المادة    
ولهذا عقب رحمه الله على ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه لما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن، ولنا أيضاً وقفات مع هذا الحديث.
  1. سبب اختيار معاذ دون غيره

    أولاً: اختيار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـمعاذ رضي الله عنه، لأن له صفات تؤهله لأن يكون داعية، فلو جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أعراب بني تميم، وأسلم في ذلك اليوم، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لن يقول له: اذهب إلى اليمن وادع الناس، لأن هذا المدعو يحتاج أولاً إلى أن يتعلم ويتفقه.
    وأيضاً: لم يختر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مثلاً- خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص، أو غيرهم من قواد الجيوش، الذين دكوا حصون الضلال والكفر والإلحاد، لإرساله للدعوة إلى الله في اليمن؛ لأن المسألة ليست مسألة جهاد أو سيف إنما هي مسألة علم وفقه بالدين, ومعرفة الحلال والحرام، فلا شك أن يختار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً رضي الله عنه، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً في اليمن،كما نفع به في الشام بعد عودته، وفيها توفي رضي الله عنه.
    وقد قال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا معاذ! إني أحبك} وهذه الدنيا وأي إنسان كائناً من كان، لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى قول خليل الرحمن وحبيبه ومصطفاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا معاذ! إني أحبك} فهذه الكلمة أكبر وسام، وأعظم شرف، حيث يكفي أن يحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمرء مع من أحب، وهذه تزكية من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإرساله إلى اليمن تزكية أخرى، ثم أوصاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ومن مجموع القصة والأحاديث الأخرى نعلم أن في الأمر وصيتين:
    الأولى: وصية لـمعاذ رضي الله عنه في نفسه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    والثانية: وصية له في منهجه في الدعوة.
  2. وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ في نفسه

    أما وصيته التي أوصاه بها في نفسه فقال له: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وهذه وصية في المعاملة وفي الجانب الإداري، وفي الجانب الشخصي: { اتق الله حيثما كنت } أميراً أو مأموراً، حيث ما كان موقعك أو وظيفتك أو عملك، وهذه وصية جامعة مانعة، والجملة الأولى: { اتق الله حيثما كنت } وضح بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـمعاذ ولنا جميعاً كيف نتعامل مع الله بالتقوى.
    وكيف نتعامل مع أنفسنا، قال: { وأتبع السيئة الحسنة تمحها } فالنفس هذه لوامة مذنبة خاطئة، ودائماً لو أطعتها لأوردتك الموارد والمهالك، فكلما عصت الله، وكلما ارتكبت السيئة فأتبعها حسنة تمحها، واجعل من نفسك رقيباً عليها، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وزن أعمالك قبل أن توزن، وتزود للعرض الأكبر بين يدي الله تبارك وتعالى.
    فإذا أخطأت خطيئة فأتبعها حسنة: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ))[هود:114].
    ثم قال له: { وخالق الناس بخلق حسن } وهي في كيفية التعامل مع الناس بالأخلاق الحسنة، فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الجامع المانع،وفي هذه الوصية لـمعاذ رضي الله عنه عند ذهابه إلى اليمن، كيف يتعامل مع الله، وكيف يتعامل مع نفسه وهواه، وكيف يتعامل مع الناس، ثم أوصاه بالوصية التي هي موضوع درسنا، وهي بالنسبة لذهابه إلى اليمن.
    واليمن أرض مباركة طيبة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فضّل أهل اليمن بقبول البشرى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدموا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الوفود، وجاء وفد بني تميم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اقبلوا البشرى يا بني تميم! قال بنو تميم: قد بشرتنا فأعطنا} فهم جاءوا يريدون العطاء، ومعنى كلامهم: نحن نعرف الذي عندك، تريد أن تقول: اتقوا الله، والجنة والنار... هذا معروف، لكن نحن نريد دراهم! وهذا كحال كثير من الناس اليوم، الذين يقدمون ويحبون العاجلة، ويؤثرون الحياة الدنيا على البشرى والخير والفائدة، وعلى الكنز الذي لا يفنى عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو النعيم الدائم.
    قالوا: {قد بشرتنا فأعطنا، قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن! قالوا: قبلنا يا رسول الله} فقبلوا وجلسوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حديث آخر وهو حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الذي له مجال غير هذا المجال.
    فالمقصود أن هؤلاء القوم قدموا وأذعنوا وآمنوا من غير جهاد، فدخلوا في الإسلام طواعية، وآمنوا بهذا الدين، وأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل إليهم من يعلمهم، ومن يفقههم، فأرسل معاذاً رضي الله عنه.
