المادة    
ثم قال تعالى: ((وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[المائدة:46-47].
فيقول الشيخ: ''فقوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا) أي: أتبعنا، (عَلَى آثَارِهِمْ) أي: أنبياء بني إسرائيل: (( بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ )) أي: مؤمناً بها حاكماً بما فيها''.
لأن عيسى عليه السلام هو كما قال عنه تبارك وتعالى: ((وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ))[آل عمران:49] .
وبنو إسرائيل كتابهم وشريعتهم هي التوراة، وما يزالون إلى اليوم، ولذلك التحريف الكبير الذي أحدثه بولس في دين النصارى هو أنه نقلها من دعوة محلية إلى دين عالمي، وهذا أحد أنواع التحريف، فبقي الشرع عند النصارى إلى اليوم في جميع أنحاء العالم على كثرتهم هو الكتاب المقدس -كما يسمونه- ويشتمل على أسفار التوراة ثم الأناجيل والرسائل، وهم يختصرونها في اسمين: العهد القديم والعهد الجديد، والعهد القديم يعنون به التوراة وما يتبعها من رسائل وأسفار وبينهم خلاف بحسب الطوائف في عددها، ثم الأناجيل الأربعة وما تبعها يسمونها العهد الجديد، ومن العهدين -القديم والجديد- يتكون الكتاب الذي يسمونه: الكتاب المقدس.
فالمفروض أن تكون التوراة كما أنزلها الله تعالى لليهود، فاليهود الآن يؤمنون بالتوراة فقط، ولا يلتفتون إلى العهد الجديد، والمفروض -أيضاً- أن تكون الأناجيل خاصةً ببني إسرائيل حتى ولو حرفت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سابق علمه أنه سينزل الكتاب المهيمن، ويبعث الرسول العام للناس كافة صلوات الله وسلامه عليه، لكن المقصود حتى مع التحريف فكان المفروض أن يكون المؤمنون الآن بالأناجيل الأربعة هم النصارى فقط، ويكون اليهود مؤمنين بالتوراة ؛ لأنها كتابهم ولا ينازعون في ذلك، ويؤمنون بالأناجيل؛ لأنها أنزلت على رسول بعثه الله إليهم: ((وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ))[آل عمران:49] وهو عيسى عليه السلام، فهو منهم، وبعث إليهم, فالخلل والتحريف الذي حدث هو أن بولس كان داعية من قبل أن يعتنق النصرانية كما ذكروا في تاريخه، فأصبحت التوراة شريعة عامة، لأن النصارى إلى الآن يجعلونها شريعة عامة للناس، فالنصارى من أي بلد كانوا يتحاكمون كلهم إلى التوراة التي هي في الأصل لبني إسرائيل فقط، مع أن الأناجيل -أيضاً-لم تكن إلا لهم، وفي نفس الأناجيل التصريح بأن عيسى عليه السلام إنما بُعث إلى بني إسرائيل وحدهم.
وهذا واضح في قصة المرأة الفينيقية أو السورية، وهي امرأة جاءت إلى عيسى عليه السلام كما في أناجيلهم، وتقول: إن بها روح شريرة، يا روح الله! يا نبي الله! عالجني واهدني معك، فقال: من أين أنت؟
قالت: أنا فينيقية أو قالت: أنا سورية! وهذا من الخلاف الموجود بين الأناجيل.
فقال: '' إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فبكت وحزنت وتألمت، وقالت:إذا كنت للأصحاء فمن للخطاة؟
فقال: يا امرأة! أرى أنك مملوءة إيماناً، فأدخلها واختصها بذلك''.
وفي الأناجيل الموجودة الآن أنه بعث للبشر جميعاً.
وقد استنبط شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله استنباطات عظيمة في كتابه الجواب الصحيح على أنه بشر، قال: '' لست أنا الموعود الذي بشرت به الأنبياء من قبل لكنه سيأتي من بعدي''.
وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما بيّن الله تبارك وتعالى: ((وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد))[الصف:6] فالشريعة عندهم هي شريعة التوراة، فكان عيسىعليه السلام يحكم بها.
قال: (( وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ))[المائدة:46] أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات: ((وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ))[المائدة:46] أي: متبعاً لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ))[الزخرف:63]- كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: ((وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))[آل عمران:50] ولهذا كان المشهور من قول العلماء: أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة، وهذا هو القول الصحيح، فقد نسخ بعض أحكام التوراة مما كان عقوبة على بني إسرائيل في الذبائح والطهارة وفي الأحكام الأخرى، وليس هذا مقام التفصيل فيها.
لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله كعادة العلماء لا يفوتهم أن ينبهوا إلى أمر مهم، ففي قوله تعالى: ((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ))[المائدة:47] يقول: ''أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر باتباعه، وتصديقه إذا وجد -فهذا مما فيه ومما يجب عليهم أن يقيموه- كما قال الله تعالى: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ))[المائدة:68]، وقال تعالى:((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.... الْمُفْلِحُونَ))[الأعراف:157]''.
فهذا رد على ما سنذكر -إن شاء الله- مما يفتريه المنصرون المجرمون الآن، ويقولون: إن مثل هذه الآية: (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ))[المائدة:68] تعني: أن محمداً -لا يقولون الله، لأنهم لا يعترفون بأن القرآن منزل من عند الله- يأمر أتباعه ويذكر لهم أن اليهود والنصارى على حق، وأنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل فهم على شيء.
وقد تنبه العلماء إلى هذا، وهو واضح كالشمس بأنه يجب عليهم أن يؤمنوا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو العهد الذي أخذه الله على جميع الرسل: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ)) [آل عمران:81] -كل النبيين- ((لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ..... وَلَتَنْصُرُنَّه)) [آل عمران:81] وأخذ الإقرار على ذلك: ((قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ))[آل عمران:81].
فهذا عهد أخذه الله سبحانه على كل الرسل، فقد أخذ الله ميثاق النبيين أنه إذا جاء وبعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمنوا به، مع أنه في علم الله أنه لا يبعث في زمن نبي من الأنبياء لكن هذا العهد فيه تكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان لفضله وفضل دينه، وفضل أمته وفضل القرآن على سائر الكتب أو الشرائع، وأن هذا الدين سيورثه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأرض وسوف يظهره على الدين كله.
ثم قال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا))[المائدة:48].
يقول ابن كثير رحمه الله: ''لما ذكر الله تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع -هذا القيد يعني في وقتها- وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته، واتباع ما فيه''.
فإذا كان ما سبق هو كما تقرر والتوراة أنزلت ليحكم أهلها بها، والإنجيل أُنزل ليحكم أهله به، والذي لا يحكم بما أنزل الله أياً كان كتابه فهو كافر ظالم فاسق، وبعد هذه الأوصاف أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على التوراة وأوجب العمل بها، وعلى الإنجيل وأوجب العمل به وهذا إلى أن ينسخ.
ثم قال: ''فقال: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ )) [المائدة:48] أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: (( مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب)) [المائدة:48] أي: الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينـزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله''.
وقد وصفهم الله تعالى: ((أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا))[القصص:54] وجاء ذلك أيضاً في الحديث الصحيح: {رجل آمن بنبيه ثم آمن بي} فهذا يؤتى أجره مرتين؛ لأنه آمن بالرسول الأول، فلما بلغ أو أدرك زمن الرسول الخاتم والكتاب المهيمن آمن به أيضاً، فأخذ أجر الإيمان الأول وأخذ أجر الإيمان الآخر.
وهكذا حال المؤمنين الذين آمنوا حقاً بالتوراة الحق من غير تحريف ولا تبديل، وآمنوا بالإنجيل الحق -هذا شأنهم وهذه صفتهم- أنهم آمنوا فعلاً بالقرآن، كما قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً))[الإسراء: 107-108].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ''أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمفعولاً، أي: لكائناً لا محالة ولا بد''.
وعدنا ربنا أن يبعث فينا نبياً أمياً وأوجب علينا اتباعه، وهو مكتوب عندنا في التوراة والإنجيل، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: سبحان الله! هذا ما وعدنا الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ))[آل عمران:9] فصدقوا وآمنوا واتبعوا، وكلمة: مهيمناً، هنا مهمة جداً، في قوله: (( وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ))[المائدة:48] قال: '' قال ابن عباس: [[ أي: مؤتمناً عليه ]]، وقال: [[ القرآن أمين على كل كتاب قبله ]]، وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد نحو ذلك -وهذه كلها مدرسة ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وقال ابن جريج: [[القرآن أمين على الكتب المتقدمة فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل]] وعن ابن عباس رضي الله عنه: [[ أي: حاكماً على ما قبله من الكتب ]] وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله, وقد تكفل الله تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[الحجر:9]. ''
قال: ''وقوله: (( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ))[المائدة:48] أي: فاحكم يا محمد بين الناس، عربهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك من هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك -يريد أن يردنا إلى مسألة شرع من قبلنا- من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه''.
