المادة    
وهذه الوقفة سببها أن منهج الدعوة كله مُتضمَن فيها، لكن لا نستطيع الآن أن نوفي الآية حقها، ولكن سنشير إليها فقط إشارة لمناسبة ورودها في هذا الباب.
أولاً: في الجملة الأولى: يقول الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله وخيرته من خلقه؛ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام الدعاة، وسيد الهداة: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ))[يوسف:108] فيأمره ربه تبارك وتعالى أن يقول للناس ولكل من يصلح له الخطاب: (( هَذِهِ سَبِيلِي))[يوسف:108] أي: هذه طريقتي وقضيتي وشأني ووظيفتي ومنهجي.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا هو منهجه وسبيله وعمله ودعوته، وكل إنسان له منهج في هذه الحياة،وكل مخلوق، وكل بشر في هذه الدنيا له هدف يريد أن يحققه، وله منهج يسير عليه.
والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجز له ربه تبارك وتعالى منهجه وسبيله في هذه الآية، كما بين له في الآية الأخرى من أواخر سورة النحل: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125] فبين له هنالك كيفية الدعوة وأسلوبها.
وهاتان الآيتان إذا فقهناهما حق الفقه والمعرفة، نستطيع أن نعرف الدعوة غايةً وأسلوباً، دون أن نحتاج إلى منهج آخر من اجتهاد الناس أخطئوا أو أصابوا.
فالدعوة هي طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبيله، فهو ليس زعيماً ولا ملكاً سياسياً يريد أن يفرض سلطاناً، ولا صاحب أو طالب مال أو جاه أو شهرة، أو شهوة، كما يفعل أكثر الناس عادة، فالدعوة إلى الله تعالى هي عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهي تبعاً لذلك عمل من بعده، قال: (( وَمَنِ اتَّبَعَنِي ))[يوسف:108].
  1. الدعوة إلى الله وحده

    و نقف وقفة عند قوله: ((إِلَى اللَّهِ ))[يوسف:108] فكثير من الناس يدعون، بل في الحقيقة لو تأملنا فإنا لا نجد أحداً في هذه الدنيا إلا وهو داعية يدعو إلى شيء ما، فأنت لو جلست مع أي إنسان ستجد عنده فكرة سيطرت على فكره واهتمامه، فهو يدعو إليها، ويحب أن الناس جميعاً يكونون عليها، وكل إنسان له رأي، وله هدف، سواء كانت نظرته عامة، بحيث يخطط للعالم أجمع، أو نظرة محلية يخطط لمدرسته أو لقريته، أو لبيته وأسرته، المهم أن لديه منهجاً معيناً.
    فكل إنسان داعية، وكل إنسان يدعو إلى شيء ما، ولكن ميزة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعه أنهم يدعون إلى الله وحده لا شريك له، وكفى بالله تبارك وتعالى وكيلاً، وكفى به حسيباً.
    والدعوة إلى الله عنوان يدعيه وينتسب إليه كثير من الناس -غير الذين يدعون إلى ضلالات وشرك وإلحاد- ممن يدعون إلى الإسلام، وكلهم يرفعون راية الدعوة إلى الله، ولكن هنا يجب أن نقف ويجب أن نتأمل، كما ذكر الإمام رحمه الله تعالى في تعقيباته ورسائله: أن بعض الناس قد يدعو إلى نفسه.
    فكثيرٌ من الناس عنوانه الدعوة إلى الله، ولكن عمله دعوة إلى غير الله -نسأل الله العفو والعافية- وإن كان يدعي الدعوة إلى الله، فقد يدعو الناس إلى شيء غير الله عز وجل كأن يدعوهم إلى رأي ارتآه، ويرى أنه دين الله، وليس هو دين الله، أو إلى إمام وإن كان من أئمة الدين، أو إلى رأي معين، أو طائفة أو فرقة من الفرق، يدعو إليها ويجتهد في الدعوة إليها، ويقول: إنه يدعو إلى الله، وهو في الحقيقة يدعو إلى ما دعا إليه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} فكذلك من كان يدعو إلى الله، فدعوته إلى الله، ومن كان يدعو إلى غير الله فهو يدعو إلى ما دعا إليه، وإن لبَّس على الناس بأنه يدعو إلى الله.
  2. علامة الداعية إلى الله

    إن علامة الإنسان الذي يدعو إلى الله، هو أن يكون مؤمناً بطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متبعاً لسنته وسبيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله، فيهمه أكبر الهم ويسعى غاية الجهد؛ لأن يعرف الناس ربهم ويوحدونه، ويعبدونه، ولو لم يذكر هو أو لم يعرف، ولا يدعوهم إلى شيء غير الله، كائناً ما كان ذلك الشيء، بل إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    إن تكلم فحثاً على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن أمر فبما أمر به الله، وإن نهى فعما نهى عنه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهدفه وغايته هو ذات الله تبارك وتعالى، فهو يحب في الله، ويبغض في الله، وليس له هدف غير ذلك: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)) [يوسف:108].
  3. الدعوة إلى الله على بصيرة

    وهنا أيضاً وقفة قصيرة، عند قوله تعالى: ((عَلَى بَصِيرَةٍ))[يوسف:108] فالبصيرة من مقتضياتها العلم، والدعوة إن لم تكن على علم فليست على بصيرة قطعاً، والذي لا علم لديه فليس لديه بصيرة.
    ومع العلم أيضاً فقه الدعوة، ولا بد منه، فنعرف كيفية دعوة الناس، ومخاطبتهم وكيفية التعامل معهم، وهذا أيضاً من ضمن البصيرة.
    والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام، ضربوا لنا أروع الأمثال في منهج وأسلوب الدعوة إلى الله على بصيرة، ويشهد لحسن دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبصيرته أن آمنت به تلك الأمم، فآمن به كفار قريش بعد الجدال والمعاندة.
    فيأتيه الرجل الذي لا يعرف شيئاً من دين الله، ولا يفقه شيئاً من أمر الله، فيترفق به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبين له، كما فعل مع الأعرابي الذي بال في المسجد، وكما فعل مع معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة، وغيرها وقائع كثيرة.
    فكل من رأى هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو رأى الصحابة من بعده يحبهم، ويؤمن بما يدعون إليه، ويستجيب لهم إلا من كتب الله عليه الضلالة، فهم دعوا إلى الله على نور وبرهان وبالأسلوب الحسن الحكيم.
    ثم قال: (( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ))[يوسف:108] وفي هذا تنبيه وتوجيه لنا نحن أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه يجب أن نكون كذلك أيضاً، وأن تكون طريقنا وسبيلنا وهمنا الدعوة إلى الله، وهذا لا يعني أن نعطل أعمالنا، بل يدعو كل إنسان منا في واقع عمله.
    فالتاجر يدعو إلى الله في تجارته، والفلاح في فلاحته، والطالب في طلبه للعلم، والموظف في وظيفته، وكل إنسان يكون داعية إلى الله، ويكون سالكاً لمنهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  4. غاية الدعوة إلى الله

    ثم قال: ((وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[يوسف:108] في هذا تنزيه لله تبارك وتعالى، وهذا أمر عظيم وهو أن تنزه وتقدس الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[يوسف:108] وهو الخاتمة، البراءة والتبرؤ من الشرك ومن المشركين، فدعوتنا أولها الدعوة إلى الله، وخاتمتها -وهي معها دائماً- البراءة من الشرك والمشركين، وهذه هي غاية الدعوة.
    فغاية ما نسعى إليه دائماً هو تحقيق توحيد الله وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والبراءة من الشرك والمشركين.