المادة    
قال: ''((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ))[المائدة:49]''.
هذا الذي قلنا: إن فيها تأكيد لما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، والنهي عن الحكم بما يخالف شرع الله ودينه: ((وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ))[المائدة:49] أي: احذر هؤلاء اليهود؛ فإنهم كما قال الحافظ رحمه الله تعالى: ''كذبة كفرة خونة'' فهؤلاء اليهود فيهم هذه الثلاث الصفات ''كذبة كفرة خونة''.
بينهم ومع الآخرين في جميع الأزمان وفي كل مكان، هذا هو الحق في وصفهم.
قال: '' (( فَإِنْ تَوَلَّوْا )) أي: عما تحكم به بينهم من الحق.
وخالفوا شرع الله، وهنا -أيضاً- لفتة تربوية عظيمة جداً: ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ))[المائدة:49]''.
أي: فإن تولوا وأعرضوا وتركوا حكم الله وما تدعوهم إليه: ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ))[المائدة:49] فنأخذ من هذه الآية من الفقه التربوي وفقه التزكية، فبعض الناس يقول: أين العقوبة على المعاصي؟
فأمة من الأمم تعصي الله عز وجل فيزداد رزقها أو فرد يعصي الله فيزداد ماله ويفتح الله عليه فيه.
أقول: مع أن هذا داخل تحت الإمهال والاستدراج ومع أنه سيؤخذ يوماً ما أخذ عزيز مقتدر، لكن هناك حكمة أخرى عظيمة، وسر عظيم، يغفل عنه أكثر هؤلاء، وهو: أن الإنسان قد يعاقب على المعصية بمعصية شر منها، وعلى الشرك بشرك مثله أو أكبر منه -والعياذ بالله- ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله، وأن يذعن، وأن ينقاد لأمر الله، قال الله تعالى: ((وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ))[الأنعام:110] فإذا جاءك الحق فأقبل عليه؛ لأنه يخشى على الإنسان إذا أعرض عنه أن يقلب، فمهما أتاه الحق يكون قد غلف فؤاده وطبع عليه -نعوذ بالله من ذلك- فلا ينفعه ولا يدخل إلى فؤاده تذكير ولا موعظة -نسأل الله العفو والعافية- فمن إصابتهم ببعض ذنوبهم أنهم يعاقبون بأن يعرضوا عن الإيمان -نعوذ بالله- فلا يقل أحد: فلان أكل الربا، ولم تنزل عليه صاعقة من السماء، ولا خسف به وبداره الأرض.
إذاً: فالوعيد في القرآن للماضين، وكأن الكلام لا يعنينا والخطاب لا يهمنا، ولا أُنزل إلينا، ولذلك يأكلون الربا، ويقولون: ليس علينا حرج، وينسون أن آكل الربا قد يعاقب بأن يستحل الربا؛ فإذا استحله كفر على جميع المذاهب، إذ لا خلاف أن من استحل الربا كفر، حتى وإن جاء من يفتي من القائلين على الله بغير علم، ويقول: الفوائد فيها وفيها، فوالله إنهم ليعلمون أن الربا حرام، ولو جاءتهم ألف فتوى، وكتب الفقه كلها مجمعة على أن من استحل محرماً كالربا أو الزنا أو شرب الخمر فقد كفر، وفي أي كتاب من كتب الفقه الإسلامية -في باب المرتد- تجد فيه أنهم يقولون: من استحل شيئاً مما حرم الله معلوم من الدين بالضرورة مثل كذا وكذا فقد كفر.
إذاً: عقوبتك للربا صارت استحلالاً نعوذ بالله .
وقد يكون زانياً يذكر بالله، لكنه يستمر في الزنا -نعوذ بالله- عند ذلك يستمرئ هذه المعصية، فيعاقب بمثل ذلك، إما بأن يستحل الزنا، وإما بأن يكفر بالدين كله، ثم يقول: القضية قضية حرية، وحب وعلاقات عاطفية، ويحتج بالغرب، فكان أول الأمر يأتي الفاحشة ولو ذكرته بالله يخشى، ولا يصرح بها، وفي النهاية يكتب في الجريدة عنها، ويتبجح بها نعوذ بالله من ذلك.
وهذا مما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يأتي أحدهم الفاحشة أو يأتي الذنب فيستره الله عليه، فيقوم وينشرها على الملأ، فيكتب عن الحب، والعلاقات الغرامية، والصداقة ويذكر لك قصته، كيف قابل امرأة وصار صديقها -نعوذ بالله- لأن القلوب قد غلفت وطمست فعوقبوا، وهكذا في كل ذنب من الذنوب لا يأمن الإنسان أن يعاقب بأشد منه.