  3. وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في منهج الدعوة

    ثم افتتح الوصية بقوله: { إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب } وهذه هي الحكمة والبصيرة في الدعوة، حيث يبين له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هم المدعوون، لأن الخطاب يختلف عندما تذهب إلى أناس تاركين للصلاة عما إذا لو كنت تذهب إلى أناس يصلون؛ لكن مرضهم الغيبة والنميمة والفساد في الأرض.
    ويختلف إذا كنت تذهب إلى أناس من أهل الخمر والزنا والفجور، أو من أهل الشرك وأهل البدع، والبدع أنواع، فلا تذهب تخاطبهم عن بدعة ليست عندهم وعندهم بدع وعادات وتقاليد أخرى، فتتكلم في واد وهم في وادٍ، هذا ليس من أسلوب الدعوة.
    فبين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليستعد ويتهيأ، لأنهم من أهل الكتاب، وذلك لأن أهل الكتاب عندهم حجج وجدل، وقد عانى منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة، ومعاذ رضي الله عنه يعرفهم، ويعرف اليهود وما عندهم، فقوله: { تأتي قوماً من أهل الكتاب } فيها بيان لنا نحن جميعاً بضرورة معرفة المدعوين إذا أردنا أن ندعوهم.
    قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله } فهذه هي الكلمة العظيمة التي حولها يدندن كل الدعاة، الكلمة التي قامت بها السماوات والأرض، فإذا قيل: هم يحتاجون إلى الأخلاق الطيبة، ويحتاجون أن يدعو إلى ذكر الله، ويحتاجون أن يدعو إلى الآداب والمعاملات الحسنة، وأمور كثيرة جداً يحتاج أهل اليمن وأهل الكتاب وغيرهم إليها، والناس في كل زمان ومكان يحتاجون إليها.
    فنقول: لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدد، ولم يتركها لنا ولاجتهادنا، ولم يتركها لآرائنا أو آراء شيوخنا، بل حدد بقوله: { فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله } فهي أول الأمر وآخره.
    فإذا أردنا أن ندعو الناس فلنبدأ بشهادة أن لا إله إلا الله، وهنا يقول بعض الناس: الشهادة موجودة، وإذا كانت موجودة، فلننتقل إلى ما بعدها، والحديث بين لنا ما بعدها، فنقول: هل فعلاً هي موجودة ونتأكد؟
    لو كانت شهادة أن لا إله إلا الله موجودة حقيقة في هذه الأمة، وما ينقصها إلا الأخلاق أو الآداب أو المعاملات أو أي شيء، فهل سيكون حالها من الضعف والذل والهوان والانحطاط والفرقة كما هو حالنا الآن؟! مستحيل أبداً، لأن الله كتب العزة، والنصر والتوفيق والتأييد لأمة التوحيد، وكما تقدم في في آية الأنعام، أن الأمن والهداية لمن جاء بالتوحيد وحققه.
    أما الذنوب فلا يخلو مجتمع منها، ولكن لأن الأمر واقع، وهو أن التوحيد وحقيقة الشهادة ضعيفة أو قليلة بل مفقودة في بعض المجتمعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله تبارك وتعالى.
    فأول ما نبدأ به إذا ذهبنا إلى أي بيئة أو إلى أي إنسان؛ أن نخاطبه بهذا الشيء، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله } فكل واحد منا ينظر إلى نفسه، وإلى هذا الدين، وإلى حال المدعوين أجمعين، فدخولنا في هذا الدين بشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو رمزنا وشعارنا وعنواننا، وإذا أراد أحد أن يُسلم على يديك، فلا بد أن تبين له شهادة أن لا إله إلا الله وأن تدعوه لها، فهذا أول ما يدخل به الإنسان في الإسلام.
    وإذا جئت عند إنسان في الاحتضار في نهاية الحياة، وهو أن يسلم الروح، فإنك تعلمه وتلقنه شهادة أن لا إله إلا الله.
    فشهادة أن لا إله إلا الله هي أول الأمر وآخره، فأول ما نبدأ بشهادة أن لا إله إلا الله، وآخر ما ندعو إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وما بينهما كله دعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإن دعوت إلى صلاة أو زكاة أو أي شيء فلأنها من حقوق وواجبات ومكملات شهادة أن لا إله إلا الله.
