المادة    
لو عدنا إلى كلام الزبيدي نجد أنه دقيق في عباراته فيقول: ''يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكره غير واحد''.
فالقانون الذي وضعه جنكيز خان المقصود به قانون المعاملة، والمعاملات العسكرية جزءاً منها -الجند والقادة- وهذا من أعظم ما اهتم به جنكيز خان، وهو أن يرتب حقوق الجنود فيما بينهم، فهو قانون للمعاملة.
أما ما يتعلق بالدين أو التدين، أو الأحوال الشخصية كما يسمونه فقد ترك، وكان في دولة التتر النصارى والمسلمون والمشركون بجميع أنواعهم، وإنما الذي نظمه وشرعه جنكيز خان هو قانون المعاملة، وهو صورة لما تريده القوانين المعاصرة اليوم.
فالمقصود عندهم هو تنظيم قوانين المعاملات بالدرجة الأولى -التي يسمونها المدينة عموماً- وقضايا العمل والعمال والشركات والبنوك والأمور الاقتصادية، ثم الجانب الجنائي والجزائي -كما يسمونه- وبعض الدول لا تمانع من الاستفادة في بعض هذا الجانب من أحكام الشريعة الإسلامية، لكن بقية الأحكام التي هي قوانين في المعاملة -كما ذكر الزبيدي في شرح القاموس-فلابد أن تخضع للقانون الذي وضعوه.
  1. نشأة القوانين الوضعية

    والمقصود أن القوانين في الياسق -كما سنستعرض بعضها إن شاء الله من كلام الحافظ ابن كثير- كانت في هذا الجانب، مع أنه أيضاً فيها أحكام جزائية أو جنائية.
    يقول الشيخ: أحمد شاكر: ''وقد حررها المقريزي في الخطط "3/357-358" قال: تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة -والمقريزي هو من أوفى من شرح وفصل موضوع الياسق وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر هنا الكلام المهم منه- ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به... فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، وقد ذكر كما ذكر صاحب خزانة الأدب قال:
    فكيف نسوس الناس والناس دوننا             إذا نحن فيهم سوقة نتنصب
    فـالمقريزي يريد أن يرجع إلى الأصل اللغوي، لأنه حصل لبس كبير عند كثير من المؤرخين في أصل الكلمة، وهذا البيت ينسب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، والمعنى: بينما كنا نسوس الناس أي: نقودهم ونرعاهم ونوجههم، -فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، ثم رسمت بأنها القانون لموضوع رعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال- ولا شك بأنها مفاسد وليست مصالح لكن من وجهة نظر أهلها، يقول المقريزي- والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها... والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها''.
    فهذه مقدمة عن السياسة وهي كلمة موجودة ومستخدمة بمعنى الوسائل والأساليب أو الأنظمة التي يتخذها الحكام والولاة لضبط الأمور.
    والسبب في احتياج الناس إليها هو تقصير القضاة والفقهاء، حيث ضيّق بعضهم مفهوم الحدود، فقصروا الحدود في الحدود المعروفة كشرب الخمر، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد البغي وما عدا ذلك ليست حدوداً، وكان الأمراء ورؤساء الشُرط، والمكلفون بضبط الأمن في الولايات يعتبرونها من باب التعازير فلم تكن تندرح ضمن الأحكام، ولم يكن يتناولها القضاة وبعض الفقهاء المتأخرين، وإنما تركت على أساس أنها تعازير ترجع لولي الأمر، ولما صار ولاة أمر المسلمين من العجم، وكذلك الجنود، وكانوا لا يفقهون اللغة العربية أو شيئاً من الأحكام الشرعية، كان بدهياً أن يجتهدوا من عند أنفسهم، ويضعوا النظم والوسائل لضبط الأمن والأحكام التي مهدت لقبول الياسق أو الياسة.
    ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن القيم في الطرق الحكمية، فجعل أن بعض الفقهاء منهم من لم يفهم حقائق الشريعة، فجعل البينة هي الشاهدين فقط، فإذا انتهك عرض إنسان أو سلب ماله في البر وأتى إلى القاضي أمره بإحضار شاهدين، ومن أين له ذلك وهو في البر، وبناءً على ذلك ضاع الحق، فأصبح الولاة لا يحيلون هذه الأمور إلى القضاة، فإذا لم يكن هناك شهود عذبوا الخصم بأي شكلٍ ما، ويأتون بشيخ قبيلته أو عشيرته ويعذبونه حتى يتبين أنه هو أو غيره، فيستخدمون وسائل كثيرة لاستخلاص الحقيقة، ويقول: لولا ذلك لما ضبط الأمر، لأنه لا أحد يجني جناية ويأخذ معه شاهدين، فبذلك تضيع الحقوق.