وبعض الناس -نعوذ بالله- ذنبه الغيبة والنميمة فهو بدأ يغتاب رجلاً ثم الثاني، ويقال له: اتق الله ولاتغتاب، اتق الله في أعراض المسلمين، ولكنه لا يبالي، فهو في أول أمره كان يغتاب الفساق، أو يذكر بعض الناس الذين فيهم أخطاء فيعاقب بعد ذلك بأن يغتاب الأبرياء والأولياء وهو لايدري، لأنه توغل في الغيبة، ولم يدر إلى أي حال قد وصل إليه! وإذا به يصل إلى أن يغتاب أولياء الله الصالحين، فتكون النتيجة كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فيصبح يحارب الله وهو يظنه مجرد كلام وحديث عابر، فليحذر كل عاقل من هذه الذنوب والمعاصي ومن أضرارها وآثارها نسأل الله العفو والعافية.
  1. النهي عن اتباع الأهواء

    ثم قال: ((وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ))[المائدة:49] فاختتم الآية بهذا .
    يقول ابن كثير رحمه الله: ''أي: أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى: ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ))[يوسف:103] وقال تعالى: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [الأنعام:116]'' الآية.
    فليست العبرة بالأكثرية، وهنا حكمة عظيمة لا سيما في زمننا هذا فأكثر الناس فاسقون، وأكثر الناس يريدون حكم الجاهلية، ولذلك هل نعرض دين الله وشريعة الله للتصويت، ونأخذ رأي الشعب؟ وهل نحكمهم بالقرآن أم بالقانون الفرنسي؟! ولذلك يقول الله تعالى: (( إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ))[المائدة:49] أي: أن أكثرهم يريدون الشهوات، ويريدون انتهاك الحرمات، كمثل الذين وصفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفينة، لا يريدون أن يصعد أحدهم إلى من فوقهم ويستقي الماء، بل يريدون أن يخرقوا ويشربوا مما يليهم، وهذا حال الكثير من الناس.
    فليست القضية قضية ديمقراطية، إنما هي قضية اتباع ما أمر الله به مهما قل العدد، ويجب أن ندعو الناس إلى ما أنزل الله وألاَّ نتبع أهواءهم وألاَّ نرد الأمر إلى آرائهم؛ لأن آراء الناس عجيبة جداً، فترى الناس سواسيه في الطريق وفي العمل وفي الشارع، وتقول: الحمد لله لأن الناس متفقون، لكنك لو قمت باختبارهم لرأيت العجب العجاب، فرجل له رأي في الربا، وآخر له رأي في تعدد الزوجات، وآخر له رأي في نظام معين، ولا يوجد أحد منهم يحتقر رأيه، بل كل إنسان منهم مستعد أن يقول: هؤلاء العلماء الكبار ليس عندهم علم، ثم يبرر موقفه، ويقول: انظر كيف أفتوا في هذه، وكذلك أجهل الناس في السياسة والاقتصاد.
    وهذه مشكلة أصحاب الهوى، فإذا وكلنا دين الله إلى هذه الأهواء ماذا نلقى؟
    فرجل لم يعجبه الدين كله، وآخر يقول: الدين حسن لكن عندي عشر مسائل أو خمس لم تعجبني، وهكذا يريدون أن يكون الدين على شهواتهم، ثم المسألة المتفق عليها بعضهم عنده فيها نظر، فيقول: الخمر لا بأس أن تقول إنه حرام، لكن نبيحه في الفنادق والقنصليات والسفارات، ويقول: أنا أعلم أنه حرام، ولكن نحن في القرن العشرين فلا بد أن نعطي هؤلاء الناس مزية، وهكذا الزنا فهو يقول: الزنا حرام، ولكن هؤلاء لو أتو بمصائبهم معهم نتركهم، وهكذا.
    فالذي يتفق معك في المبدأ يختلف معك في التفاصيل، فكيف بالذي لا يوافقك حتى في أصل المبدأ، ماذا تكون النتيجة؟
    إنها أهواء كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن يجتمع الناس على رأي، وإنما الذي يجب أن يخضع له كل الناس هو ما أنزله الله وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ))[المائدة:48] فمهما كانت هذه الأهواء فلا نتبعها وإن كثرت؛ لأنك إذا سلمت بالمبدأ وهو أن أهواء الناس ورغباتهم هي المعيار لن يبقى لك من الدين شيء، بل أنت يامن تريد أن تمالئ الناس ستأتي فترة من الزمن يقولون فيك: إنك لا تصلح، وكنت تظن أنهم يحبونك.
