المادة    
والناس في ذلك درجات؛ لأن المؤمنين يتفاوتون ويتفاضلون، وليسوا سواء في الإيمان والتوحيد، فعندما خاف الصحابة الكرام، خافوا لأنهم يعلمون أن الإنسان لا يُصطفى ويُجتبى وليس له أمنٌ ولا اهتداء، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ))[فاطر:32] وهم الصحابة رضي الله عنهم والمؤمنون، وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامة، فهذه هي الأمة المصطفاة.
((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ))[فاطر:32] أي: الدين والقرآن والنبوة، أورثها الله تعالى بعد بني إسرائيل، وبعد من ضل وكذَّب وجحد من الأمم، هذه الأمة المصطفاة، التي اختارها الله واصطفاها، ولكن هذه الأمة المصطفاة على مراتب، فما هي هذه المراتب؟
وهذه المراتب هي: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ))[فاطر:32] وهنا يأتي إشكال، وهو: كيف تكون هذه الأمة المصطفاة ثلاثة مراتب؟ وهل ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الناس يكونون أصنافاً ثلاثة أو ما يشبه ذلك في آية أخرى؟
نعم. في قوله تعالى: ((وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً))[الواقعة:7] فحصل إشكال بين الصحابة، وليس بين الذين من بعدهم، في الثلاثة الأقسام التي في سورة فاطر، هل هي التي ذكرها الله تعالى في سورة الواقعة: ((وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً))[الواقعة:7] والأزواج الثلاثة التي في سورة الواقعة هم السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وهنا في هذه الآية هم: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ))[فاطر:32] ولن ندخل في تفاصيل الخلاف، لكن المهم أن من الصحابة من قال: إن الثلاثة هنا هي الثلاثة هناك، فإذن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي اصطفاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم الظالم لنفسه، وهذا هو الذي يقع في الشرك على هذا القول، والواقع في الشرك هم من أصحاب الشمال، ومنهم المقتصد وهم أصحاب اليمين، ومنهم سابق بالخيرات وهؤلاء السابقون في الواقعة، إذن الثلاثة هنا هي الثلاثة هناك، ولكن هذا قول مرجوح.
فعائشة رضي الله عنها لما سُئلت قالت: [[الظالم لنفسه مثلي ومثلك وهذا من تواضعها رضي الله عنها]] ومعناه: أن الظالم لنفسه هو المذنب المقصر، وحاشاها رضي الله عنها أن تشرك بالله أو أحد من الصحابة، أو أن تقرَّ بالشرك، لكن كلام عائشة رضي الله عنها هو الراجح، وإن كان ابن مسعود رضي الله عنه قال بالقول الأول، وذلك بدلالة الآيات التي بعد هذه الآية في سورة فاطر، لما قال الله تبارك وتعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ))[فاطر:32-36].
إذاً لو قرأنا الآيات فإننا نجد ولا سيما بعد أن ذكر الطائفة الرابعة: ((َالَّذِينَ كَفَرُوا))[فاطر:36] أن الصنف الرابع ليس من الثلاثة الطوائف، وليس من الأمة المصطفاة، لأنه قال: ((الَّذِينَ كَفَرُوا))[فاطر:36].
إذاً المؤمنون ثلاثة أصناف، والكفار صنف واحد، وهؤلاء لهم النار نسأل الله العفو والعافية.
فإذاً الأقسام التي في سورة الواقعة ثلاثة، لكنها في سورة فاطر تكون أربعة، وهؤلاء الأربعة نأخذهم بحسب الفضل:
  1. الدرجة الأولى: السابقون

    أولاً: السابقون -وإن كانت الآية قدمت أصحاب اليمين- وهم الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولا بالذنوب والمعاصي، فالسابق هو الذي يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنوافل بعد الفرائض، وهذا التفسير هو أحد المعاني للسابق وهو أجلاها، فهو كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه} فأعظم شيء نتقرب به إلى الله هو فرائض الله، وبعد ذلك: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} فالذين يأتون بالنوافل: كذكر الله، والصدقات، والصلوات، والجهاد النافلة، والإنفاق في فعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر النافلة، وقد أتى بما عليه من الواجبات، ولكنه يتطوع بهذا، فمن يأتي بالنوافل، ويجتنب الشبهات، ويتورع عن الحرام، فهو قد أتى بدرجة أعلى من درجة الالتزام بالحلال والحرام والواجب والمنهي عنه.
