً، وجامداً! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى: ياسقهم الجديد، بالهوينا واللين تارةً، وبالمكر والخديعة تارةً -مثل قانون الأحوال الشخصية وتعدد الزوجات، وحتى ما كان في صلب الأحوال الفردية أيضاً، أدخلوا فيه هذه القوانين الوضعية- وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون -ولا يستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!!
    أفيجوز إذاً -مع هذا- لأحدٍ من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟!
    أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟!''.
    لا يجوز أبداً، ومع الأسف الشديد أن المحامي والقاضي الوضعي من أثرى طبقات المجتمع، وهذه الطبقة من أهم الطبقات، ومن أشدها ثراءً في جميع دول العالم.
  4. القوانين الوضعية كفر بواح

    يقول: ''أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا: الياسق العصري، وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟!
    ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول؛ بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة!!''.
    والقضاء باطل، وأحكامه باطلة، ولا يجوز لمسلم أن يتولى القضاء في هذه الأنظمة الطاغوتية.
    يقول: ''إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحدٍ ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين'' رحم الله الشيخ أحمد هكذا ظن بالعلماء، لكن سمعنا عن المفتي الجريئ الشجاع الذي أحل فوائد الربا، وأحل كل شيء حرام نسأل الله العفو والعافية.
    قال: '' سيقول عني عبيد هذا: الياسق العصري وناصروه، أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاءوا فما عبئت يوماً بما يقال عني ولكن قلت ما يجب أن أقول ''.
    فقد بيّن رحمه الله ما يجب عليه أنه يبرأ منه، وبين لأمته حقيقة الأحكام والقوانين، فقد ذكر بأنها كفر بواح، واضح وضوح الشمس، لا مداراة فيه ولا مداهنة: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمَّى ما عدا حكمه جاهلياً أياً كان، فأحكام الياسق جاهلية، وأحكام قريش جاهلية، وأحكام القانون الفرنسي جاهلية، والقانون الأمريكي جاهلية.
    فالحكم حكمان: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية، وليختر الإنسان ما يشاء، ولتختر الأمة، فإن اختارت حكم الله كانت أمة مؤمنة مسلمة موحدة مطيعة شاهدة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمة التي تحتكم إلى غير شرع الله، وإن ظنت أنها تقول: إن الله موجود، وإن الدين حق، وأنها تصوم وتحج وتصلي إلى غير ذلك، فهي أمة تحتكم إلى شرائع الجاهلية، وتستحق أن تسمى أمة جاهلية، مهما كانت بها من الحضارة، أو من الرقي، أو من التقدم المادي كما يزعمون، فالقسمة ثنائية ولا ثالث لها.
    إما أن يستقي الناس أحكامهم من حكم الله ومن دين الله، وإن كانوا يُخطئون، فالكل قد يُخطئ، فالقاضي المسلم قد يحكم وقد يفهم خطأً لكنه مستمد من دين الله، وأما أن يستمد من غير حكم الله فهو جاهلي.
    وهذه الكلمة كلمة شرعية، فكلمة الجاهلية مصطلح شرعي متداول معروف في الكتاب والسنة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لـأبي ذر رضي الله تعالى عنه لما عيّر رجلاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنك امرؤاً فيك جاهلية} فهذا هو المعيار، فمن كانت عنده أحكام الجاهلية، قلنا: إنه رجل جاهلي نسأل الله العفو والعافية.
  5. النهي عن موالاة اليهود والنصارى

    وبعد آيات الحكم والتشريع مباشرة تأتي آيات الولاية، والسورة مترابطة محكمة، فبعد الإنكار على القوانين الوضعية، يأتي النهي عن الولاية والموالاة للكافرين، فيقول الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ))[المائدة:51-52] فيحذِّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ولاية اليهود والنصارى لأنهم أعداء، ويبين الله تبارك وتعالى حقيقة هذه العداوة، فيقول: ((لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ))[المائدة:51] فهم متعاونون في القديم والحديث وفي كل زمان ومكان.
    مثلاً أثيوبيا فيها أربعون مليون مسلم لم يتألم أحد لما يجري لهم، وفيها أربعة عشر ألف يهودي يتدخل الرئيس بوش لإيقاف الثوار عن دخول أديس أبابا، حتى تتم عملية موسى، وهي عملية نقل اليهود من أديس أبابا إلى إسرائيل، والعالم الحر الذين يحملون راية الديمقراطية والحرية، ومشعل الحرية في نيويورك الذي يفتخرون به لا يهمه أربعين مليوناً يسحقون من أيام هيلاسيلاسي، ثم أيام الحكم الشيوعي البائد، ثم -الآن- الجبهات الاشتراكية النصرانية الخبيثة، فكلها تسحق الأكثرية المسلمة، وتدمرها وتقتلها جوعاً، فلننظر ماذا قدموا لليهود وماذا قدموا للمسلمين؟
    أولاً: أيام الإغاثة اهتموا بإغاثة الأجزاء الصليبية -فقط- من الحبشة، فالطائرات تنزل المعونات الغذائية في المناطق النصرانية، والقرى المسلمة تموت من الجوع، فلما جاءت واحتاجت إسرائيل للفلاشا وعملية موسى أيام الهالك النميري، والذي خطط لها وأشرف عليها بوش حين كان رئيس الاستخبارات، وهو الذي خطط لعملية موسى فرحَّلوا الدفعة الأولى ثم رحَّلوا الدفعة الثانية، فتدخل رئيس أكبر دولة في العالم، حاملة لواء الحرية، وشرطي العالم الكبير تدخل لتأخير الثوار حتى لا يدخلوا العاصمة من أجل أن يرحل (14) ألف يهودي، والطائرات تأتي من إسرائيل وتنقلهم جميعاً، وبعد ذلك لا يبالون عن الذي مات أو عاش، والجبهة المسلحة التي تقتحم البلد جبهة نصرانية، والضحايا سيكونون من المسلمين، ولا إشكال في ذلك، فبعضهم أولياء بعض، فهل نصدق دعاوى حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والنظام الدولي الجديد ونحوه، أو نصدق الله؛ ثم نصدق الواقع الذي ينطق كل لحظة؟
    ولا يمكن أن يخالف ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))[المائدة:51] فلا زجر ولا عقوبة أكثر من هذا.
  6. خطر تولي اليهود والنصارى

