المادة    
التوسل إلى الشيء معناه: التوصل إليه، والوسيلة إلى الله معناها: ما نتوصل به إلى الله، وما نتقرب به إليه، وما نتزلف به إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليقربنا منه، ويوصلنا إلى مرضاته. فهذه هي الوسيلة. فإذاً نحتاج أن نعرف ما هي الوسيلة؟ وما هو التوسل؟ وما هي أنواع التوسل؟ وما هي أحكامه؟
  1. أعظم الوسائل إلى الله

    فأما الوسيلة:
    فأعظم وسيلة هي الإسلام والتوحيد، وبذلك فسرها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، ولا يكون العبد مسلماً إلا إذا وحد الله، وهذا ضد ما يفعلونه تماماً.
    فأعظم شيء نتوسل به إلى الله هو توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك إذا أردنا أن نسأل الله فإن من خير ما نسأله به؛ أن نسأله ونتضرع إليه بأنا نشهد أن لا إله إلا هو، فنتوسل إليه بتوحيده، ودعاؤنا لربنا وتوسلنا له في الدعاء بالتوحيد دليل على أن أعظم الأعمال التي نتوسل بها هو التوحيد، لأن الدعاء منه دعاء عبادة، ومنه دعاء مسألة.
    فدعاء العبادة مثل الصلاة والشهادة: فالصلاة دعاء، وشهادة أن لا إله إلا الله دعاء.
    ودعاء المسألة هوالتضرع والسؤال، وهو أن تسأل ربك شيئاً، فإذا كان خير ما تسأل ربك به هو توحيد الله، فإذاً خير ما نتوسل به إلى الله أيضاً من الأعمال والعبادات والطاعات هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فلو أن أحداً أراد أن يتقرب إلى الله بالشرك وبعبادة غير الله فهذا لا يكون متوسلاً إلى الله، بل يكون مطروداً من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72] ولا يكون هذا متوسلاً إلى الله وهو متباغض إلى الله، بفعل أكبر وأعظم ذنب عصي الله تبارك وتعالى به: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48] فلا يمكن أبداً أن يكون أعظم الذنوب هو ما نتوسل به إلى المحبوب والمعبود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    إذاً أعظم ما نتوسل به إلى الله هو توحيد الله تبارك وتعالى، والانقياد والإذعان والطاعة له، وهؤلاء العباد الصالحون من الأنبياء والملائكة إنما عظمت منزلتهم وقيمتهم وكانوا أولياء؛ بتوحيدهم لله.
    فلذلك نحن نتوسل إلى الله بأعظم الوسائل وهو التوحيد، والوسيلة التي أمر الله أن نتخذها إليه أعظم شيء فيها هو توحيده، ثم طاعته، بجميع أنواع الطاعات، وأولها الصلاة، فكل ما فرضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه} فكل العبادات والفرائض نتقرب بها إلى الله، فهذا هو معنى التوسل.
    فأتوسل إلى الله معناها: أتقرب إليه وأسعى لنيل رضاه بهذه العبادة: بدعائه، وذكره، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة دينه، وبكل شيء يرضيه، فأنا بهذا التوسل أسعى إلى رضاه سبحانه وأطمع في رحمته، وأن أنال الفوز بجنته وأن يعافيني من ناره.
    وهكذا كل عبد من عباد الله الصالحين، وهذا هو التوسل المشروع، وهو دين الإسلام كله.
    أما جانب الدعاء منه، فندعو الله تبارك وتعالى دعاء المسألة، وندعو الله دعاءً مشروعاً، ونتوسل إليه توسلاً مشروعاً بأحد أمرين:
  2. أنواع التوسل المشروع

    الأمر الأول: بأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته، يقول الله تعالى: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180] فندعو الله بأسمائه فنقول: يا غفار اغفر لي، يا رحيم يا رحمن ارحمني، يا كريم ارزقني، أو تفضل علي.
    فأيُّ اسم من أسماء الله تدعو الله تعالى به، وتتوسل إليه، وتسأل الله به، فهو خير وأفضل أنواع الدعاء.