    إذاً هؤلاء هم السابقون.
  2. الدرجة الثانية: المقتصد

    ثانياً: المقتصد: وهو وسط، ليس من الظالمين لأنفسهم، ولا من السابقين بالخيرات. والمقتصد هو: الذي يأتي بالواجبات، ويجتنب المحرمات، لكن لا يزيد على ذلك بالنوافل، ولا يجتنب المكروهات التي إن تركها العبد فهو مأجور، وإن فعلها فهو غير آثم، فهذا درجة أقل، فهو إنسان مقتصد يعمل الطاعات، ويؤدي فرائض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقوم بما أمر الله، لكن لا يسابق ولا يسارع بالخيرات. ففرق بين إنسان يؤذن المؤذن فيكف عن عمله الذي بيده ويأتي إلى بيت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو إنسان إذا سمع ذكر الله جاء إليه من أي مكان، وسابق إليه، وزاحم بالركب، ليستمع ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليسارع بالخيرات، وهذا هو السابق، وبين من يؤدي ما افترضه الله عليه ويكتفي به، وما عدا ذلك يتركه للسابقين، فهذا هو المقتصد.
  3. الدرجة الثالثة: الظالم لنفسه

    ثالثاً: الظالم لنفسه: وهو الذي يترك بعض الواجبات -ولا نقول كلها- ويرتكب بعض المنهيات وبعض المحرمات.
    فهذه هي الأقسام الثلاثة،وهي في المؤمنين وفي أهل التوحيد، فكيف يكون أمنهم واهتداؤهم؟
    حتى نربط هذه الآيات بآية الأنعام التي هي موضوع الباب: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82].
    نقول: أكملهم أمناً واهتداءً هم: السابقون، ثم المقتصد، وأما الظالم لنفسه فهو على خطر، وإن كان له أمن، ونجزم نحن أنه سيحصل له بإذن الله، أما ما عدا ذلك فهو تحت مشيئة الله، فالأمن المؤكد له بما أنه موحد، والكلام هذا عن الموحد الذي اجتنب الشرك، أنه مجزوم ومقطوع له بأنه لا يخلد في النار إن دخلها، ولكن هل يأمن أول الأمر؟ وهل يأمن يوم الفزع الأكبر؟ وهل يأمن عندما تنشر الصحف؟ وهل يأمن عند عبور الجسر؟
    كله هذا الله أعلم به، فهو تحت مشيئة الله، لكن الشيء الذي نجزم به؛ أنه لا يخلد في النار، ولا يمكن أن أحداً من أهل التوحيد يخلد في النار -بإذن الله- إن دخلها.
    فهذا هو فضل التوحيد، فالباب: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وهذا فضل عظيم، وهو أقل الفضل الذي هو مقطوع به -وما قبله قد يأتي إن شاء الله أيضاً- لأن المؤمنين الموحدين لا يخلدون أبداً في النار، بل من دخلها يخرج بشفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبشفاعة الشافعين من الملائكة، وعباد الله الصالحين، والشهداء، وكل من أذن الله له أن يشفع، حيث يأمر الله تبارك وتعالى الملائكة أن يخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم مرة ثانية يأمرهم أن يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثالثة يُخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان.
    وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- هم أهل أمن في النهاية، ولكن بعد سكرات الموت، وبعد الحساب الشديد في القبر، وبعد الموقف يوم القيامة والأهوال، وبعد عبور الجسر والوقوع والسقوط منه في النار -نسأل الله العفو والعافية- بعد آماد الله يعلمها، وهذا خطر عظيم ولا شك؛ حتى لا نستهين بالذنوب.