    ثم يبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السبب الذي من أجله يتولى بعض المسلمين الكافرين: (( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ))[المائدة:52] فهذا عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه، قالوا: (يا محمد ثلاثمائة دارع وحاسر تقتلهم في غداة واحدة وهم حلفائي، إني امرؤ أخشى الدوائر) فهذه حدثت في التاريخ، ولكن هل هي الحادثة والقصة الوحيدة التي تقال أم في كل زمان ومكان؟!
    فمن كان في قلبه مرض فسيسارع إلى قوانينهم وتبرجهم وحضارتهم وأنظمتهم وتوليهم وإلى أن يكون معهم، وهذا في كل زمان ومكان، فليحذر المسلمون أشد الحذر من هذا.
    ولتتأمل الأمة ماذا قال الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر هذه الآية، قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه))[المائدة:54] أي: من يتبع قوانينهم وتشريعاتهم ومن يتولهم ويرتد عن دينه فسيصبح كالكفار، ثم سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فهذا دين الله، وليحفظن الله هذا الدين حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار وليرتد من يرتد، وليتولِ الكفار من يتولهم، وليفعل من شاء كما يشاء، فالله غني عن كل الناس، وله جنود يصطفيهم ويختارهم، ولا يبالي بمن عداهم أبداً.
    فإذا ارتدت أمة أو جيل أو ولاية، وتابعوا الكفار والمشركين، فعند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البديل، فـ: ((مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ))[المائدة:54] أول صفاتهم: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] فلا يحبون الكفار ولا يوالونهم ويحبهم ويحبونه: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )) [المائدة:54] فهم أذلة على المؤمن مهما كان حاله، فهو يحبه سواء كان أسود أم أبيض، غني أم فقير، في أقصى الهند أم في أقصى الفلبين، و: ((أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] ولو كان من كان من الكفار، فنحن أعزاء، وليس كحال المسلمين اليوم، فالمسلم يُهان ويُذل، والكافر يعظم ويجل حتى في الشارع والطريق -إلا من رحم الله- فأكثر المسلمين اليوم إذا رأوا أنك مسلم، وإذا رأوا أن الرجل أتى من الهند مثلاً أو من الصين وهو مسلم فلا قيمة له، وإذا قال: رجل غربي أو أوروبي أمريكي فتجد أن جميع الناس يحترمونه ويقدرونه -سبحان الله- فهل هذا يكون في قوم صفتهم يحبهم ويحبونه؟!
    فمحبة الله لا تنال بالدعاوي، محبة الله غالية: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31] فاتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً جهاداً ودعوةً، علماً وعملاً، تورث ذلك: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [المائدة:54] فهم يرفعون راية الجهاد: ((وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54] وهذا الذي يصلح فيه ما قاله الشاعر:
    أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم
    إذا كنت تعمل لله فليلمك الناس في الله، ويقال: هذا إنسان يُطبق السنة، أو ملتزم، أو يعادي الخواجات، أو يكرههم، أو متشدد ومتطرف وأصولي، وكل كلمة لا تهمك، فليلمك اللوم مادام غرضك ومرادك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا تبال بهم لأنه لو كانوا يبالون بلومة اللآئم، ولو كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، لم يكونوا محبين لله، فمن يحب الله لا يبال بالخلق أبداً.
    وكلٌ واحد منَّا ينظر في نفسه، فأنت إذا أحببت أحداً من زملائك أو من أصدقائك أو زوجتك أو أي إنسان فإنك لا تسمع ما يقال فيه، ولو قيل: اتركه، ولا خير فيه، فوالله إنك لا تبالي لأنك أحببته، فكيف بمن أحب رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن كان من أوليائه.
    والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يجعل هذه المحبة مجرد أمركما يظن كثير من الناس، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما يحبهم يجعل لهم قيمة ومنزلة ويكرمهم ثم يدخلهم الجنة، ويرون وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن العبد إذا أحب ربه وأحبه ربه صار من أولياء الله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}.
    فليتق الله هؤلاء الصحفيون والدجالون وأصحاب المجالس، وكل من يعادي من يدعو إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    والحمد لله رب العالمين.