    أما ابن القيم رحمه الله فيقول: البينة ما أبان الحق، وكشف عنه أياً كان، حتى لو كان بالقرائن، كقرائن معينة تصل إلى حدِّ البينة، لكن لما ضاق الأمر من الناحية الفقهيـة، ومن ناحية القضاء ولابد للناس أن تضبط أمورهم، وكان الذين يضبطون الأمور جهلة بالشرع وبمقاصده، وشروط الاجتهاد ليست متوفرة فيهم، فضلاً على أن نقول: إنهم جهلة بالفقه، فلا فقه ولا اجتهاد.
    ولكن لا بد أن يضبطوا الأمر، فضبطوه بهذه الوسائل التي أخذوها من تربيتهم العسكرية، وخاصة الترك السلاجقة ثم مَن بعدهم، لأنهم قوم متربون تربية قبلية عسكرية.
    والقبائل إلى اليوم لها سلوم وسوالف وأحكام ونظم تطبقها، فأخذوا هذه الأنظمة ووضعوها مع الشرع، فقالوا: هذه شريعة وهذه سياسة، فإذا أحيل إلى القاضي وحكم عليه بحد من الحدود ولو بالتعزير، قالوا: هذه شريعة.
    أما إذا كان الوالي أو مدير الشرطة أو ما أشبه ذلك، قالوا: هذا قتل سياسة، أو ضرب سياسة، أو صلب سياسية، أو يعلقون أخذ أموالهم من باب السياسة، فالأمة استمرأت هذا الوضع.
    ولهذا لما جاء الحكام العادلون مثل نور الدين محمود رحمه الله، وأمر بإلغاء كل سياسة تخالف الشرع، ولا يحكم في صغير أو كبير إلا بأمر القضاة، وجعل مجلساً من القضاة والفقهاء والعلماء، فكان يستشيرهم في كل ما ينزل وهم يفتونه، انتظمت الأمور فكتب إليه بعض الناس، قالوا: إن أهل الفساد والدعارة وقطاع الطريق قد أفسدوا وفعلوا وفعلوا ولا يضبط الناس إلا نوع من السياسة، فكتب إليهم نور الدين رحمه الله.
    إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع للخلق ما ينفعهم وما يصلحهم وهو أعلم بمصالحهم، وقد أكمل الدين فكل شيء يخالف شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو باطل، ولم يرجع عما أمر به، وذلك يعدُّ في مناقبه، فكان إذا جاء الحاكم العادل الذي يحكِّم الشرع لم يحتج الناس إلى هذه السياسة، وإن جاء حاكم جاهل أو ظالم أو جائر أخذ يستبد كما يشاء، وإذا أراد أن يحيل أمراً أحاله إلى القضاة، وقال: هذه شريعة وهذه سياسة.
    وهكذا كان الحال قبل ظهور التتار وقدومهم، وقبل ظهور كتاب أو قانون الياسق، ثم تلا ذلك مرحلة قدوم التتار، فعندما جاء التتار حصل التشابه اللفظي بين السياسة التي هي مصطلح قديم وبين الياسق، أو اليسق، فخلط الناس بينهما، والياسق الذي جاء به جنكيز خان وقومه الذين وضعوه هدفه نفس مصطلح أو مدلول السياسة الذي كان مستخدماً في السابق.
    ولهذا أنكر العلماء هذا التقسيم، مثل شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وابن القيم في المدارج، وفي أكثر من موضع، قالوا: إن هذه القسمة في تقسيم الدين إلى سياسة وشريعة، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، كما قالت الصوفية: هذا محرم شريعةً جائزٌ حقيقة، وأولئك يقولون: هذا لا يجوز في الشرع، لكن يجوز أن يفعل سياسة، وكذلك تقسيم المتكلمين الدين إلى عقليات تثبت بالعقل، وسمعيات تثبت بالسمع، وغيرها من التقاسيم الباطلة.