    فندعو الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وندعوه ونتضرع ونتوسل إليه، بتحقيقنا التوحيد والإيمان.
    الأمر الثاني: أن نتوسل إلى الله بأعمالنا الصالحة، فندعو الله بأعمالنا التي عملناها خالصة لوجه الله، والتي تقربنا بها إليه، وأعظم وأفضل هذه الأعمال هو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فلما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله}.
    والإيمان -الذي هو التوحيد- نتوسل به إلى الله: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)) [آل عمران:193] فأولو الألباب الذين أثنى الله تعالى عليهم وذكر أنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم -وهذا هو غاية الذكر وغاية العبادة- يتوسلون إلى الله بالإيمان، ولم يتوسلوا إليه بذات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل سألوه بالإيمان به.
    ومن أعظم الأدلة على ذلك، وأوضحها أيضاً، { قصة الثلاثة الذين آواهم المطر إلى كهف فأطبقت عليهم الصخرة} فتوسلوا إلى الله تبارك وتعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة.
    أفلم يكن عندهم أنبياء حتى يتوسلوا بهم؟
    إن هؤلاء مؤمنون لا شك في ذلك، وجاءهم الإيمان عن طريق الرسل والأنبياء الذين دلوهم على الإيمان، لأنهم أناس عاديون، ليسوا برسل أو أنبياء، ولا مشهود لهم بالصلاح والتقوى، فهم أناس من عامة الناس.
    لكن الله أراد أن يبتليهم بهذه الصخرة، فلم يتوسلوا بالذوات وبالمخلوقين، ولكنهم توسلوا إلى الله، وقبل الله توسلهم بأعمالهم الصالحة التي عملوها خالصة لوجه الله.
    فتوسل الأول إلى الله ببر الوالدين، وبر الوالدين نعم العمل الصالح: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الإسراء:23] فجعل الله تبارك وتعالى أعظم حق بعد حقه تعالى -وهو توحيده- هو حق الوالدين, فكذلك أعظم ذنب بعد الشرك بالله هو عقوق الوالدين، وعندما سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيُّ الذنب أعظم؟ قال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين} فهذا أعظم حق يراعى، وإن أهدر فهو أعظم حق أهدر بعد حق الله.
    فتوسل إلى الله ببر الوالدين، وتضرع إلى الله: { اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك وخالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت قليلاً }
    وتوسل الثاني وتضرع إلى الله بالعفة عن الزنا، لأنه كان له ابنة عم ذات منصب وجمال، وكان يريدها على الفاحشة، ولكنها امتنعت منه، حتى جاءت واحتاجت إليه، فأعطاها الدنانير، وقعد منها مقعد الرجل من أهله فذكرته بالله، فاتقى الله، وتركها لوجه الله.
    وهذا العمل لا يضيع عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فذرة من العمل لا تضيع، إن كان خيراً وجده.
    وإن كان شراً وجده، فهذه العفة عما حرم الله، وهذا العزوف عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، وحجز النفس عن الشهوات المحرمة، نفعه في وقت هو أحوج ما يكون إلى المنفعة، فسأل الله: { يا رب! إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم؛ فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت قليلاً } أكثر من الأول، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
    وهذا الحديث عظيم، ويحتاج إلى درس بل دروس بالنسبة لما فيه من الآيات والعبر: بالنسبة لحقّ الوالدين، ثم بالنسبة لترك ما حرم الله تبارك وتعالى، وأثر ذلك في الخير والنعمة والبركة. ثم يأتي النوع الثالث.
    فالرجل الثالث توسل إلى الله بأداء حقوق الناس.
    فإيفاء الناس حقهم، ورحمة الخلق والإحسان إلى خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأعمال الصالحة العظيمة.
    وقد كان عند هذا الرجل أجير، فذهب ولم يأخذ أجرته، فنمى ماله حتى أصبح شعاباً من الإبل والبقر والغنم، فلما جاء صاحب المال، يريد أن يأخذ ماله، قال له: هذا مالك، فقال: أتهزأ بي يا عبد الله -فهو يعرف أنه اشتغل عنده مدة من الزمن، وأن ماله عنده بضع دنانير، وهذه شعاب من بهيمة الأنعام، وهي أفضل الأموال وأزكاها- فقال له: لا. ولكن هذا مالك، وحقك. فهو فعل ذلك لوجه الله.