    لكن نقول: التوحيد يظل له فضله وأهميته حيث أنهم في النهاية يخرجون.
    وهنا سؤال وهو: كيف يعرفهم الشفعاء، إذا أذن الله سبحانه للشافعين أن يشفعوا، فيخرجون أهل النار الموحدين منها، والنار فيها الكفار وفيها العصاة من الموحدين، فكيف يميز المؤمن من الكافر؟
    بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا فقال: {يعرفونهم بأثر السجود} فأثر السجود واضح في جباههم، وهذا يعني أن الذي لا يصلي لا ينجو، فعلى هذا الحديث وأدلة أخرى كثيرة -لكن نأخذ العبرة الآن من هذا الحديث- يكون تارك الصلاة الذي لا يصلي ولا يسجد لله، من أين له أثر للسجود؟ لا أثر فيه للسجود، إذاً فلا يعرف، ولا يشفع له الشافعون، وقد قال الله حاكياً مقالهم في النار: ((قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))[المدثر:43-48] نسأل الله العفو والعافية.
    فتارك الصلاة ليس بمسلم، وليس بمؤمن، ولا تنفعه شفاعة، فتارك الصلاة إذاً داخل فيمن لبس وغطى وشاب إيمانه بظلم، بمعنى الظلم الأكبر، وهو الكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا ليس له أمن ولا اهتداء مطلقاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهو مثل فرعون وهامان، ومثل عباد الأصنام، وعباد الطواغيت، مثله مثلهم، سواء بسواء، لا علامة للسجود لديه ولا أثر، ولذلك فإنه يُحرم من شفاعة الشافعين.
    أما أهل الشفاعة فهم أصحاب الذنوب التي دون ذلك، وإن كانوا متوعدين بالنار، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشفِّع فيهم، ما داموا من أهل التوحيد، ولم يصل بهم الذنب إلى ترك الصلاة أو إلى الكفر، وذلك كالذين توعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنار -في القرآن مثلاً أو في الأحاديث- من أصحاب الذنوب والمعاصي،كقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً)) [النساء:10].
    وكذلك ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) [الفرقان:68-69] إذاً الزنا من الذنوب المتوعد عليها بالنار وقتل النفس وشرب الخمر إلا من تاب، فنقول: من تاب من شرك أكبر، أو شرك أصغر، أو بدعة، أو معصية، ولو كانت ذنوبه تبلغ عنان السماء، أو مثل الجبال، إذا تاب، تاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه وغفر له، ولقي الله كمن لا ذنب له، لكن كلامنا فيمن يلقى الله وهو بهذه الحالة بدون توبة، فهؤلاء هم الذين يكونون من أصحاب الوعيد، بمعنى أنه متوعد بها، وقد يدخل وقد لا يدخل.
    فمثلاً: إنسان أكل مال يتيم، أو زنى، أو سرق، أو شرب الخمر، أو فعل أمراً موبقاً -كبيرة من الكبائر- فنقول: فاعل هذا الذنب متوعد بالنار، وهو من أهل الوعيد، لكن لا نقطع أو نجزم بأنه سيدخل النار، ولا نقول عن رجل معين: إن الله لا يغفر له، وإنه لا بد أن يدخل النار.
    لأن الأعمال يوم القيامة توزن عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحن لا ندري لعل هذا الإنسان له أعمال صالحة لا نعلمها، فنحن نعلم أنه فاعل لهذا الذنب، ولذلك نعظه ونخوفه بعذاب الله من هذا الذنب، وإذا عُلم أنه مات وهو مصر على هذا الذنب نخاف عليه منه، ونقول: إنه داخل في هذا الوعيد، لكن لا نعلم الحقيقة، لأنه قد يكون له صدقة لا نعلمها، وقد يكون له أمر بمعروف ونهي عن منكر نحن لا نعلمه، وقد يكون له محافظة على الصلاة... وهكذا.
    لأن الإنسان تجتمع فيه الطاعة والمعصية، وهذه من عجائب الإنسان.
