المادة    
إن الله تعالى قد ميَّز الإنسان، وأذن له، وجعل له الأرض ذلولاً، وأمره أن يمشي في مناكبها، وأن يأكل من رزقه، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))[الملك:15].
أي: أنه يجب أن يكون السعي في هذه الأرض موافقًا لأمر الله؛ فلتتجدد هذه الوسائل ما شاءت.
المهم أن الإنسان يكون قلبًا وقالبًا خاضعًا لأوامر الله تبارك وتعالى.
فلا تُذَمُّ اللذة أو حب الخير أو حب النفع؛ بل أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحرص على ما ينفعنا، ونحمد الله تبارك وتعالى أن ديننا كذلك، فما من خير إلا ودلنا عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما من طيبة إلا وأحلها الله تبارك وتعالى في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

إذًا: ما الذي حرم علينا؟
وما الذي منع عنا؟
وما الذي نهينا عنه مهما تغيرت الأزمان والعصور؟
إنه ما حرم الله تبارك وتعالى، فلا يعني ذلك أنه: إذا كانت الخمر تشرب من العنب أو من الشعير، وتصنع منه بطريقة بدائية في أواني من الفخار فهي حرام، فإذا صنعت في زجاجات فاخرة، وختمت بالشمع أصبحت حلالاً! لا والله!
أو أن المرأة إذا كانت بدوية، أو متنقبة في البادية، أو في الخلاء، أو في القرية، فحرام أن ننظر إليها، وحرام أن يخلو بها إلا ذو محرم؛ فإذا كانت متعلمة أو مثقفة في المدينة، أو في أية وسيلة من وسائل الإعلام... أصبح النظر إليها حلالاً لا والله! فالوسائل تتغير، وتتجدد، ولكن الحكم لا يتغير ولا يتبدل؛ واللذة أو المنفعة لا تأتي في هذا الجانب.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فطر الإنسان على طلب الخير ولذة الخير؛ ولكن ما الضابط؟
وما المرجع؟
وما المعيار الذي نعرف به هذه اللذة النافعة من اللذة الضارة؟
  1. شرع الله لا يتغير

    إن الأشجار وهي أشبه بالجماد، تتجه عروق الشجرة إلى جهة الماء، وتتجه -أيضاً- أغصانها إلى جهة الضوء، لماذا؟! تريد أن تحيا، وتريد أن تنمو؛ فهل هذا يضير؟ لا ضير في ذلك، وكذلك الإنسان يريد أن يتغذى، فهل حرَّم الله تعالى عليه ذلك؟ لا! الإنسان يريد أن يتزوج، يريد هذه الرغبة الجنسية، فهل حرمها الله؟ ليس في ديننا رهبانية. الإنسان يريد أن يُمتِّع ناظريه ويرى، فهل حرم الله ذلك؟ فأية طيبة لم يحرمها الله تبارك وتعالى في أي عصر وفي أي وقت. والذي جعله الله تعالى معيارًا للتمييز بين النافع وبين الضار من هذه الملذات ومن هذه الشهوات، هو أن نتبع ما شرع الله تبارك وتعالى، فإذا اتبعنا أمر الله، ووقفنا عند حدود الله، وتمتعنا بالطيبات التي أحلها الله؛ ففي ذلك الغنية كل الغنية عما حرم الله، وفي ذلك السعادة والطمأنينة والأمن والراحة والرخاء للمجتمع، وللأمة بأسرها، وللعالمين أجمعين.
  2. الشرع به يحيا العباد