    لأن السياسة الحقيقية هي قسم من الشريعة، وليست قسيماً لها، والحقيقة هي الشريعة، والشريعة هي الحقيقة، فكل شيء خالف الشريعة فهو باطل، وإن سمي حقيقة أو سياسة.
    وكذلك كل ما سمي أو قيل: إنه معقول ولكنه يخالف المنقول فهو باطل، فإن الدين الذي أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الخير كله، وفيه الكمال كله، وتنتظم به مصالح العباد كلها في الدنيا والآخرة، ولا نحتاج إلى الزيادة عليه أبداً.
    إذاً فهذا التقسيم باطل، لكن كانت القسمة عرفية واصطلاحية في كتب علم الكلام، وفي واقع الناس بالنسبة للسياسة، حتى جاء التتار وجاءوا بهذا الكتاب، ومما فعلته الباطنية كما ذكر العلماء في ذمهم أنهم لا يعدون الشريعة إلا سياسة مدنية، وهؤلاء كفـار خارجون عن الدين بلا ريب، فيقولون: إن الشرع ما هو إلا سياسة مدنية وضعها عقلاء مفكرون عباقرة -الأنبياء- ينظمون مصالح العباد ولا نرى الشرع إلا سياسة مدنية.
  2. كيفية نشأة دولة التتار

    ونرجع إلى كلام المقريزي حيث يقول: ''وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا -أي ما يستخدمه أهل زمانه وهو الياسق أو الياسة ليس هو المقصود به السياسة بمعناها اللغوي- وإنما هي كلمة مغولية -المغول هم التتار- أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا في أولها سيناً، فقالوا: سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية! وما الأمر فيها إلا ما قلت''.
    وهذا هو رأيه، أي: هو كان يتكلم عن مصر، وكانت مصر قاعدة العالم الإسلامي في زمن المماليك.
    ثم قال: ''واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بـمصر والشام: وذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتر في بلاد المشرق، لما غلب الملك أورنك خان وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه: ياسة، ومن الناس من يسميه: يسق، والأصل اسمه: ياسة، ولما تم وضعه، كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ -فهذا خبيث، فمن اهتمامه بها أتى بصفائح، من الفولاذ ونقش فيها هذا القانون، وحفرها في الحديد- وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، حتى قطع الله دابرهم -فـالمقريزي يتكلم عن أمة قد قضت وانتهت- وكان جنكيز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، فصار الياسة حكماً بتاً في أعقابه، لا يخرجون عن شيء من حكمه''.
    وأصبح قانوناً ملتزماً به لا يخرجون عن كلامه، وجنكيز خان بنفسه لم يأتِ للعالم الإسلامي، ولكنه مات ثم الذي اجتاح بغداد أولاده وأحفاده، لأن الحرب استمرت أولاً مع دولة خوارزم شاه -الدولة الخوارزمية في المشرق- وقاومهم السلطان جلال الدين في أكثر من خمسين معركة، وفي النهاية غلبوه، واجتاحوا بلاد المشرق، وهذا أيضاً بسبب ظلم المسلمين، لأن جلال الدين كان من السلاطين الظلمة، فكان يغزوا بلاد الفرس وينهب أموالهم، وإذ قيل له: لماذا تنهب المسلمين؟
    قال: حتى أستعين بها على قتال التتار، فكان ظالماً.
    وهكذا فإن الظالم يعاقب، والأمة المسلمة تعاقب على ظلمها بتسليط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها، فالذي اجتاح بغداد هو حفيده هولاكو الذي وصل إلى بغداد، ثم بعد ذلك وصلت طلائعهم إلى بلاد الشام، وكانت معركة عين جالوت مع قسم من أقسامهم، وبعد عين جالوت انحسر شأن التتار، الذين جاءوا على شركهم، وخرجوا من بلادهم وهم على دينهم الأصلي، إلا أن هولاكو كانت زوجته النصرانية، ويقال: إنه تنصر، لكن التتار كأمة بقيت على دينها القديم: الوثنية، ثم غزاهم الإسلام ودخل قلوبهم شيئاً فشيئاً لما استقروا في بلاد الإسلام وأظهروا الإسلام، حتى كان سلطانهم قازان في أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -وأول ما أتى التتار كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله ما يزال حدثاً طفلاً، ثم لما أصبح شيخ الأمة كان الملك في أيامه قازان- قد أظهر الإسلام، ويقول: إنهم مسلمون، كما في الفتوى المشهورة، فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار، ولكن أي إسلام؟
    فإن الذي يدخل الإسلام في أي زمان ومكان يدخل في الإسلام بحسب ما عليه أهل ذلك الزمان.