    فإذا قلنا: إن أول شيء ندعو إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله، فكلمة أول هنا تحتمل معنيين كلاهما حق:
    المعنى الأول: بمعنى نبدأ بها قبل غيرها، كما نقول: أول شيء، بمعنى الذي لا يسبقه غيره.
    والمعنى الآخر: أول ما ندعو إليه، أي: أهم شيء ندعو إليه.
    فهي في الحقيقة الأولى وبها يبدأ، وهي الأولى أيضاً من جهة أنها أهم شيء، فشهادة أن لا إله إلا الله هي أول الأمر وآخره.
    وقال رحمه الله: وفي رواية: { إلى أن يوحدوا الله } وفي الحقيقة هي ثلاث روايات في هذا الحديث كلها صحيحة، وبعضها يشرح معنى بعض.
    ففي رواية: {إلى شهادة أن لا إله إلا الله} وفي رواية {إلى أن يوحدوا الله} وفي رواية {إلى أن يعبدوا الله} وهنا نستطيع أن نقول: إن هذا تصرّف من الراوي بالمعنى، والمعاني كلها حق، وكلها تدل على شيء واحد، فشهادة أن لا إله إلا الله، هي توحيد الله وهي عبادة الله.
    فإن دعونا إلى عبادة الله فمعناه أننا ندعو إلى التوحيد، وإن دعونا إلى التوحيد فمعناه أننا ندعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فكل هذه المعاني حق وكلها صحيحة، وأياً كان الأمر فلا اختلاف على الإطلاق بين هذه الروايات فالمعنى واحد، وهو البدء بالتوحيد وبالشهادتين.
    ثم أخبره وأمره بعد ذلك: { فإن هم أطاعوك لذلك } إذاً لا ينتقل إلى شيء بعدها، والمعركة تظل فيها هي، فمن دعوناه إلى شهادة أن لا إله إلا الله ولم يطع، فالأمر فيه ثلاث خيارات دائماً، عرضها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر قادة جيوشه بها، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم: إما الإسلام، وإما السيف،وإما الجزية، ولا يوجد غير هذه الثلاث.
    فلا يوجد أخوة إنسانية يختلط الكفار فيها بالمؤمنين، ويقولون: كلنا أسرة إنسانية، ففي شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يوجد بيننا وبينهم إلا السيف، والله تعالى ينصر من يشاء، وقد وعد وتأذن بأن ينصر عباده المؤمنين المتقين: ((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) [غافر:51] وقال تعالى: ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [الحج:40]
    فالإسلام إذا قبلوه فهذا هو المطلب الأساس، ولا حاجة حينئذٍ إلى جهادهم ولا إلى الجزية، بل لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
    فأولاً: الإسلام فإن قبلوه فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، فإن أبو الإسلام فالسيف أو الجزية.
    والجزية يدفعونها: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))[التوبة:29] بصغار وذل وخضوع والتزام لأحكام الإسلام، ولا يوجد مع الكفار غير هذه الأحكام الثلاثة،وحالة الصلح معهم أو العهد بيننا وبينهم حالة مؤقتة.
    لكن هذه هي الأحكام الأصلية الثابتة من حيث المبدأ، ويمكن أن نتصالح مع بعض الكفار فترة من الزمن، وهؤلاء يسمونهم المصالحين أو المعاهدين.
    لكن الأصل إن هذا الصلح ينتهي: إما إلى أن يسلموا، أو يكابروا ويعاندوا وينقضوا العهد فالقتال، أو يدفعوا الجزية.
    وهذه المعاملة ربانية إلهية،وهي التي يجب أن تكون بين المسلمين وبين الكافرين.
    وبعد أن نبين لهم التوحيد ويستجيبوا لكلمة التوحيد وللشهادتين، يكون البيان للركن الثاني.
    والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس عبثاً أن جعل أركان الإسلام خمسة، وأن يكون أولها الشهادتين، ثم ثانيها الصلاة، ثم ثالثها الزكاة، فهذه لحكمة أرادها الله تبارك وتعالى.
    وقد ذكر الله في القرآن؛ والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث هذه الأحكام مرتبة، يقول الله تبارك وتعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11] وفي الآية الأخرى يقول ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5] وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} وهذا الحديث يقول فيه: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة} فيوجد فرق في أن يكون الإنسان منا طالب علم، ووفقه الله أن يتفطن لهذا الشيء، وهذه الثلاثة بالذات، فيدعو إليها وبين أن يكون غير ذلك.