    إننا إذا خرجنا عن حدود الله عز وجل، ورأينا أن ذلك يحقق لنا مصلحة أو دنيا أيًا كانت؛ فهو الشر وهو الوبال -كما ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك المثل في القوم الذي ركبوا السفينة واستهموا، فكان قوم في أسفلها وقوم في أعلاها، فقال الذين هم في أسفلها: إذا أردنا الماء نصعد إلى الأعلى ثم نستقي، لماذا والماء قريب منا؟
    هلاَّ خرقنا من هاهنا وأخذنا الماء! فيرجع الأمر إلى الذين في أعلاها، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا، عافانا الله وإياكم من الهلاك.
    فالإنسان كونه يطلب الشيء لا مانع، لكن يطلبه من الطريق المشروعة؛ فلا تقل: أنا أريد أن أمتع ناظري بما أشاء من هذه الوسائل الجديدة.
    ولا تقل: أريد أن أمتع سمعي بما أشاء من هذه الوسائل الجديدة.
    لا تقل: العصر قد تغير! نعم العصر يتغير، والزمان يمر ويمر؛ ولكن دين الله تبارك وتعالى باقٍ، وأنت عبد؛ عبدٌ إن خلقت قبل قرون أو إن وجدت بعد قرون أو في هذا الزمن، فأنت عبد له تبارك وتعالى، ولا تخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى، ولا تخرج عن شرع نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تبارك وتعالى إنما جعل هذا الدين وهذا العقل ليميز الإنسان به في حياته، جعل له نبراساً ومنهاجًا، فلو وكل الله تعالى الأمر لعقولنا لما اتفقنا على شيءٍ أبداً.
    انظروا إلى العالم الغربي الذي يتخبط! تجدون التخبط العجيب في حياتهم!
    لأنهم لا يملكون الميزان، ولا يملكون المنهاج الذي يسيرون عليه، وكلما تغير الزمن؛ تنمو العقول... فهذه أخلاق العصر الزراعي، وهذه أخلاق العصر الصناعي، فالمرأة في العصر الزراعي تعمل مع الرجل في المزرعة، ويملكها رجل واحد فقط، والمرأة في العصر الصناعي من أخلاقها أنها تخالط الرجال، وتسهر كما تشاء، وتظهر كما تشاء، وتتبرج كما تشاء! لماذا؟!
    قالوا: العصر تغير! فالأول عصر زراعة، وهذا عصر صناعة؛ فجعلوا الذي يغير الأخلاق ويغير ما تعارف عليه الناس من قديم، بل ما نزلت به الشرائع من عند الله تبارك وتعالى هو: حالة الإنسان الدنيوية، ونحن الآن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه}، وفي رواية للإمام مالك رحمه الله قال: {لو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه} عياذًا بالله.
    أي: أن ذلك من شدة اتباعنا لهم؛ وهذا ما يحصل الآن أو ما يراد أن يحصل أن نتبع الغرب وأن نغير ما شرع الله، أو نعرض عما أنزل الله، بحجة أن الزمن قد تغير، وأن العصر قد تبدل.
    فلنحرص جميعًا على أن نزن أمورنا وأعمالنا ومعتقداتنا وأحكامنا وآراءنا ومناهجنا وطرائقنا ووسائلنا وغاياتنا؛ نزنها جميعًا بما أنزل الله تبارك وتعالى؛ ففي ذلك الهدى كل الهدى، وهذا هو الاتباع الذي بغيره لا نكون مؤمنين أبداً.
    يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65].
    فهذا هو الذي يحقق لنا الإيمان والانقياد والإذعان لأمر الله من غير منازعة ولا معارضة ولا مدافعة؛ وإنما هو التسليم والانقياد فورًا، كما كانت الخمر حلالاً، فأنزل الله تبارك وتعالى تحريمها، ثم قال: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)) [المائدة:91]، قالوا: انتهينا انتهينا! وجرت أزقة تظلل بالخمر من دون رقابة ولا هيئة ولا تفتيش، إلا رقابة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي في القلوب، وكما كان الرجال والنساء يختلطون، وينظر بعضهم إلى بعض، فلما نزلت آية الحجاب، فإذا بنساء الصحابة يخرجن كأنهن الغربان، لا يرى من الواحدة منهن قيد أنملة؛ حتى أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى إحدى أمهات المؤمنين فقال: قد عرفناكِ يا سودة.
    يقول: قد عرفناك، أي: ما دمنا عرفناك؛ فإذًا لست متحجبة -مع أنه لم يرَ منها شيئاً- ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقره على ذلك؛ وإنما أخبر أنه إذا استترت المرأة فإنه يجوز لها أن تخرج لحاجتها -كما كانت أم المؤمنين خارجة لقضاء حاجتها- فنجد أنه ما من أمر ينزل من أوامر الله إلا ويلتزم به فورًا، وهذا هو الإيمان حقيقة.
  3. ذلة المخالفين للشرع

    ولقد منَّ الله تبارك وتعالى على ذلك الجيل من أولئك الصحابة، ففتح لهم الأرض وسخَّر لهم خزائن كسرى وقيصر، حتى أنفقوها في سبيل الله تبارك وتعالى، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} وأنفقت، لأن من حقق العبودية لله جعل الله تبارك وتعالى عباده الآخرين عبيدًا له، فجاءوا بأبناء الملوك مصفدين بالحديد، وهم لهم حضارات ولهم وسائل ولهم.. ولهم من التطور والتقدم ما لهم، ولكن!
    إذا عصينا الله عز وجل؛ فإننا نهون عليه تعالى، حتى يسلط علينا أولئك، فنكون عبيدًا لهم عافنا الله وإياكم.
    ولهذا لما جيء إلى أحد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض الأسرى -وكانوا من قبرص أو من بعض بلاد الروم- فرآهم عظاماً ضخام الجثة ومن الروم والعرب كانوا يهابونهم، فلما رآهم بكى.
    قيل: لِمَ تبك؟!
    أتبكي وقد أعز الله الإسلام وجاء بهؤلاء القوم عبيدًا مقرنين بالسلاسل؟!
    قال: إني لا أبكي أن الله تعالى أعز الإسلام، ولكني أبكي أنني رأيت قومًا عصوا الله عز وجل فهانوا عليه، فجيء بهم هكذا بعد العزة والمنعة، وإنني أخشى أن نعصي الله عز وجل فنكون عليه أهون من الجعلان! نعوذ بالله!
    وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة فيما بعد، هانت على الله عز وجل، فسلَّط عليها التتار والصليبيين، وسلَّط عليها المستعمرين من كل حدب وصوب، حتى ترجع إلى دينها.
    فالذل مرتبط بالمعصية، والعزة مقترنة ومرتبطة بالطاعة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يعزه الله تعالى بطاعته، ولا يذله بمعصيته، إنه سميع مجيب.