  3. انحراف التتار في فهم الإسلام

    ولذلك نجد أن الذين دخلوا في الإسلام أيام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان إسلامهم صافياً على الحقيقة، لأن الذين أدخلوهم فيه هم الصحابة، فجاء التابعون فكان كذلك أو أقل، وجاء من بعدهم فكان أقل، وفي أيام التتار كان يدخل الناس في الدين وفي التصوف والرفض والخرافات، وكان منهم خذابنذه الذي ترفض وكان شيعياً، أي: أصبحوا يتدينوا بدين المسلمين الموجود، ولا يعرفون حقيقة الإسلام، كما نجد هذا اليوم، حيث قد يأتي أمريكي يسلم ويدخل في دين الرافضة، أويكون زيدياً أويكون صوفياً أو أي شيء من جنس الموجود المعروض لديه.
    فالتتار هكذا تدينوا ولكن لم يأخذوا الإسلام على حقيقته الخالصة الصافية النقية، فلذلك بقي عندهم تعظيم لـجنكيز خان، وأيضاً أخذوا يعظمون الإسلام ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصارت قاعدتهم كما كان ملكهم يقول: رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان فكانت المساواة عنده، وهو يرى أنه بهذا قد أنصف الإسلام وأنصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان في زماننا هذا وصرح أحد زعماء أوروبا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل نابليون لقال الناس: هذا منصف، وهذا رجل فاضل.
    وقدكانوا يقسمون الناس إلى أقسام معينة، فيسمون المتمسك بالدين: مسلماني، والذي يساير كل شيء يسموه: عسكري وقلندري، وأسماء كثيرة بعضها بلغتهم، وبعضها بلغة العوام.
    والمقصود أنهم كانوا ينظرون إلى الناس والدين نظرة غير صحيحة، فغاية ما عندهم من تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رجل عظيم مثل جنكيز خان وهكذا، ولذلك أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في حقهم، وأصل الفتوى هو الياسق، وهو أنهم لا يتحاكمون فيما بينهم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يتحاكمون إلى الياسق، وذكر -أيضاً- الأشياء الأخرى التي أشرنا إليها بالنسبة لهم.
  4. الأحكام التشريعية في الياسق

    والشيخ ذكر بعض الأحكام في الياسق، ونتعرض إلى بعضها، كما في تاريخ ابن كثير رحمه الله، الجزء (13/117) يقول: ''وممن توفي فيها من الأعيان جنكيز خان سنة (624هـ)، وهو الذي وضع لهم السياسا -بالألف الممدودة- التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب، والظاهر أنه مجهول النسب''.
    وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في فتواه عن التتار لما قالوا: إن جنكيز خان أعظم من الأنبياء، قالوا: هذا أمه حملت به من شعاع الشمس، فقال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: هذا إن ثبت فإنه يدل على أنه ابن زنا؛ لأنها لم يكن لها زوج، فكيف حملت؟
    قالوا: من شعاع الشمس؟
    والشمس لا تحبل امرأة!
    إذاً هذه زانية عاهرة حملت به وليس لها زوج فجاءت به، وإلى اليوم يعتقد اليابانيون وبعض الكوريين أن الامبراطور من نسل الشمس، والإله عندهم الشمس، والامبراطور من ذريتها، فلهذا يعتقدون أن في الامبراطور جزءاً من الألوهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    قال: ''وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير بـبغداد علاء الدين الجويني في ترجمته، فذكر فيه سيرته''.
    ثم قال: ''وكان وفاته في سنة (624هـ) فجعلوه في تابوت من حديد، وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك'' قالوا: هذا لا يدفن في الأرض فربطوه وعلقوه، وهذه من خرافاتهم، ففي الهند يحرقونه، وعند اليابانيين والكوريين والتتار يدفنون معه كل أدواته حتى النظارات والكاميرا والقلم، ولما مات هيروهيتو دفنوا معه (250) قطعة كما يقولون، ولكن كانوا يضعونها في تابوتٍ محكم قوي، من أجل أنه إذا قام يمكنه أن يستخدم أدواته التي كان يستخدمها في الدنيا، وهذا جنكيز خان كان شكلاً آخر.