    وكما هو واضح أن هذا هو منهج الدعوة إلى الله، وبعض العلماء ذكر بعض الحِكَم في إيراد هذه الثلاث دون الصوم والحج،وليس هذا تقليلاً من شأن الصيام والحج، لأن الصوم كانت الدعوة إليه والأحكام المترتبة عليه أقل من الزكاة والصلاة؛ لأنه عبادة خفية وخاصة بالإنسان، وكل إنسان يستطيع أن يقول لك: أنا صائم، والحج لأنه مرة واحدة في العمر، فكان إجراء أغلب أحكام الإسلام لا يكون إلا بهذه الثلاثة: الشهادتين والصلاة والزكاة.
    فهذه هي أهم الأركان، ولذلك دعا إليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وأمر معاذاً رضي الله عنه أن يدعو إليها.
  4. التدرج في دعـوة الناس

    كلنا نريد الحق وهدفنا الحق في دعوتنا، ونرجو أن نكون مخلصين -إن شاء الله- جميعاً في دعوتنا إلى الله، لذلك نبدأ بما بدأ الله به، وندعو إلى ما دعا الله تبارك وتعالى إليه، في أسرتنا وفي مجتمعنا، وفي أي مكان نذهب إليه، فهذا هو منهج الدعوة، ندعو أولاً إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -مع الإخلاص- وعلى بصيرة، وندعو إلى أن يوحد الله، وألا يعبد إلا الله: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25] فهذه هي دعوة جميع الرسل الذين أرسلهم الله، وذكر الله تبارك وتعالى لنا في القرآن نوح، وهود إلى عاد، وصالح إلى ثمود وغيرهم،كلٌ منهم يقول لقومه: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))[الأعراف:59] إذاً هذا أول شيء، وهو أعظم ما ندعو إليه.
    ثم ندعو الناس بعد ذلك -في الأهمية والوقت- إلى أداء الصلاة، لأنه: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم بعد ذلك ندعوهم إلى الزكاة والأخلاق والآداب والمعاملات، ولا نقلل من أهميتها، ولكنها بعد ذلك.
    فالإنسان إذا وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق التوحيد، وعرف الله حق المعرفة، وصلى الصلاة كما أمر الله تبارك وتعالى، وزكى ماله وتصدق، هذا في الحقيقة لن يرتكب -بإذن الله تعالى- محرمات، وإن وقع فيها فهو على سبيل الخطأ العاثر، ولكن إذا تحقق لديه هذا الأصل فقد تحققت القاعدة القوية التي يبنى عليها إيمانه والتي يكون كل الأعمال محورها ومرجعها إليها.
    ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الصحيح- يرسل السرية من الجيش للجهاد في سبيل الله، فيأمرهم أن يذهبوا في الليل وينتظروا، فإن سمعوا الأذان وإلا أغاروا، وهذا من أحكام التعامل، أما إذا كان يأتي على بعض القرى حالات لا يؤذن فيها، أو أفراداً لا يجيبون داعي الله سبحانه فهذا شيء آخر، ولكن الكلام هنا في المجتمعات، فالمجتمع الذي لا يؤذن فيه، يستحق أن يجاهد، وأن يغار عليه،ولا يكفي اسم الإسلام وأن الإنسان مسلم، بل لا بد أن يَصْدق الإنسان إذا قال أنا مسلم، فيشهد أن لا إله إلا الله ويرفع بها صوته،وينادي بها،ويجتمعون في بيت الله لتحقيقها وأداء الصلاة.
    وإن كان الأمر غير ذلك فيجب أن يجاهدوا، ولو أن قوماً أقاموا الصلاة؛ ولكن تركوا الأذان وجب جهادهم على المسلمين على ترك هذه الشعيرة العظيمة، فيجب علينا أن لا نستهين كما هو الحال عند بعض الناس بالشعائر، ويجب أن نقدرها حق قدرها، فرفع كلمة الله، ورفع الأذان،والصدع بشهادة أن لا إله إلا الله في الآفاق، هذا مطلب وشعيرة عظيمة، والاجتماع في بيوت الله لأداء الصلاة شعيرة عظيمة أيضاً.
    فلا يقل الإنسان: الحمد لله أصلي بعض الأوقات في المسجد، وبعض الأوقات في البيت، فإن هذه مسألة أهم مما قد يتصور كثير من الناس، ولا نستطيع أن نوردها بالتفصيل فيما يتعلق بصفة أو بأحكام صلاة الجماعة، وصفة الأمة المؤمنة التي تقيم شعائر الله حقاً، كما أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.