المادة كاملة    
ما زال الحديث في هذا الدرس يبرهن بالأدلة الواضحات من قرائن وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، وبعدها جاء رد ما اشترطه المتكلمون في إثبات نبوة النبي، مع بيان أن الله سبحانه وتعالى أقام من الدلائل ما يدل كل ذي عقل ولب على صدق الأنبياء. وفي الأخير ورد الحديث عن أن إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
  1. موقف هرقل من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    جمع هرقل أتباعه، وحاشيته، ومن يهمهم هذا الأمر من رؤساء الروم، ومن رجال السياسة، ورجال الدين، جمعهم جميعاً في مكان واحد وأوصد الأبواب، وقدم لهم وليمة، ثُمَّ فاتحهم في موضوع مهم وخطير، وعرفوا خطورته من خلال هذا الاجتماع الكبير الطارئ، وكان الإيمان قد وقر في قلب هرقل، وكانت دلائل الحق قد سطعت من أخبار النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي جَاءَ بها ذلك الكتاب، والتي سمعها من فيِّ أبي سفيان.
    1. ويستيقظ إيمان هرقل

      ولم يكن أمام هرقل إلا أن تستيقظ وتصحو، لكن الأمر لم يصل إِلَى حد الإيمان الذي يدفع بصاحبه لأن يبيع كل عرض من أعراض الدنيا لهذا الدين، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختص برحمته من يشاء.
      فـهرقل لما جمعهم قَالَ: إن أمر هذا النبي قد ظهر، وإنه نبي حقاً، وإنه النبي الذي أخبرت عنه التوراة والإنجيل، وقد كتبت إِلَى صاحب روميا وصاحب روميا هو عادة يكون البابا الأكبر أي: أكبر رجل في الدين النصراني.
      وخاصة في المذهب الكاثوليكي الذي يقطن حالياً في روما في الفاتيكان- وقد صدق بهذا النبي، وأرى أن ندخل في دينه وأن نسلم جميعاً ونتبعه.
      فلما قال ذلك وجدها الأتباع كلمة ثقيلة جداً عليهم، ورأوا أنهم بين أحد أمرين: إما أن يدخلوا في الإسلام، وهذا شيء لا يريدونه ولا يطيقونه، ولا سيما من كَانَ منهم في منصب وفي مرتبة دينية عظيمة، فإنهم يتوقعون أن يفقدوها إذا آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحتاروا بين ذلك وبين أن يعلنوا مخالفتهم لـهرقل، فربما أسلم وأخذ بالقوة والعزيمة فيقتلهم، أو تكون فتنة بينه وبينهم، فحاصوا وخرجوا مندفعين إِلَى الأبواب؛ ليفروا من هذا الاجتماع، ولينفضوا من هذا اللقاء.
      ولكن هرقل كان قد أوصد الأبواب فلم يجدوا منها منفذاً، ولما رأى أن الأكثرية قد هربت وذهبت إِلَى الأبواب لتخرج منها، وهو في القلة التي لو آمنت لما كَانَ لها دوراً وقيمةً.
      آثر هرقل الدنيا عَلَى الآخرة، واختار الكفر عَلَى الإيمان، واختار المنصب والملك عَلَى الهداية والرشاد.
      فَقَالَ لهم: عودوا عودوا، إنما قلت ذلك لأختبر إيمانكم، واختبر قوة عقيدتكم، فما دمتم بهذه القوة فلا نزاع، فرجعوا جميعاً، وترك الموضوع، وذهب في موضوع آخر.