    فيا من تأكلون حقوق العمال الأجراء والعباد! انظروا كيف نفعه هذا في وقت هو أحوج ما يكون إليه، وذلك لما وفاه أجره وأعطاه حقه, وبالإحسان إليه زيادة عن حقه لوجه الله، وما كان ذلك الرجل يريده ولا يطلبه أو يتوقعه، قال تعالى: (( هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ )) [الرحمن:60] فمن أحسن إلى خلق الله ابتغاء وجه الله أحسن الله تبارك وتعالى إليه في الدنيا والآخرة.
    ففرجت عنهم الصخرة وخرجوا، وهذا من فضل الله ونعمته تبارك وتعالى عليهم.
    فالشاهد أنهم دعوا الله وتضرعوا وتوسلوا إليه بأعمال صالحة فعلوها.
    فإذا أردنا أن نبتغي إلى الله الوسيلة، فالواجب علينا أن نعمل أعمالاً صالحة خالصةً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فإذا جاء وقت الشدة والضيق والكرب في الدنيا أو في الآخرة، نضرع إلى الله بهذه الأعمال الصالحة، فإن قبلها الله نفعنا ذلك عنده.
    فإذا أردنا أن يكون عندنا ذخائر وعدة وسلاح نواجه به الأزمات والمخاطر والهموم والمشاكل -وهذه لا يخلو منها أحد- فلنعد عملاً خالصاً لوجه الله، ولو أن تذكر الله تعالى وحدك ولا يعلم بك إلا الله.
    ادع لأخيك بظهر الغيب وهو لا يعلم ولا يعرفك أو يلقك أو يرك.
    أصلح بين الناس لوجه الله تبارك وتعالى.
    أو اعمل أي معروف، ففي كل ذات كبد رطبة أجر، حتى ولو كان إلى البهائم، أحسن إليها وهي لا تشكر، ولا تمنه عليها.
    وسوف تجد أن ذلك ينفعك بإذن الله، فترفع يديك وتسأل الله في وقت أزمة أو شدة، كما سألوه هؤلاء الثلاثة، فيفرج الله تبارك وتعالى عنك الغم، ويكشف عنك الكرب بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما دعاء غيره: (( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ))[الإسراء:56] وهم عباد أمثالنا.
    فكل من عُبد من دون الله -من هؤلاء المسمين بالصالحين أوالأولياء أو السادة- لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
    فالتوسل المشروع المحمود يكون بالدعاء: بأن ندعوه بأسمائه الحسنى، أو بأعمال صالحة نعملها، ورأسها وأفضلها هو توحيد الله والإيمان به.
    ثم كما قدمنا وفي هذا الحديث -مثلاً- ما يتعلق بحقوق الوالدين وبر الوالدين، وما يتعلق بالكف عن محارم الله مع القدرة عليها، وما يتعلق بإعطاء الناس حقوقهم والإحسان إليهم مع إمكان عدم ذلك.
    فهذه وغيرها من الأعمال الصالحة هي التي يكون بها التوسل المشروع، وهي الوسيلة الصحيحة المحمودة، فهذا هو النوع الأول.
  3. التوسل الشركي

    والنوع الثاني من أنواع الوسيلة: هي الوسيلة الشركية.
    فالتوسل الشركي الذي يكون صاحبه مشركاً بالله هو أن يتوسل الإنسان إلى الله -بزعمه وفي نظره- بدعاء أحد من المخلوقين، ويعبده كما كان الجاهليون يقولون، ففي الآية: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3] أي ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاء لنا عند الله بما لهم من الجاه والقيمة والمنزلة عند الله.
