المادة    
قول المصنف رحمه الله: '' وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} أخرجاه''.
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.
  1. حكم النطق بكلمة التوحيد مجردة

    ''قوله: من شهد أن لا إله إلا الله، أي: من تكلم بها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً -فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما- كما قال الله تعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) [محمد:19] وقوله: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[الزخرف:86].
    أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل -قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح- فغير نافع بالإجماع.
    قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب.
    وهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان.
    وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً ''.
    أقول: كلام العلماء رحمهم الله كثير في هذا الموضوع، كما سمعتم في كلام القرطبي وغيره أيضاً.
    والمقصود: أن حديث عبادة بن الصامت الصحابي البدري، أحد النقباء، الذين كانوا نقباء الأنصار رضي الله عنهم، ويكفي أنه شهد بدراً فضلاً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فليس وراء هذا الفضل من فضل إلا من كان أفضل من أهل بدر، كالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وهم من ضمنهم، ولكنهم أفضل.
    وفي هذا الحديث يحدث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمداً عبده ورسوله } ومعنى ذلك أن الجزاء في النهاية إدخال الله له الجنة على ما كان من العمل.
    والباب: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، فكلمة التوحيد هي التي بها يكفر الله تعالى الذنوب، ويدخل الإنسان الجنة، على ما كان من عمل، فهذه الكلمة أو الشهادة بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الإله المعبود لا شريك له، والشهادة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عبد الله ورسوله، هذه هي كلمة التوحيد، والذي يحقق التوحيد هو الذي يحقق هذه الكلمة.
  2. معنى وحقيقة كلمة التوحيد

    كل إنسان يقول كلمة التوحيد أو يدَّعيها من المسلمين، فهل المقصود بقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله) أي: من قالها ونطق باللسان قائلاً: لا إله إلا الله محمد رسول الله أنه يدخله الله الجنة على ما كان من عمل، أي: على أي عمل كان؟
    هذا -طبعاً- غير معقول عند المؤمن الذي يعقل عن الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال المؤلف: في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله } ليس المراد بها مجرد النطق، ولكن لا بد فيها من العلم واليقين، واستدل بقول الله تبارك وتعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ))[محمد:19]، فلا يكفي النطق، ولا يكفي أن يقول الإنسان أنا أشهد أن لا إله إلا الله،بل يجب عليه العلم أنه لا إله إلا الله، كما في الآية: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[الزخرف:86] أي: وهم يعلمون شهادة الحق.
  3. معنى كلمة: أشهد

    والشهادة أمرها عظيم، فكلمة الشهادة أو أشهد ليس معناها أنا أقول، أو أقرر، أو أظن، أو ربما!! ولننظر إلى الشهادة في أمور الدنيا، فأنت إذا ذهبت إلى المحكمة، وقلت للقاضي: يمكن وأتوقع أنه كذا فهل سيقبل شهادتك؟ لا. بل لا يسميها شهادة أصلاً.
    فما معنى الشهادة؟
    ورد في الحديث وإن كان فيه ضعف قال: {على مثلها فاشهد} أي: على مثل الشمس.
    فالشهادة تحتاج أن تكون جازماً ومستيقناً وعالماً بها، فعندما يقول العبد المؤمن: أشهد أن لا إله إلا الله، هذه الكلمة العظيمة، التي تعدل وترجح بالسماوات والأرض ومن فيهن غير الله، يجب أن يقولها عن علم ويقين وليس مجرد النطق أو التلفظ باللسان.
    وهذا الذي وقع فيه -مع الأسف- أكثر الناس، حيث ظنوا أن معنى أننا أمة التوحيد، وأننا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أننا نشهد أن لا إله إلا الله، وأننا نقولها باللسان فقط.
    فإذا سمع الواحد منهم من يحذر من الشرك، وينهى عن الشرك، فإنه يقول: هذه أعمال المشركين والكفار واليهود، وهذا يقول لا إله إلا الله! فنقول: هل كل من قال لا إله إلا الله يسلم من الشرك؟
    وهل كل من قال لا إله إلا الله يصبح له الأمن التام والاهتداء التام؟
    قول لا إله إلا الله له حالات:
  4. أحوال الناطق بكلمة التوحيد