    قال: ''وأما كتابه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً، ثم ينـزل، ثم يصعد، ثم ينـزل مراراً حتى يعيي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذٍ''.
    أي: إن الرجل كان به مس من الجن نسأل الله العافية .
    قال: ''ثم ذكر علاء الدين الجويني نُتفاً من الياسا -من أحكام الكتاب- من ذلك: أنه من زنا قتل، محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل''.
    فكان نظاماً جاهلياً لا شك فيه، ولكن بالنسبة للأنظمة الأمريكية والإنجليزية يعتبر نظاماً راقياً، لأنه يعتبر الزنا واللواطة جريمة عقوبتها القتل، ولا فرق بين المحصن وغير المحصن، فقد كانوا يعتبرون الزنا واللواطة جريمةً، بخلاف الأنظمة الأمريكية، ففي أمريكا تقدم عشرين مليوناً إلى الرئيس ريجن يطلبون إباحة اللواط علانية، وأن يصبح لهم تمثيل خاص بهم في الكونجرس، فقاموا بمظاهرات كبيرة في نيورليانز وفي لوس أنجلوس وغيرها، وحطموا المباني، وقالوا: أين الحرية والديمقراطية التي يدعيها ريجن وتدعيها أمريكا، وهي تهدر حقوق عشرين مليوناً من شعبها، نسأل من الله العفو والعافية؟
    فـجنكيز خان أرقى من الأمريكان في هذا الشأن.
    ثم يقول: '' ومن تعمد الكذب قتل أيضاً ''.
    فهي عقوبة جاهلية وقاسية رادعة، لكنها بالنسبة للقوانين الأوروبية المعاصرة تعتبر راقية، وتجد أن الغرب الآن يسيطرون على قوانين الإعلام كله في العالم، وخاصة الإعلام السياسي؛ لأن إعلام غير الغرب هو صدىً للغرب، وقائم على الكذب والتلفيق والاختلاط.
    فالشاهد أن جنكيز خان يريد أن يضبط هذه القبائل الهمجية، فجعل من تعمد الكذب قتل و: ''من سحر قتل''.
    وهذا موافق للشرع، وهذا -أيضاً- يترقَّى به هذا القانون الجاهلي الوضعي على قوانين الغرب؛ لأن السحر في الغرب لا عقوبة عليه، وكانت الكنيسة أيام سلطتها قبل الثورة الفرنسية في أوروبا يطاردون السحرة، ويحكمون عليهم بالقتل، وكان أكثر من يمتهن السحر هن النساء، فكل من قبض عليها تقتل، وفي القصص لـشكسبير وغيره في الأدب الأوروبي الكثير من الكلام عن الساحرات وكيف يفعلن، لأنه كان جزءاً من حياة الغربيين، فهو جزءاً من حياة أي مجتمع لا يدين بالتوحيد ولابالعقيدة الصحيحة، بعقيدة السلف الصالح فلابد أن تجد فيه السحر، فكلما ضعفت العقيدةكلما اشتد السحر والكهانه والدجل والخرافة والعرافة إلى آخر هذه الأسماء .
    فكانت العقوبة في أوروبا هي الإعدام حتى ظهرت القوانين الحديثة وألغت القوانين الدينية واعتبروا السحر مجرد هواية، ولذلك أكبر مقر للسحرة في العالم الآن رسمياً هو في وسط نيويورك، وفي مبنى ضخم جداً قريب من مبنى الأمم المتحدة، ويوجد فيه مركز كبير جداً للسحرة الذين يجتمعون من جميع أنحاء العالم ومن أمريكا خاصة ويتكهنون بأخبار الغيب والمستقبل ويتنبئون، ولهم كتب ونشرات ومجلدات واشتراكات؛ ثم تأتي لندن وباريس وتنشر هذا في كثير من الجرائد والمجلات، ثم تجد أن أي زعيم من زعماء الغرب الذين يدعون العلمية والموضوعية لا بد أن يتأثر بالساحرات، وكل رئيس لـأمريكا - تقريباً - يوجد عنده كاهنة، وكاهنة ريجن كتبت مذكراتها، وكتبت زوجته مذكراتها، ونشرت في جريدة المدينة عندنا وقرأناها، فكيف ينشر هذا عند المسلمين دون ما إنكار؟!