    فرب إنسان مقيم لحدود الله، وفرائض الله، ومشتغل بطاعة الله، ويفعل فاحشة وموبقة -نسأل الله العفو والعافية- وهذا واقع.
    ورب إنسان وقعت منه هذه الفاحشة، واشتهر بها، وعرف عند الناس بها، وله طاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعلمها الناس، يتقرب بها ويعملها، فربما في الميزان ترجح هذه الطاعة بتلك المعصية، مثل البغي الزانية من بني إسرائيل التي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصتها، والتي غفر الله لها لأنها سقت الكلب، ففي كل ذات كبد رطبة أجر، فأي مخلوق وأي حيوان له كبد؛ حتى وإن كان الكلب فيه أجر الصدقة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فهذه بغي زانية، لكنها لما رأت الكلب يلهث، أخذت خفها وملأته بالماء وسقته فشكر الله لها وغفر لها، سبحان الله!
    فالزنا لا تخفى شناعته وبشاعته: ((إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً))[النساء:22] لكن مع الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصدقة أو باستغفار أو بذكر أو بعمل من أعمال الخير، قد لا يلقي له الإنسان بالاً، أو كلمة حق قد لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وتكفر عنه من الخطايا والذنوب ما لا يخطر له على بال، كما إن الإنسان قد يقول الكلمة من سخط الله، ومن غضب الله، لا يلقي لها بالاً كاستهزاء بالدين، أو استهزاء بأهل الدين تهوي به في النار سبعين خريفاً -نسأل الله العفو والعافية-.
    فنقول: مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يرجون للمحسن الثواب، ويخافون على المذنب والمسيء العقاب، لكن لا يقطعون لهذا بالجنة ولا يقطعون لهذا بالنار، إلا من جاء الدليل صريحاً فيه أنه من أهل النار، فنقطع له بذلك، أما الباقون فنرجو للمحسنين منهم الثواب، ونخاف على المسيئين منهم العقاب.
    فإذاً عرفنا أن هؤلاء الثلاثة: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82] فهؤلاء لهم نصيب من الأمن إن شاء الله، والفضل كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن وفقهم للتوحيد، وحصول الأمن إما كلياً أو جزئياً سببه التوحيد، وأنهم ليسوا من أهل الشرك.
    أما من كان من أهل الشرك، وأشرك بالله الشرك الأكبر، فهذا باتفاق أهل السنة أنه لا أمن له ولا اهتداء.
  4. الكلام على تسمية بعض السلف الذنوب شركاً

    وبقيت القضية الأخيرة التي ذكرها شَيْخ الإِسْلامِ وهي أن بعض السلف لم يحصروا اسم الشرك في الشرك الأكبر، فالذي يشرب الخمر -وهذا ليس مشركاً ولا يسمى مشركاً بمجرد أنه يشرب الخمر أو يزني أو يرتكب أي محرم- يسميه بعض السلف مشركاً، باعتبار أنه اتخذ إلهه هواه، ويعدون ذلك نوعاً من الشرك.
    وهذا بلا ريب أنه يجرح ويقدح في كمال توحيده، لأن الموحد التوحيد الكامل لا يأتي منه هذه الفعال، فالذي يفعل ذلك فإنه يقدح في كمال توحيده وإيمانه، فلذلك بعض السلف يسمي اتباع الهوى شركاً، ويقول: إنه من الشرك، فعلى هذا المعنى يكون شركاً أصغر، ويقابل عندنا نحن الظالم لنفسه، فيبقى أن كلمة الشرك في محلها، وإن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {ليس بذاك} أي: ليس الشرك، ولكن فهم السلف الصالح، أنه الشرك، وليس الشرك الأكبر الذي حذر منه لقمان عليه السلام ابنه، ولا ريب أنه أعظم شيء، وهو المحبط للعمل، أما ما دونه من المعاصي وإن كان يحذر منها؛ لكنها شرك أصغر، فعلى هذا يكون الظلم في هذه الآية: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ))[الأنعام:82] يمكن أن يفسر بأنه ثلاثة أنواع، كما تقدم في كلامه رحمه الله.