    فدعوا غير الله، وعبدوا غيره، زاعمين أنه يقربهم إلى الله، فكان المشركون إذا حجوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
    فالمشركون لم يكونوا يعتقدون أن الآلهة المعبودات التي يعبدونها من دون الله أنها تملك الأشياء، أو أنها تخلق أو ترزق أبداً: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [الزخرف:87]. وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25]. وقال تعالى: ((لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)) [الزخرف:9] فكانوا يعتقدون أن الخالق والرازق والمحيي والمميت والذي يدبر الأمر وينزل الغيث هو الله وحده، لكن هذه تقرب إلى الله، وتشفع عنده، ولا تملك شيئاً إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
    إذاً فمادام الله يملكه وما ملك، فلماذا لا تدعو الله وحده؟!
    جاءهم الشيطان بشبهة، وهي التي يقولها إلى اليوم عباد الأصنام والقبور، يقولون: أنت ضعيف ومذنب ومسكين، فكيف تدعو الله مباشرة؟!
    ادع الله عن طريق هؤلاء الصالحين؛ لأن لهم جاهاً ومنزلة وقيمة عظيمة، أما أنت فليس لك قيمة عند الله، فكيف تدعو الله؟!
    ولكن هذا ليس مما شرعه الله: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )) (غافر:60] وقال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)) [النمل:62] فالله لم يقل أنه يجيب المؤمن إذا دعاه، نعم إن أعظم من يستجيب لهم هم المؤمنون، لكنه قال: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)) أو ليس الله هو الذي يغيث الكافرين إذا ركبوا البحر وجاءهم الموج من كل مكان، فإنهم يدعون الله مخلصين له الدين، فينجيهم ولكن: ((فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)) [العنكبوت:65].
    إذاً الله تعالى يغيث المضطر، ويستجيب له ولو كان كافراً، وبعض الناس قد تخفى عليه هذه الحقيقة، فيقول: كيف استجاب له؟!
    فالاستجابة موجودة، وكثير من الكفار إلى هذا اليوم يذكر أنه وقع في أزمة كحادث طائرة، أو في حادث سفينة، فيقول: تضرعت، ودعوت الخالق فأنجاني، وهذا في كتاب الله.
    فالله تبارك وتعالى هو الذي يغيث؛ لأنه إذا لم يغثه الله فمن يغيثه، فلا أحد يملك لأحد شيئاً، فإذا تضرع إلى الله أغاثه الله ولو كان كافراً، لكن مشكلته أنه إذا خرج ونجا نسي ما كان يدعو من قبل، وعاد إلى دينه الأول.
    فالمضطر والمظلوم وإن كان كافراً يستجاب له؛ لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يجيب المضطرين إلا هو، ولا يغيث المظلومين والملهوفين إلا هو، فلو لم يغثهم فكيف تكون الحياة، ومن الذي يتولى ذلك؟
    فإذا كان يغيث الكافر إذا دعاه، فما ظنك بالموحد المذنب؟
    فمن خير ما يفعله المذنبون والمجرمون والعصاة أن يطرقوا باب الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)) [الشورى:25] وقال: ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) [غافر:3] فهذا شأنه سبحانه، فهو يريد العباد أن يتوبوا، ويدعوهم ليتوبوا: ((تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)) [التحريم:8] {يبسط يده بالليل ليتبوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل} فالله يدعو الخاطئين والمذنبين والمجرمين ليدعوه فيتوب عليهم، وأن يستغفروه فيغفر لهم، وأن يقبلوا عليه فيقبل عليهم سبحانه.
    فجاء هؤلاء المشركون دعاة الضلالة ليحرمونا من هذه المعاني، وجعلوها محصورة في الشرك الذي لا يقبله الله، بل هو مردود على صاحبه.
    والتوسل الذي جعله الله تبارك وتعالى باباً عظيماً من أبواب الخير، وهو أنفع الأبواب، ضيقوه جداً وما جعلوه إلا بشيء واحد، وفيه بدعة إن لم يكن فيه شرك، وهو ذوات الأنبياء وذوات الصالحين، فلذلك نقول هذه شبهة داحضة، وما دام أولئك المدعوون المعبودون يدعون الله فنحن أيضاً ندعو الله، وإن كان فينا من الذنوب ما فينا، لكن هو المدعو وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ندعوه ونتضرع إليه، ولن يرد من دعاه، ولن يحرم من سأله أبداً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    والدعاء أمره عظيم وشأنه جليل، وحسبنا أن نقول: إن دعاء غير الله هو الشرك الأكبر، فإذا قال: يا بدوي! أو يا حسين! أو يا عباس! كائناً من كان؛ فهذا مشرك الشرك الأكبر، إذا كان دعا غير الله معتقداً أنه يستجيب له، ولو قال: لا أنا لا أقصد أنه إليه، بل أنا أقصد فقط التقرب إلى الله بدعائه، فهذا ما قاله المشركون: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))[الزمر:3] فهذه شبهة المشركين الأولين.