    فيجب أن يُعلم أن القضية ليست قضية أهواء، إنما هي قضية اتباع ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لو رُد الأمر إلى أهواء الناس لما صلحوا ولما اتفقوا، فهم يريدون أن يجعلوا العالم متوافقاً مع رغباتهم، والرغبات تختلف، وبهذا لن يكون عندنا عالم، وهكذا الحاكم والمدرس وأشكال الأسواق... إلخ.
  2. الفرق بين الشورى والديمقراطية

    فلا يمكن أن تستقيم الأمور على أهواء الناس أبداً، ولذلك لو نظرت إلى حقيقة ما يسمى بـالديمقراطية، هل هي فعلاً حكم الشعب للشعب؟!
    أي: أن الشعب يحكم نفسه فعلاً، وهل حكم الشعب نفسه بنفسه في التاريخ كله؟!
    ولذلك تجد أن أهل القرى في المجتمعات اليونانية الصغيرة، وفي حكومات الكوميوند، أو جزء من ذلك في إيطاليا كانوا يجتمعون ثلاثين أو أربعين يتشاورون ويحكمون أنفسهم، هذا في كتب علم السياسة، وما يسمونه بالفقه السياسي... إلخ يقولون فيها: لم يوجد حكم ديمقراطي حقيقي مباشر إلا في القرى الإغريقية القديمة، أما ماعدا ذلك فلا.
    قلت: فالفردية التي عدد أفرادها ثلاثين شخصاً، أي: الكبار منهم من يحق له الانتخاب، هل فعلاً حكموا أنفسهم بأنفسهم، أم أنه لابد من شيخ في القرية، إذا تحرك التف حوله عشرون نفراً، وخفضوا رءوسهم وسكتوا.
    حتى القرية الصغيرة الحاكم فيها ثلاثة أو أربعة وجهاء من الناس، ولا يستطيع أحد من الناس أن يرفض، وذلك لأنهم يخافون من البطش، إذاً فهي إما قوة جسدية أو قوة مالية أو قوة منصب، حتى الحكم المباشر الذي يضربون له مثال بالثلاثين والخمسين لا يوجد أبداً، ففي النهاية الذي يحكم هو صاحب الهوى، حيث يشغل قوته في هواه كما يشاء، فكيف إذا ما صارت الأمة بالملايين، وقالوا: لابد من ممثلين ينتخبهم الشعب، ويرضاهم ودخلت المتاهات.
    كما ترون في أمريكا أن الناس حزبين فقط: ديمقراطي وجمهوري، لاخيار غيرهما، حتى وصل بهم الأمر في بعض الولايات إلى أنه لابد أن تتوارث الحزبية، أي: أن الأب ديمقراطي والابن ديمقراطي والحفيد ديمقراطي إلى يوم القيامة، ولهذا تجدون أناساً كثيرون لايصوتون ثم يذهبون إلى دول أخرى، ويقولون: إن القضية ليست قضية حزبين وهكذا الضلال.
    ففي إيطاليا قبل فترة من الزمن لما تغيرت الحكومة الأخيرة، ذكروا أنه ما يقارب من خمسين حكومة تشكلت منذ الحرب العالمية الثانية -أي: تقريباً خمسين سنة- فأحياناً كل ستة أشهر في إيطاليا وفي غيرها تتشكل حكومة جديدة ووزراء جدد، فالوزير الذي يعلم أنه لن يحكم إلا ستة أشهر، ماذا تريد أن يعمل بالأموال؟
    لكن لو كان أمامه عشرون سنة فسيجمع قليلاً قليلاً، فالناس هناك في لعب وضلال وتخبط، أهذه هي القدوة التي يريدون أن نترك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجلها؟!
    والشورى التي أنزلها الله وأمر بها، وعمل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: ''لا أعرف أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ''.
    وقد وردت في حديث لكن في سنده انقطاع؛ لكنه من حيث الحقيقة فهذا ثابت كما قرره شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، فلم يكن أحد من الولاة أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الخلفاء الراشدين من بعده: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ))[الشورى:38]، فهم يتشاورون في الأمر العظيم، فإذا جاءهم عن الله أو عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، قالوا: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا))[البقرة:285].