  1. هل التخيير في الحكم بين الكفار منسوخ

    وهنا مسألة وهي: هل في الآيات نسخ أو فيها تخيير؟
    ومتى يجب أن نحكم بين غير المسلمين، ومتى نكون مخيرين؟
    قال: ''فروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس قال: [[ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخيراً، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم ]] ''.
    وآية التخيير هي قوله تعالى: (( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ))[المائدة:42] لكن نجده يقول في آية أخرى: (( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ))[المائدة:48] فهل آية الأمر بأن نحكم بينهم ناسخة والتخيير منسوخ؟
    نقول: لا، لا بد أن نحكم بينهم -العرب والعجم والذميين والحربيين والمستأمنين كلهم نحكم بينهم- بما أنزل الله، ولا تخيير لنا بأن نحكم أو نعرض، فهذا قول.
    وبعض العلماء قال: لا يوجد نسخ، وقد ذكر الشيخ هنا بعض التفاصيل، ولكن يهمنا هنا كلام الأئمة.
    فمثلاً كلام الشافعي رحمه الله في الجزية من كتاب الأم: ''ولا خيار له إذا تحاكموا إليه -أي: لا خيار للإمام المسلم- لقوله تعالى: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))[التوبة:29]''.
    فـالشافعي يرد قول من قال: أن التخيير منسوخ.
    وقال: ''وهذا من أصلح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى: ((وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة:29] أي: تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة''.
    ومعنى هذا القول: أن أهل الذمة لا نردهم إلى أحكامهم؛ لأن آية التوبة: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِر))[التوبة:29] إلى قوله: (( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون)) [التوبة:29] متأخرة، وآية المائدة في التخيير كانت قبل ذلك، وعندما نفرض عليهم الجزية؛ فإننا نأخذها عن يدٍ وهم صاغرون، فإذا كان من يعطي الجزية بطواعية ورضا يأتي إلينا يدفعها وهو صاغر.
    واختلف في معنى صاغر: هل يلبس الذمي ثوباً معيناً ويقف في ذل وتكون يده هي السفلى ويد الآخذ هي العليا أو أن المقصود أن يضرب عليهم الصغار؟
    ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة بعض من خالف في هل ضرب الجزية من باب العوض والأجرة لسكنى دار الإسلام أو هو من باب الذل والصغار؟
    والصحيح أنه من باب الذل والصغار، وكذلك ضرب الأحكام عليهم.
    وفي العصر الحديث أتوا بدعوة جديدة، قالوا: هذا مقابل -كما يسمونه في القوانين الوضعية- بدل عسكري، فقالوا: المسلمون يدفعون الزكاة ويجاهدون، والنصارى واليهود لا يدفعون الزكاة ولا يجاهدون مع المسلمين فيدفع الذمي الجزية بدلاً، وإن كان بعض الكلام له نوع من التوجيه لكن في الحقيقة هي من باب الإذلال والصغار.
    إذاً: لسنا مخيرين، فيجب علينا أن نذلهم، وأن نرغمهم على أن يدفعوا الجزية، وأن نجري عليهم أحكام الإسلام إذلالاً وإصغاراً لهم، وإلا كيف إذا زنا المسلم أقمنا عليه الحد، وإذا زنا الكتابي فنحن مخيرون؟!
    هذا لا يمكن، ونقل البيهقي عن الشافعي رحمه الله قوله: ''ليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم الحكم إذا جاءه في حد الله، وعليه أن يقيمه، واحتج بقول الله عز وجل: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))[التوبة:29] قال: فكان الصغار -والله أعلم- أن يجري عليهم حكم الإسلام ''
    قال الشيخ: ''وقد رد أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن قول من ذهب إلى النسخ، فقال: وهذه دعوى عريضة، فإن شروط النسخ أربعة، منها: معرفة التأريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين، فامتنع أن يُدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله''.
    ولهذا قال الشيخ: ''وهذا كلام ملقىً على عواهنه غير محرر'' والإشكال هو أننا قررنا أن سورة المائدة نزلت كاملة محكمة، فإن كانت نزلت دفعة واحدة، فكيف نقول: هذه الآية متأخرة وهذه الآية متقدمة، وإن كانت موجودة في الترتيب في المصحف؛ لأن عندنا بعض الأحكام تكون الآية المتقدمة فيها هي الآية الناسخة، وتكون الآية المتأخرة هي المنسوخة على الأقل على قول، وهنا في سورة المائدة: (( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ )) [المائدة:49] لكن قوله تبارك وتعالى: (( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ))[المائدة:42].