    إذاً نحن ندعو الله، ولو أن هؤلاء الناس الذين يعبدون غير الله تأملوا حال المدعوين؛ لكانوا كما قال الله في الآية السابقة التي دحض بها كل شبهة.
  4. من أشكال التوسل الشركي في العالم

    وأكثر ما يقع الشرك اليوم في الأرض من الروافض الذين يعبدون الحسين بن علي رضي الله عنهما، وعن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمعين، فيتعلقون به أشد من تعلقهم بالله، فيجتمعون وينوحون ويبكون ويقرءون القصائد والمراثي الطويلة، والسبب في بكائهم أن في هذه القصائد والأشعار أنه مات ضعيفاً وحيداً في الصحراء، وأنه مات عطشاناً، وأن أعداءه تكالبوا عليه وقتلوا ابنه.
    وهم يزيدون من عندهم أشياء وتفاصيل، وكلما ذكروا شيئاً منها يزدادون في البكاء، فإذا انتهوا من العويل والنياحة، قالوا: ندعو الحسين، سبحان الله! هو لم يملك لنفسه شيئاً، وهو في تلك الحالة وفي ذلك الكرب في يوم كربلاء، ففي ذلك الموقف، لم يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فقتله أولئك القوم ولم يستطع أن يفعل لنفسه شيئاً، فكيف تعبدونه من دون الله؟!
    وهم أيضاً يعبدون علياً رضي الله عنه، وهو الذي كم أصابه من مشكلات ومواقف في يوم صفين وفي غيرها! ثم خرجت عليه الخوارج، وانقسمت عليه الأمة، وفقد بعض الأقاليم من ولايته، وتعب تعباً شديداً، ولم يكن يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، حتى جاءه الشقي عبد الرحمن بن ملجم، فضربه بالسيف على هامته، فمات رضي الله عنه بعد أيام من ضربة هذا الشقي.
    فأين نفعه لنفسه؟! وأين كشف الضر عن نفسه، حتى يملك لكم كشف الضر وتحويله عنكم؟! ومع ذلك يدعونه من دون الله!!
    فإذا ذهبت إلى بعض البلاد -مثلاً مصر- فإنك ترى شيئاً عجيباً جداً، فإنك تجدهم يقولون: رأس الحسين مدفون هاهنا، فيقولون رأس الحسين ولا يقولون الحسين كله، وهذا بغض النظر عن أنه كيف يعبد في كربلاء، ويعبد في العراق في النجف، ويعبد في دمشق، ويقال: أنه مدفون هناك، ويعبد في مصر ويقال: هنا رأس الحسين، مع أن هذا الضريح لم يبن إلا بعد ثلاثمائة سنة من وفاته.
    ثم أنك تجد هناك شيئاً عجيباً من الزحام والدعاء والتضرع حول ما يدعون أنه قبر رأس الحسين.
    فإذا كان هذا رأسه الذي فصل عن جسده -وهذا غير حقيقة ولكن تنزلاً، إذا افترض أن هذا الرأس قطع- وجيء به من كربلاء في العراق ودفن في مصر، فهل هذا مبرر أو موجب لعبادته ودعائه من دون الله، أو هو دليل على فقره وعجزه وضعفه، حيث يقطع رأسه وحمل إلى هذه البلاد، ولم يستطع أن يدفع عن نفسه أي شيء؟!
    لكن ليس للمشركين عقول، وإنما أمرهم أحد أمرين:
    1- إما جهلة مقلدون: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)) [الزخرف:23] فلا يوجد أقل تفكير، بل تقليد أعمى.