    ومن القصص العجيبة في هذا: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما ذهب إلى بلاد الشام فجاءه الأجناد والأمراء، والحديث في صحيح مسلم مفصلاً، وله أصل في البخاري وغيره، وفيها أنه جلس فقال له الأمراء: إن الوباء -وهو الطاعون- قد نزل في بلاد الشام فما الرأي؟
    وعمر رضي الله عنه ليس كأي أحد، إنما هو محدث ملهم ألقى الله الحق على قلبه ولسانه، ومع ذلك لم يستبد برأيه، بل قال: عليّ بالمهاجرين، فاجتمعوا واختلفوا، فقال: عليّ بمشيخة الأنصار، فاختلفوا كلٌّ له رأي، من يقول: نقدم، ومن يقول: نرحل، فتردد في الأمر، وفي الأخير عزم على أن يرحل، وقال: الغداة الرحيل، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً لبعض أموره، ولم يكن حاضراً للشورى، فقال: عندي في هذا علم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا نزل الوباء وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها -أو فلا تقدموا إليها} فقال عمر: الحمد لله، ولو كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موجوداً فأخبر بهذا الحديث أول ماجاءه الخبر، لما احتاج أن يشاور أحداً أبداً.
    وفي هذا الحديث فائدتان عظيمتان:
    الأولى: أهمية الشورى، وألاَّ يستبد الحاكم برأيه.
    والأخرى: أنه إذا جاء نص صريح فلا تشاور، أما مسائل الاجتهاد وموارد الاختلاف فالأمر فيها آخر، فالقضية ليست قضية ديمقراطية: ((وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ))[المائدة:49].
  3. تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)

    وقوله: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] فأكثر الناس هذا حالهم.
    يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ''قوله تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50]ينكر تعالى على من خرج -أي: الاستفهام هنا للإنكار- عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله''.
    وهذا كلام نفيس يكتب بماء الذهب، فلا يعدل الإنسان أو يخرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، في كل زمان وعصر، ولا يعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، أي: سواء كانت فلسفات أو قوانين أو أعرافاً أياً كانت '' التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ''.
    أي: إن القضية ليست قضية اجتهاد من العلماء في النصوص.
    قال: ''كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات '' .
    فـابن كثير رحمه الله تعالى حكيم في كلامه، حيث قدم بمثال متفق عليه، ثم انتقل إلى المثال الواقع في عصره، فأول ما مثّل قال: ''كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم''.
    فالعرب في الجاهلية في عكاظ -السوق الجاهلي القديم- ومجنة وذي المجاز عندهم حكماء غالباً إما كهان وبعضهم قد يكون مما آتاه الله بلاغة وبياناً ويسمونه: الحاكم، يأتي الناس ويتحاكمون إليه، ويحكم كما يشاء فيما يشاء بلا دليل ولابرهان من الله ولا أحد من رسله، فيفرق بين المتماثلين ويماثل بين المتفرقين، والكاهن يدَّعي أن العلم جاءه من رائيه، فينطق ويقول: أخبرني هذا، أي: شيطانه، والشيطانين يوحون إلى أوليائهم، فيحكم بينهم، وكانوا يتحاكمون إلى الأزلام، ويستقسمون بها، ويقولون: اضرب القدح، فإذا كان كذا عليك كذا، وإذا انقلب كذا عليك كذا، بلا بينة ولاسماع.
    وهذا مثال آخر: امرؤ القيس لما قتل أبوه كان عربيداً سكيراً، أي: متحرراً متطوراً، وكان يظن أنه يعيش حياة عصرية -كما يقولون- فلما قتل أبوه رجع، وقال: اليوم خمر وغداً أمر، ماذا أفعل بقتلة أبي؟
    فقالوا: تذهب إلى ذي الخلصة الذي في بلاد دوس تستشيره في أن تقتل قتلة أبيك أم لا؟
    وذهب امرؤ القيس إلى ذي الخلصة..كما ذكر الكلبي في كتابه الأصنام -وذكره غيره- واستقسم بالأزلام عند ذي الخلصة وفي كل مرة يكون نصيبه لا تفعل، والعرب دائماً عندهم الثأر، فقال:
    لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا
    يوماً وكان شيخك المقبورا
    لم تنه عن قتل العداة زورا

    ورمى الأزلام، ورحل إلى قيصر يستنجد به، يريد أن يستعين به على كندة.
    فالشاهد قوله:
    لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا!!