    الحالة الأولى: إن كان في المعركة: كما في حديث أسامة رضي الله عنه، إن كنا في المعركة، نجاهد الكفار، ونقاتلهم ونحاربهم، فقال الرجل من الكفار: لا إله إلا الله فهل نقبل منه ونكف عنه؟
    فـأسامة بن زيد رضي الله عنه قتل رجلاً من المشركين في الحرب، بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد استعظم ذلك، واستفضعه: {أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟! فقال: يا رسول الله، إنما قالها يتعوذ بها من السيف} أي: لما رأى السيف يهوي عليه أراد أن يتعوذ بها عن السيف فقالها، فلم يكن قصده الإسلام، قال: {أشققت عن قلبه} فانظروا كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة ونبي الهدى يعلمنا أن لنا الظاهر في هذه الحالة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله فعلينا أن نكف، ونرفع عنه السيف.
    الحالة الثانية: في حالة الاستقرار: من نطقها فإننا نتركه يعمل، لكن هل نتركه يعمل ما يشاء، ونقول: قد قال ذلك اليوم لا إله إلا الله؟
    هذا الذي يظنه كثير من الناس اليوم، فيقول أحدهم: أنا ولدت من أب مسلم وأم مسلمة، والحمد لله، والمجتمع مسلم، وكلنا نقول: لا إله إلا الله، إذاً لا إله إلا الله تكفي وحدها!
    فنقول لهؤلاء: الدخول في الإسلام وإثباته وأحكام الإسلام شيء، وتحقيقه شيء آخر، يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى} وقد يكونون منافقين غير صادقين، لكن نحن لنا الظاهر.
    وفي الحديث الآخر: {من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا} أي: في الأحكام.
    فيجب أن نفطن وأن نفقه هذه الحقيقة، فبالنسبة للأحكام نجري أحكام الإسلام على كل من أظهر الإسلام وأظهر الشهادتين، بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأدى الصلاة وآتى الزكاة فهذا نجري عليه أحكام الإسلام.
    وبالمناسبة قد يقول بعض الناس: في حديث: {بني الإسلام على خمس} ذكر خمسة، وهنا ذكر ثلاثة: الشهادتين والصلاة والزكاة، فأين الركنان الآخران؟
    فيقال: يمكن أن يكون في نهار رمضان مفطراً لعذر، وقد يكون مفطراً ولا يدرى عنه، وأما الحج فلأنه مرة واحدة في العمر، فيمكن ألا يحج هذه السنة، ويريد الحج في التي تليها، ولذلك بنيت الأحكام الظاهرة على الأمور الواضحة الظاهرة، مثل الصلاة، فهي شعيرة واضحة وظاهرة لا بد أن تؤدى، والزكاة لأنها كل عام تؤخذ ويأخذها الإمام أو نائبه، فهذه تؤدى، فمن جحدها ولم يأتِ بها -وهي حق الإسلام- يعاقب بالعقوبات الشرعية المعروفة.
    فالمقصود أن من أقام الصلاة، وآتى الزكاة بعد الشهادتين، فهذا مسلم، نقر له بالإسلام، أي: له علينا الحقوق الشرعية.
    مثلاً: إذا مات علينا أن نغسله ونكفِّنه، ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين، فهذا حق له نعامله به، وإذا جاء إلى بيت المال -الذي جعله الله سبحانه للمسلمين عامة- فنعطيه منه، وهذا حق من حقوقه.
    إذاً له ما لنا وعليه ما علينا، لا نغشه ولا نظلمه فإذا قال أحد: هذا منافق وكذاب، وقد يكون عرفه في لحن القول، لكن ما لم يظهر ما يناقض هذا الأمر بأمر شرعي يستحق عليه العقوبة فنظل نحن نعامله ظاهراً على أنه مسلم، فإذا تزوج وعقد كان زواجه صحيحاً، وإذا باع فبيعه صحيح، ولا يمنع من دخول الحرمين، وأحكام المسلمين كلها تجري عليه.
    لكن المشكلة، أنَّا نخلط بين إجراء الأحكام وبين حقيقة الإيمان، فنجري له أحكام الإسلام نعم، لكن هل هو محقق للإيمان، كلنا ينظر إلى نفسه أولاً ثم إلى غيره.
  5. حقيقة الإيمان

    فإن تحقيق الإيمان يكون بأربعة أشياء: بقول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، ولا تكون شهادة أن لا إله إلا الله إلا بذلك، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، ويقولها بلسانه ويقولها بقلبه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال لا إله إلا الله يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه}.
    فهذه هي حقيقة الإيمان الذي ينجو صاحبه عند الله فعلاً، أما الذي ينجو من سيف المؤمنين في الدنيا -فقط- ونجري عليه أحكام المسلمين في الدنيا، لكنه لا ينجو عند الله فهو الذي يتلبس بالشرك، وهذا ليس فيه فائدة، وإنما نحن نتكلم في النجاة عند الله ظاهراً وباطناً.
    ويجب أن نعلم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله بلسانه فليس بمسلم، فمن لم يقر بلسانه بشهادة أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بمسلم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو كافر وهذا معلوم، ولكن ننبه عليه لوجود من شكك فيه وذكر فرقاً بينهما من الفرق.
    وكذلك يجب أن نعلم أنه لا بد من اعتقاد القلب: فقد كان المنافقون يقولون -إذا جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نشهد إنك لرسول الله، وهم أمام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنطق باللسان موجود، ولكن في الواقع شهد الله تبارك وتعالى عليهم أنهم كاذبون في شهادتهم، فهؤلاء لا تنفعهم الشهادة باللسان لأنهم لم يشهدوا بقلوبهم، فلا بد من شهادة القلب، بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتصديق القلب بذلك.
    إذاً الإيمان عندنا يتركب من أربعة أشياء: القول وعرفنا أنه قول باللسان، وقول بالقلب، ومعناه: الإقرار والإذعان والاعتقاد في القلب بأن الله تعالى واحد، وأنه المعبود المستحق للعبادة وحده لا شريك له، والاعتقاد بالقلب بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد الله ورسوله، وهذا هو الاعتقاد.
    ثم العمل: عمل القلب وعمل الجوارح، فما هو عمل القلب؟
    قول القلب هو: الإقرار والاعتقاد، أما عمل القلب فهو اليقين، والإخلاص، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والرجاء، والخوف، والإنابة، والصبر، والإخبات، والانقياد، والإسلام، والإذعان، والتسليم، والرضا بحكم الله وبقدر الله، إذن هذه هي أعمال القلب، وأعمال، القلب أعظم الأعمال وكل العبادات تتفرع منها.
    فلا بد من الإيمان القلبي الذي هو قول القلب وعمل القلب.
    ثم إن شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الكلمة العظيمة, التي نشترط أن تقال باللسان، وأن تقال بالقلب, بمعنى الإقرار والاعتقاد والتصديق، بالإضافة إلى عمل القلب والجوارح بمقتضاها، وبهذا يستكمل الإيمان، عندما نقول ذلك فإننا نريد أن نبين كيف نستكمل الإيمان، وأن نبين للناس معنى الإيمان في منهج أهل السنة والجماعة.