    فهؤلاء الهمج الجاهليون والوثنيون والمغول كانوا في حكمهم في هذا الجانب أفضل من حكم هذه الشرائع الجاهلية الحديثة، وهو موافق للشرع ومأخوذ من الشرع: ''ومن تجسس قتل''.
    وهذه -أيضاً- فيها عدالة وإنصاف، ولا شك أن التجسس جريمة في أي عرف، أما بالنسبة لتلك القبائل الهمجية فكان عندهم هذا الحكم، وإن كان مخالفاً لشرعنا إلا أن فيه شيء من حفظ الحق على الأقل.
    أما الآن فالإنسان الغربي يعيش تحت سيطرة أجهزة التصنت، فالتجسس الذي يراه هذا الغربي المتحضر حقاً عادياً على الأقل من الناحية العرفية والواقعية، كان الوثنيون الجاهليون يعتبرونه جريمة ويعاقبون عليه بهذه العقوبة القاسية والمخالفة للشرع، ففي الشرع أنه إذا كان مسلماً وأخبر وأطلع الكفار على أحوال المسلمين فإنه يقتل، لكن التجسس بين الناس بعضهم على بعض فليست هذه عقوبته.
    ثم قال: ''ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل ''.
    يقول القانونيون المعاصرون قاتلهم الله: إن قوانين القرون الوسطى كانت ظالمة، ومجحفة وقاسية في حقوق الإنسان، لكن القوانين الحديثة ميزتها أنها تعطي المتهم الراحة والرفاهية.
    فدين الله تعالى هو دين الحق والوسطية، فالجاهلية إما أن تحكم بالقتل حتى على من بال بالماء، وإما أن تجعل من يمشي عارياً كما في أمريكا لا حرج عليه، قال تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] أما حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الحق والعدل والوسط في كل شيء.
    فهذا كان بالنسبة للماء.
    '' ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل''.
    لأنهم أمة حرب كل عملهم حرب فليس إلا العقوبات.
    ''ومن وجد هارباً فلم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحدٍ شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده -وإلا يقتل- ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً، ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً -حتى يطمئن بأنه ليس فيه سُمّ- ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيواناً ذُبح مثله -إذا ذبحه ويقصد الذبح العادي- وقال بل يشق جوفه، ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً يقول جنكيز خان: الذي يذبح الحيوان بطريقة الذبح المعروفة يذبح كما يذبح الحيوان، لأن شريعته تقول: لا بد أن يذبح الجوف ويستخرج القلب، وبعد ذلك يموت الحيوان، فهكذا أملى له هواه وسولت له نفسه الخبيثة''.
  5. حكم القوانين الوضعية والتحاكم إليها

    قال: ''وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام''.
    وقضية التشريع من أصلها هي حق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الأحكام فيها الموافق وفيها المخالف.
    قال ابن كثير: ''فمن ترك الشرع المحكم المنـزل على محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر''.
    مثل شريعة التوراة والإنجيل حتى لو فرضنا أننا وجدنا نسخة من التوراة لم تحرف أو تبدل ولم يغير فيها كلمة، وجاء إنسان وقال: هذا كتاب أنزله الله نتحاكم إليه، ووضعه قانوناً، فعند ذلك نقول: هذا كافر بلا ريب وليس بمؤمن بالقرآن، فيقول: هذا في الشرائع المنسوخة: ''فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟!
    فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين -فالذي يُقدم شرعاً آخر وهو شرع وضعي أكفر من الذي يُقدم شرعاً منسوخاً، فهو كافر بإجماع المسلمين- قال الله تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50]، وقال تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65]''.
    قال: ''ومن آدابهم -هذه ليست في الياسق لكنها آداب كان التتار يتعاملون بها الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن -قاتلهم الله وقبحهم- ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار ولا طبق الطعام، ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء بكل ما ذكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت...''.
    إلى آخر ما ذكر، وذكر بعد ذلك شيئاً من أخباره، وكيف كان يقيم دينه وشريعته الياسق.