    إذاً: المتوقع أنا نقول: إن الناسخ هي الآية (49) وقد نسخت الآية (42) لكن القضية إذا قلنا: إن السورة نزلت دفعة واحدة فليس فيها نسخ، وهذا أحد الأوجه التي ترجح أنه لا نسخ.
    وقال الشيخ أحمد شاكر: ''وأما الطبري فإنه أبى القول بالنسخ -قال: لا نسخ بين الآيتين- مستنداً إلى القاعدة الأصولية الصحيحة، وهي: أنه لا يصار إلى القول بالنسخ إلا إذا تعارضت الآيتان تعارضاً تاماً بحيث لا يمكن الجمع بينهما''.
    هذا هو الصحيح، وإذا لم يمكن الجمع فنحمل كل آية على محمل، ولذلك قال بعض العلماء: لا نسخ في القرآن مطلقاً، وكل ما قيل: إنه نسخ خرّجه على أنه إما تخصيص للعام أو تقييد للمطلق أو بيان للمجمل... إلخ.
    فهذا أحد الأقوال لكن الصحيح: أن النسخ قائم لكن ليس كما يتصوره البعض بكثرة كاثرة؛ لأنه يوجد سر في معنى كلمة نسخ، ولو عرفنا هذا السر انتهى الإشكال.
    فالنسخ عند السلف من الصحابة والتابعين يطلق على أمور كثيرة، فليس خاصاً عندهم برفع الحكم كليةً، بل إذا رفع جزءاً من الحكم أو عموم الحكم عدُّوا ذلك نسخاً، وإذا بين ما كان مجملاً أو قيد ما كان مطلقاً عدّوا ذلك نسخاً، وهو فعلاً رفع للحكم؛ لكنه رفع جزئي .
    أما المتأخرون عندما ضبطوا وأصلوا، قالوا: كلمة النسخ لا تطلق إلا على ما كان رفعاً كلياً للحكم وإحلال حكم آخر محله، وهذا لا بأس به ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نعترض على المصطلح، لكن نقول: إذا فُهم مصطلح النسخ وفهم في كلام غيرهم تبين أنه لا معارضة -إن شاء الله- ولا إشكال في هذا.
    فإذاً ما نفاه الحافظ الطبري رحمه الله حيث يقول: لا نسخ، أي: بالمفهوم المتأخر، لكن الحافظ على فضله وإمامته في التفسير والعربية، إلا أنه جمع بينهما فتأول الآية تأول المتأخرة، بما يجعلها توافق الأولى، بأن قال: أنت مخير احكم أو أعرض فإذا اخترت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله، فحمل الآية الأخيرة على الأولى، وهذا فيه فائدة تدلك على أن كل إمام له ملحظ، فيقول الطبري: إنه حتى وهم أهل الكتاب مع تحريفهم وظلمهم وجورهم ومع إفكهم وافترائهم إذا اخترت -والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي قاضٍ مسلم بعده- أن تحكم بينهم فاحكم بينهم بما أنزل الله.
    فيقول الشيخ أحمد شاكر -وكلامه وجيه هنا-: ''ومن المفهوم بداهةً: أن هذا الجمع يكاد يجعل الأمر بالحكم بينهم في الآيتين تكراراً، فقط لما مضى في الآية [43] -آية التخيير- لأن نصها: (( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ))[المائدة:42]''.
    فإذا قلنا: إنه قال بعد ذلك: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ))[المائدة:49] ولاشك أن الحكم بما أنزل الله هو الحكم بالقسط، إذاً تكون الآية وليس هناك فائدة، ولا جديد في هذا الكلام، فهي مجرد مؤكدة.
    لكن يقول الشيخ أحمد شاكر: ''الوجه الصحيح في فهم هذه الآيات والجمع بينها، وفي فهم حديث ابن عباس رضي الله عنه بالنسخ: أن آية التخيير إنما هي في القوم الذين جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه بينهم في شـأن الزانيين وفي شأن الديات، وهم قوم من يهود، لم يكونوا ذميين ولا معاهدين، أعني: لم يكونوا في سلطان الدولة الإسلامية ولا خاضعين لأحكامها، بل قدموا إلى الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية، يجعلونه حكماً بينهم في بعض شأنهم، وكانوا مستطيعين أن يحكموا بأنفسهم في شأنهم، بحكم دينهم أو بأهوائهم، كعادتهم في سائر ما يعرض لديهم من الأقضية، فإذا جاؤا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه في بعض ما عرض لهم، أعلمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن له الخيار أن يحكم بينهم فيما حكّموه فيه أو أن يعرض عنهم''.