    2- وإما محتالون ولصوص ومجرمون يأكلون السحت، فيأتي عند القبر ويقول: ماذا تريد من الحسين؟ هل تريد الزوجة؟ إو إذا كانت فتاة، هل تريدين زوجاً أو خطيباً؟ والذي يريد المال موجود... وهكذا.
    فتدفع للسدنة عند الضريح مبلغاً من المال، وهم يسمحون لطالب الحاجة أن يدعو، والمهم أن تدفع شيئاً للسيد -للبدوي أو للحسين أو لـنفيسة، أو غيرهم- وهذا النذر لا يأخذه صاحب القبر، وأحياناً لا يوجد قبر أصلاً، كالقبر المزعوم أنه للحسين وهو لا يوجد أصلاً فيه شيء.
    فالذي يأخذ المال هم السدنة، فهم يضحكون على عقول الناس، ويجمعون هذه الأموال ويستفيدون منها.
    ولذلك من القصص العجيبة جداً: أنه يوجد ضريح ضخم في أحد البلاد، يسمونه ضريح الخواجة، وهذا القبر لرجل هولندي -وكما تعرفون أن أي رجل أوروبي يسميه بعض الناس خواجة- وكان قد جاء في قناة السويس عاملاً في الشركة التي جاءت لتحفر القناة، فسقط في البحيرة فغرق فيها، ثم طفت الجثة على سطح الماء، فسحبوا الجثة وحفروا لها ودفنوها، ثم بنوا عليها ضريحاً.
    فهذا نصراني كافر وإلى الآن يدعونه، ويسمونه ضريح الخواجة.
    وأشد من هذا ما يحكى -ويقال أنه متواتر وأنه حصل أكثر من مرة-: أن بعض اللصوص المجرمين ذهبوا يقطعون الطريق، ويحتالون على الناس، فما وجدوا شيئاً يحتالون به على الناس، وكانوا رجلين ومعهم حمار، فذبحوا الحمار ودفنوه، وبنوا عليه قبة، وجلسوا على الطريق، ومن مرّ من عندهم قالوا له: هذا ضريح الشيخ فلان، ومع المدة كثر الناس الزائرون للضريح، وكثرت الأموال والنذور.
    فبدل أن كانوا يريدون أن ينهبوا الناس؛ أصبح الناس هم الذين يعطونهم طواعية للشيخ وللولي.
    حتى جاء يوم من الأيام فاختلفا، فقال أحدهما للآخر: احلف بالله أنك ما غششتني، فقال: والله العظيم لم أغشك، فقال له: لا. لا أقبل إلا بواسطة الولي -والعياذ بالله، فمن شركهم بالله لا يقبلون الحلف بالله، وهذا شيء معروف الآن، فإذا حلفت بالله فقد يقبل وقد لا يقبل، لكن إذا حلفت بالشيخ فإنه مباشرة يصدق، مثلاً الشيخ عبد القادر الجيلاني كان في الهند أو في أفريقيا، أو في أي بلاد إذا حلف بحياة الشيخ فإنه يصدق مباشرة- فلما حلف له على حياة الشيخ أنه لم يغشه قال: تحلف ونحن دفناه سوياً! أي: نحن الاثنين نعرف من هو المدفون.
    فيظهر من ذلك أنه حتى الذين دفنوه صدقوا؛ لأن الكذب إذا كثر وانتشر وجبل عليه الناس فإنهم يصدقونه، وهذه قضية نفسية، وقد قيل: إن أشعب الطماع مرّ به أطفال، فقالوا: يا أشعب! يا طماع! وآذوه وهو في الطريق، فقال: اذهبوا إلى بيت آل فلان فإن فيه وليمة كبيرة، فالأطفال قالوا: هذا أشعب وأكيد أنه يعرف الولائم فصدقوه وذهبوا، ثم بعد قليل فكّر، ثم تبعهم، فقيل له: لماذا تبعتهم؟ قال: يمكن يكون صحيح. وهذا يقع أحياناً، وهو الذي قال لهم هذه الكذبة.
    فكذلك بعض الناس يكون هو أول من يبتدع الشرك، وأول من يحدثه، ثم يصدق ذلك، وهذه تسمى الحيل النفسية.