    أي: الذي قُتل أبوه.
    يوماً وكان شيخك المقبورا!!
    أي: كان أبوك الذي مات.
    لم تنه عن قتل العداة زورا.
    فهو يقول: تنهاني عن قتلهم؛ لأنه ليس أبوك هو المقتول، وذي الخلصة صخرة، لا درت ولا أفتت ولا أحلت ولا حرمت، ولكنها الضلالات والجهالات، كما قال سبحانه: (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون ))[المائدة:50] فالناس هم من يبغون، وهذا المثال الواضح لا يخالف فيه أحد.
  4. التتار يحكمون بغير ما أنزل الله

    وابن كثير رحمه الله تعالى ذكر شيئاً آخر، فقال: ''وكما يحكم به التتار -ولم تكن جاءتهم المصائب التي جاءتنا ولم يأتِ نابليون ولا القوانين الوضعية- من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها''.
    وفيه جزء من الشريعة الإسلامية فهي تعتبر مصدراً رئيسياً، ونستطيع أن نقول: لأنه من اليهودية والنصرانية، والنصرانية أحكامها قليلة أصلاً.
    ومن أمثلة هذا المادة الأولى من القانون المدني المصري، الفقرة الثانية، تقول في معنى الكلام: يكون الحكم بما ورد في هذا القانون، فإن لم يوجد أي نص من القانون المدني على الحكم فيعمل بمقتضى العرف، فإن لم يوجد فيعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية فإن لم يوجد فبأحكام القانون الطبيعي ومبادئ العدالة.
    وجاء الشارح -أيضاً- فزاد الطين بلة، فقال: إن قانوننا المدني أعطى الشريعة منـزلة سامية عظيمة؛ لأنه جعلها في المرتبة الثالثة.
    ويقولون: هذه فيها محاباة لأنه قدمها على مبادئ العدالة -نعوذ بالله- أما الياسق فهو مأخوذ من الإسلام واليهودية والنصرانية مباشرة، وسأذكر بعض الأحكام من الياسق، وهي مأخوذة فعلاً من الإسلام مباشرة، فالشريعة الإسلامية مصدر رئيسي في الياسق.
    قال: ''وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ''.
    فقدموا الياسق على الكتاب والسنة مع أن الشريعة هي مصدر من المصادر .
    قال: ''من فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -أي: هذا حكم الله فيه- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)) [المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: ((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50]''.
    وابن كثير رحمه الله تعالى يتكلم عن واقع الأمة كما ذكر هو في تاريخه رحمه الله.
    فاضطربت الأمة في شأن التتار، واختلف العلماء هل نقاتل أم لا؟
    ثم قالوا: إن قاتلناهم نقاتلهم على أنهم بغاة أم على أنهم خوارج، وكيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وفيهم من يصلي، وفي جيوشهم جموع من الناس تصلي، ويقولون: نحن مسلمون؟
    فقالوا: كيف نقاتلهم؟
    كما التبس الأمر -تقريباً- على الصحابة رضي الله عنهم سوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قالوا: كيف نقاتلهم وهو يشهدون أن لا إله إلا الله؟
    وقال بعضهم: أنؤجلهم سنةً -نعفو عنهم هذا العام من الزكاة- حتى نتألف قلوبهم؟
    فاشتبه الأمر عليهم ثم أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن هؤلاء خارجون عن الشريعة، ويجب قتالهم، وليس قتالهم من جنس قتال الخوارج ولا البغاة، وإنما من جنس الخارجين عن الشريعة والمرتدين، كـمسيلمة وأمثاله، كمن جحد الزكاة، فهؤلاء جحدوا حكم الله، فهم كمن جحد الزكاة، فحالهم كحال المرتدين، ثم اجتمعت الأمة على هذه الفتوى وجاهدوا، وكان من يقودهم في المقدمة هو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله.
    فهذا الحافظ ابن كثير وهو من خيرة وصفوة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين أخرجتهم تلك المدرسة السلفية العظيمة لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، حيث كانوا كلهم هو وابن القيم والحافظ المزي رحمه الله والذهبي وغيرهم من خير رجال الأمة الذين كانوا في ذلك العصر، فجددوا الدين، وكان لهم هذا الموقف الموحد من التتار، ومن الرافضة ومن الباطنية ومن كل أعداء الدين، وأعداء العقيدة، وإن تمسحوا بها وادعوها.
    فهذا الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا يؤكد على فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشأن التتار، وأنهم كفار، وأنه يجب قتالهم حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله: ''من فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير''.