    فعندنا أهل الكتاب نوعان: نوع خاضع للدولة الإسلامية، فهو ذمي يعيش في أرض الإسلام، كمن يعيش في بلاد الشام أو مصر أو الأندلس من النصارى واليهود .
    والآخر لا يخضع لأحكام الإسلام، وإنما جاء يتحاكم إلينا، وهو يعيش -مثلاً- في فرنسا أو أمريكا أو أي مكان نحوهما، فجاءوا يترافعون إلينا، وطلبوا أن نحكم بينهم، لكن قد يشكل عليه موضوع الزانيين اللذين كانا في المدينة.
    لكن قد يُقال: إن هذا كان قبل أن يشمل حكم الإسلام جميعهم.
    أو نقول: إن هذا الحكم هو المقرر الآن بغض النظر عما جرى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعمل بالآيتين جميعاً دون أن يلزم من ذلك معرفة المتقدم والمتأخر أو النسخ من غيره فنقول: إن أهل الكتاب إن ترافعوا إلينا فنحن مخيرون في الحكم بينهم، أما إذا كانوا ذميين خاضعين لحكم الدولة الإسلامية، فهذا نحكم فيه بحكم الله وجوباً .
    أما أهل الكتاب الذين لا يخضعون لحكم الدولة الإسلامية فنحن مخيرون أن نحكم بينهم بما أنزل الله، أو أن نقول: لا شأن لنا فيكم ولا إثم علينا لأن شرعكم عندكم، ونطالبكم بأن تؤمنوا وأن تسلموا ثم نحكم بينكم، ويخرج على هذا احتيالهم؛ لأنهم يقولون: إن حكم بما يوافق ما قررناه نحن واصطلحنا عليه أقمناه وجعلناه حجةً بيننا وبين الله، وقلنا: هذا نبي من أنبيائك حكم به، ومعلوم أن النبي المتأخر ينسخ الشريعة المتقدمة، فشريعتنا التي في التوراة منسوخة.
    إذاً: نحن لم نخالف أمر الله، وإن حكم بما يوافق حكم التوراة قلنا لأنفسنا: نحن قد تركناه وهو في كتابنا فكيف نقبله من عنده؟
    فلا نعمل به، فهذه حالة.
    ًالحالة الأخرى: أن أهل الذمة في بلاد الإسلام، فهؤلاء يقام عليهم أحكام الإسلام، وهذا من الصغار الذي يضرب عليهم، ولا شك أنه حتى المسلم يعتبر إقامة الحد عليه عقوبة وردع له، فكذلك أولى أن يعاقب من خرج على أحكام الله من أهل الكتاب، وعلى ذلك استقر الأمر.
    ويؤيد الشيخ أحمد شاكر هذا الرأي بكلام من: ''كلام الشافعي في الأم بل يكاد يكون صريحاً، فقد قال: لم أعلم مخالفا ًمن أهل العلم بالسير أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزل بـالمدينة وادع يهود كافة على غير جزية -أي: عقد معهم وثيقة الموادعة من غير جزية، لأنه لم تشرع الجزية يومئذٍ بعد- وإن قول الله عز وجل: ((فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ )) [المائدة:42] إنما نزلت في اليهود الموادعين الذين لم يعطوا جزية، ولم يقروا بأن يجري عليهم الحكم''.
    وقد يقولون: يا محمد! لم نكتب في الوثيقة أن حكمك يجري علينا، وإنما هي على أن نعينك في الحفاظ على المدينة من الأعداء.
    قال: ''وقال بعضهم: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، قال الشافعي: والذي قالوا: يشبه ما قالوا، لقول الله عز وجل: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ )) [المائدة:43]، وقوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك))[المائدة:49] أي -والله أعلم-: إن تولوا عن حكمك بغير رضاهم، وهذا يشبه أن يكون ممن أتى حاكماً غير مقهورٍ على الحكم، والذين حاكموا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في امرأة منهم ورجلٍ زنيا- موادعون، وكان في التوراة الرجم، فجاءوا بهما فرجمهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وإذا وادع الإمام قوماً من أهل الشرك ولم يشترط أن يجري عليهم الحكم، ثم جاءوا متحاكمين، فهو بالخيار بين أن يحكم بينهم أو يدع الحكم''.
    وكلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الحقيقة أتانا بحالة ثالثة، وهذا يدل على نفاسة علم السلف وكمال فقههم، فكأنها صارت ثلاث حالات لا حالتين فحسب:
    الحالة الأولى: كفار تحاكموا إلينا ليس بيننا وبينهم أية علاقة .
    الحالة الثانية: وادعناهم وتحاكموا إلينا، لكن ليس في دارنا ولا تجري عليهم أحكامنا .
    الحالة الثالثة: من في دارنا وتجري عليه أحكامنا .
    فرحم الله الإمام الشافعي وأئمة السلف.
    قال الشافعي: ''وليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم الحكم، إذا جاءوه في حدٍ لله عز وجل، وعليه أن يقيمه، ولا يفارقون الموادعين إلا في هذا الموضوع''.
    فعلى هذا انتقلت حالة اليهود من موادعين إلى معاهدين.
    فإذاً: كانوا أول الأمر موادعين على أساس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إليهم وهم جزء من أهل المدينة، وهذا مهاجره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس من الحكمة أن يبدأ فيتقاتل أهل المدينة فيما بينهم، ويقول للأنصار أخرجوهم وتقع الفتنة، ولكن هذا الدين جاء بمراحل، فكان أول الشأن الموادعة، وكانت في الموادعة خير كبير؛ لأن أهل الكتاب بدءوا يسمعون كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقولون للأنصار: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الرسول الذي عندنا في التوراة، وهذا الذي كذا، وأحاديث كثيرة في هذا بلغت مسامع أهل المدينة، وفيها تأليف لأهل الكتاب، وهذا من الحكم الدعوية حتى يعرفوا أن ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء مصدقاً لما بين أيديهم من الكتاب، وإقامة للحجة عليهم، وحكم ومصالح كثيرة، لكن لما قوي عود الإسلام وصلب واشتد، ومن حكمة الله بأن اليهود نقضوا العهد ففعل بهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا يخفى عليكم.
    فكلام ابن عباس رضي الله عنه أن الحكم باقٍ في أهل الحرب من أهل العهد، وأن وجوب الحكم في أهل الذمة، ونقرأ بعض ما ذكره من كلام ابن القيم رحمه الله عن النسخ.
    يقول الشيخ: '' وليس في هذا التأويل والجمع أي تكلف''.
    أي: بيَّن هذا الجمع بالآيات ويبن كلام ابن عباس وغيره، ممن قال: إن الآية فيها نسخ.
    قال ابن القيم: ''مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ: رفع الحكم بجملته تارةً -وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارةً، إما بتخصيص عام، أو تقييد مطلق، وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه حتى أنهم يسمون الاستثناء نسخاً، والشرط والصفة نسخاً، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد ,فالنسخ -عندهم وفي لسانهم- هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه''.
    فهو عام يشمل عندهم الاستثناء والتخصيص... إلخ. كما سبق، والمهم أن يكون الرافع للحكم خارجاً عن النص، فإن كان في اللفظ فهذا جزء منه كالاستثناء المتصل، لكن إذا جاءت آية واستثنت ما قُرر في آية أخرى، فإن ذلك يسمى نسخاً، وإن كان في الحقيقة ليس بنسخ، وإنما هو استثناء لكنه غير متصل باللفظ.
    قال: ''ومن تأمل كلامهم، رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر''
    وهذا كثير جداً في مثل هذه الأمور، والواجب وما ينبغي لطالب العلم أن يتفطن لدلالة الألفاظ ومعانيها عند السلف، ومعانيها عند العلماء المتأخرين، حتى لا يلتبس عليه الأمر هنا أو هناك.
    وذلك مثل كلمة السنة: فبعض الناس يخلط ويتكلم بالخطأ؛ لأنه لم يفقه معنى السنة، والسنة لها عدة معان، فإذا قلت: فلان قال كذا وخالف السنة، فنقول: ماذا تقصد؟
    هل تقصد السنة بمعنى المندوب أو السنة بمعنى الحديث وعلمه أو السنة بمعنى الهدي والطريقة؟
    إذاً: لا بد من تحديد، ولذلك يلتبس هذا على من لم يفهم كلام السلف، فيضع هذا موضع هذا من النص أو غيره من الألفاظ، فيكون التناقض والاضطراب في الكلام.
    قال: '' وقوله تعالى: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ))[المائدة:48] أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها -فنفس المناط متكرر في كلام ابن كثير رحمه الله تعالى وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً))[المائدة:48]''.