    فكثير من الناس يحتال، فيقول للناس: أنا فعلت وأعطيت وعندي، وهو كاذب، ثم ينقل الناس هذا الكلام عنه، وبعد فترة يأتيه الشيطان فيصدق أنه كذلك، وهو الذي يكون ابتدعها من عنده.
    وهذا حتى تعلموا مكر هؤلاء المكارين.
    فهؤلاء شياطين الإنس والجن، يضحكون على الناس حتى أصبح الإنسان العاقل اللبيب، أو من يبحث عن الإسلام لو جاء إلى بلاد المسلمين، كما هو الحال في كثير من الأوروبيين الآن والأمريكيين -كثير منهم حيارى ضائعين، وتائهين يبحثون عن دين- إذا جاء إلى بلاد المسلمين يريد الإسلام، فيقال له: هذا هو الإسلام، فيجد عبادة القبور، ودعاء الموتى، والاستغاثة بهم، وهم عندهم عبادة القديسين والمسيح في دينهم المحرف.
    فيقول: هذا الذي هربت منه، واعتقدت أنه خرافة، ثم أجده عند المسلمين، فلا يؤمن أيضاً.
    فهذا شرك، وفيه أيضاً صد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فهذا هو التوسل الشركي، وهو يملأ الأرض إلا ما رحم الله تبارك وتعالى.
    وهم يريدون أن يحيوه حتى في هذه البلاد الطاهرة، فيقولون: لماذا لا تُبنى القبور وتعظم؟ وهذا ليس من الشرك، وأنتم تكفرون الناس، وهذا يقول لا إله إلا الله فكيف تقول: أنه مشرك.
    فنقول: إذا قال لا إله إلا الله ونقضها، مثلما إذا توضأ ونقض وضوءه، أو صلى وأبطل صلاته، وكما ترون تبدأ البدع شيئاً فشيئاً.
    ولذلك ما يفعل عند قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استقبال الناس للقبر واستدبارهم للقبلة ليدعون، فهذا وإن دعوا الله تبارك وتعالى فهو من وسائل الشرك، فيوماً ما -بل هو واقع الآن- سوف يأتي بعض الناس ويدعو ويقول: يا رسول الله! ويظن أنه لم يأت من بلاد بعيدة إلا لزيارة قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولدعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وهذا هو الشرك الأكبر -والعياذ بالله- وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي حمى التوحيد، ودافع عنه، وجاهد في الله حق جهاده، حتى لا يعبد إلا الله، ومع ذلك يتخذ وسيلة.
    وأحياناً يعرض في التلفاز أناس عند القبور يدعون، فيقول بعض الناس: لو كان شركاً هذا أو فيه شيء ما كان ليعرض في التلفاز، وهذا من الاقتداء بمن ليس بقدوة، وهذا من مصائب الناس، أنهم يرون الآيات الواضحة والأحاديث الصحيحة في الشرك، ولكنهم يتركونها ويقولون: هذا يعرض في التلفاز ولو كان فيه شيء لما عرض.
    إذاً فيستدبر الإنسان القبلة، ويستقبل القبر ويدعو، فحتى لو دعا الله فإن هذا بدعة، وإنما الصحيح والمشروع أن الإنسان إذا زار المدينة فينوي بالزيارة زيارة المسجد لا القبر، فإذا زرنا المسجد وزرنا المدينة فإننا نسلم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه، وأيضاً نزور البقيع.
    وهذه هي الزيارة الشرعية، وأيضاً إن كنت في أي مكان وزرت المقابر زيارة شرعية بآدابها الشرعية، فهذا فيها أجر عظيم، وفيها تذكير بالآخرة، ونحن مأمورون بها لأنها تذكرنا بالآخرة.
    فالذي يزور القبر، ويسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحبيه، ثم يدعو ويستغيث عند القبر، وعند البقيع، أو عند شهداء أحد، أو عند أي مقبرة من المقابر، فهذا لا يجوز، بل ندعو الله وحده، ولا نشرك به أحداً.
  5. التوسل البدعي

    ثم النوع الثالث من أنواع التوسل: هو التوسل البدعي، وقد عرفنا التوسل الشرعي، وعرفنا التوسل الشركي، والثالث هو: التوسل البدعي.