    فلا يقول: أنا عندي القانون الجزائي في العقوبات، والعقوبات كلها من الشريعة الإسلامية، ولكن القانون المدني من القانون الوضعي، ولا يجوز الحكم به لا في قليل ولا كثير، ويكون الدين كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال سبحانه: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض))[البقرة:85].
    قال: ''((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ))[المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها''.
    فيقصد ابن كثير رحمه الله هنا ذكر بعض الميزات التي أوجبت علينا أن نتحاكم إلى شرع الله وهي:
    أولاً: العدل.
    ثانياً: الحكمة، قال: ''وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ''.
    لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حين شرع لنا هذا الدين وأحل ما أحل وحرم ماحرم، أرحم وأرأف بنا من الوالدة بولدها، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المعروف: {لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مائة رحمة أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فيها يتراحم الناس وادخر تسعاً وتسعين رحمة عنده} فالذي يشرع وهو بهذه الرحمة لن يشّرع لهم إلا ما فيه خيرهم ومصلحتهم.
    قال: ''فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء''.
    أي: أن من كانت فيه هذه الصفات فهو الذي يشرع، وهذا يذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، ورسالة لطيفة صغيرة ولكنها قيمة، كتبها الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل، وهو من الدعاة الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وفي جهدهم في الرياض، عنوانها: إن ربك حكيم عليم، وله غيرها، مثل: قل إنما أعظكم بواحدة، وذكر كيف أن مقتضى أسماء الله وصفاته تحتم انفراد الله بالحاكمية، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، والعادل في كل شيء، ولا يوجد أحد يتصف بهذه الثلاث الصفات غير الله عز وجل حتى يجوز له أن يشرع.
    وعلّق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على كلمة الياسق، فقال: '' الياسق، هكذا رسمت هذه الكلمة في المخطوطتين -اللتين أطلع عليهما رحمه الله- والمطبوعة، وهي كلمة أعجمية، ولذلك اختلفت المراجع في رسمها وأصلها ''.
    وأنبه على أن الموجود في مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن المعلق قال: كلمة لم أتبين لفظها، أي: لم يعرفها، والكلمة هذه تكتب أحياناً الياسق، وتكتب أحياناً السياسة، وأحياناً: الياسة، وأحيانا: السياسا، وأحياناً: اليسغ. أي: أن الكلمة الأعجمية يتصرف فيها العرب، فحيث ما وجدت هذه الألفاظ فالمقصود واحد، وهو كتاب جنكيز خان.
    ويقول الشيخ أحمد شاكر نقلاً عن الحافظ ابن كثير في التاريخ (13/117): ''وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف لشرائع الله وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، واتبعوه في ذلك، ثم سماها بعد ذلك الياسا''.
    والحافظ ابن كثير فيما نقله عن الوزير علاء الدين الجويني، سماها الياسا، قال: ''وأما كتابه الياسا، فإنه يكتب في مجلدين بخطٍ غليظ، ويحمل على بعير عندهم''.
    أي: هذا دستور يعظمونه .
    وقال الزبيدي في شرح القاموس "7/98": ''يساق -هذه كتابة أخرى على وزن كلمة- كسحاب، وربما قيل: يسق بحذف الألف، والأصل فيه: يساغ بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف -قد تكون يسا- وربما قلب قافاً''.
    ويقصد بذلك إما أن يُقال: يساغ أو يحذف الغين ويقول ياس أو يسه: ''وهي كلمة تركية ''.
    ويقول بعضهم: إنها مغولية، وبعضهم يقول: إنها تتارية، وبعضهم يقول: أنها تركية والكلام واحد، لأنهم يقال لهم جميعاً تركاً أو أتراكاً: ''يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكرها غير واحد، وقد حررها المقريزي في الخطط "3/357-358" قال تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة''.
    وهو قانون المعاملة أو الدستور أو القانون أو الشريعة التي وضعها جنكيز خان وأخذها من اليهودية والنصرانية والشريعة الإسلامية، وركبها وجعلها شرعاً متبعاً يتحاكم إليه قومه، وقد سبق الكلام عن تاريخ وضع القوانين، وذكرنا أن هذا يعد من أقدم القوانين بالنسبة لكونه قانوناً مكتوباً، أما القوانين العرفية غير المكتوبة فهي قديمة؛ لكن هذا من أشهر ما يسمى بقوانين القرون الوسطى.