    التوسل البدعي هو أن يكون المدعو هو الله، لكن يدعى الله تبارك وتعالى بغير ما شرع، فلا يدعو الله بأسمائه الحسنى أو بالأعمال الصالحة، ولكن يدعو الله فيقول: اللهم إني أسألك برسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أسألك بفلان، أو بحق فلان، أو بجاه فلان، وكثير من الناس يقولون: بجاه محمد أو بجاه نبيك، فإذا قيل لهم: هذا التوسل غير مشروع، قالوا: بل هذا توسل صحيح ومشروع، ولكن أنتم تكرهون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نعوذ بالله- ولو لم تكونوا تكرهونه لكنتم تتوسلون به إلى الله، لأنه هو أعظم وسيلة.
    فنقول: أما كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم واسطة بين الله تعالى وبين عباده فلا شك عندنا في ذلك، ولكنه واسطة بلاغ، أما كونه واسطة عبادة لا ترفع إلى الله إلا عن طريقه، فهذا هو دين النصارى واليهود والمشركين.
    أما دعاؤه فهو شرك، وأما دعاء الله بجاهه أو بذاته، فبيننا وبينكم الدليل، وبيننا وبينكم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فلم يكن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتوسلون إلى الله بجاه أو ذات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقولون: نسألك بمحمد، أو يا رب نسألك بجاه نبيك، وهذه الأدلة بين أيدينا، ونذكر دليلاً واحداً صحيحاً لا شك عندنا وعند أهل البدع في صحته، وهو الاستسقاء.
    فقد استسقى الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر بن الخطاب وخرجوا للاستسقاء وكان عمر رضي الله عنه معهم فقال: [[اللهم إنا كنا نتوسل إليك بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن نتوسل إليك بعم نبيك، يا عباس! قم فادع الله]] فقام العباس فدعا وأمَّن المسلمون.
    فإذا قال المخالف: هذا دليل على أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقولون: اللهم إنا نسألك بنبيك.
    قلنا: هذا الدليل هو دليلنا نحن عليكم، وليس كما تفهمون، لأنه إن كان المقصود جاهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن جاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يموت بموته؛ لأن جاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله عظيم، ومنزلته عند الله عظيمة، في حياته وبعد مماته.
    وإنما عدل الصحابة عن التوسل به إلى التوسل بعمه، وذلك لأن المقصود أنه في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يدعو لهم وهم يخرجون معه، والآن بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عمه العباس يدعو لهم.
    وهذا واضح والحمد لله، وشبهتهم داحضة.
    فالصحابة رضي الله عنهم علموا أنه بموت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبح لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا يستطيع أن يدعو لأحد كما كان في حياته، حيث كانوا يأتون إليه ويقولون: ادع الله -يا رسول الله- ليفرج عنا، كما جاءوا إليه وهو في ظل الكعبة وقالوا: يا رسول الله! إن قريشاً قد آذونا، فادع الله لنا.
    أما بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يأتون إلى من رأوا فيه الصلاح، وهكذا المسلمون في أي وقت من الأوقات لو كانوا يريدون الاستسقاء أو غيره، فإنهم يذهبون إلى من فيه الخير والصلاح من عباد الله، من أهل الفضل والدعوة، ويقولون: ادع الله لنا أن يسقينا، وهذا هو المشروع، وليس فيه توسل لا بالذات أو بالجاه.
    فإذاً التوسل أو دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحق فلان، أو بجاه فلان، هو توسل بدعي، أي: ليس مشروعاً، لأنه لو كان مشروعاً لما كان بدعياً، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وليس هو شركاً؛ لأنه دعا الله، لكن لو قال: يا حسين! يا علي! يا عباس! فإنه يكون شركاً.
    فهذه هي أنواع التوسل الثلاثة: الشرعي والبدعي والشركي، وعرفنا أن من يدعون ويعبدون من دون الله، من الأنبياء والصالحين هم أنفسهم كانوا يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد قال تعالى فيهم: (( يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ )) [الإسراء:57].