      ومع ذلك بقي في نفس هرقل أن هذا النبي عَلَى حق، وأنه سوف ينتصر؛ ولهذا لما جاءه جيش أبي عبيدة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ودخلوا إِلَى دمشق، وتقدموا إِلَى حمص خرج هرقل، وقد كَانَ فيها وقَالَ: سلام عليك يا سوريا! سلام لا لقاء بعده.
      لأنه كَانَ يعلم أن ما قال لـأبي سفيان: {ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين} سوف يتحقق.
      ثُمَّ رحل من سوريا وتركها - وهي بلاد الشام، وأما صاحب رومية الذي كَانَ يعتبر القسيس الأعظم فإنه دخل في الإسلام، وأعلن إسلامه أمامهم، فتناوشوه بالسيوف وقطعوه، فكانت شهادة له عند الله بإذن الله.
      فهذا آخر ما آل إليه الخبر
      .
      والشاهد منه أننا نعلم أن هذا العدو -الإمبراطور عظيم الروم- أسلم وآمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلال ما يعرفه من صفات النبوة التي جاءت في الكتب المنزلة، والتي طابق وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها.
      مع أن هرقل لم يرَ آية من آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ انشقاق القمر، ولم يرَ الماء وهو ينبع من بين أصابعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ الطعام وهو يفرغ من القدر فيكفي المئات بينما هي طُبخت لأفراد، ولم يرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعطي سهمه في الحديبية، ويوضع في البئر فإذا الماء يفور منها.
      وغيرها من الآيات البينات التي أعطاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرها هرقل.
      وإنما جاءه هذا الكتاب فقط، وفيه دعوة موجزة إِلَى التوحيد، فطابق بين ذلك وبين ما وصفه به أبو سفيان عدوه في ذلك الحين، فرأى أن هذا هو النبي حقاً.
      فالشاهد من هذا أن العلم بالنبوة وثبوتها، أو العلم بأي قضية أو بأي مسألة من مسائل الاعتقاد لها في الإثبات طرق يحصل بها اليقين، غير الطرق التي يقولها المتكلمون.
  2. المعتزلة يضعون ثلمة في دين الإسلام

     المرفق    
    والطرق التي يثبت بها المتكلمون النبوة إما أنها معجزة، أو آية مشاهدة خارقة، أو أنها تواتر ينقله جملة عن جملة عن جملة. وقد جَاءَ في السير أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرسل إِلَى هرقل إلا رجلاً واحداً وهو دحية الكلبي، وفي السير وفي كتب التاريخ اختلاف في إرسال دحية الكلبي، هل أرسله مرتين أو مرة واحدة؟
    وهل جاءه إِلَى بصرى ثُمَّ ذهب إِلَى الشام؟
    وهل هي واقعة أو واقعتين؟
    المهم أنه رجل واحد أرسله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
    ولو فرضنا أنه أرسل اثنين أو ثلاثة لما كَانَ ذلك يبلغ مبلغ التواتر الذي يشترطه المتكلمون.

    إن أول من جَاءَ بهذه الثلمة ووضعها في دين الإسلام، وأراد أن يفسد بها عقائد الْمُسْلِمِينَ، هم المعتزلة.
    خاصة اثنان من علماء المعتزلة:
    الأول منهما: أبو الهذيل العلاف.
    والآخر هو: إبراهيم النظام.
    1. النظام والعلاف أرادا هدم الدين

      فـالعلاف والنظام أرادا أن يهدما دين الإسلام، وقد كَانَ النظام برهمياً عَلَى دين الهنود فأراد أن يهدم ملة الإسلام، فأعلن الإسلام ودخل فيه وتفلسف، ثُمَّ مال إِلَى المذهب المسمى بالاعتزال الذي أسسه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كما سبق شرح ذلك فيما مضى.
    2. النظام والعلاف يركبان في مذهب الإعتزال مبادئ فلسفية

      ورث العلاف والنظام الاعتزال من واصل ومن عمرو بن عبيد وركبا فيه مبادئ فلسفية، أخذوها من الصابئة ومن فلاسفة الهنود ونحو ذلك، وكان من فلسفة الهند أن البشر لا يحتاجون إِلَى الأنبياء، فـالبرهمية ينكرون النبوات.
      حتى أنهم يقولون: إن بوذا الذي ينتسب إليه اليوم أكثر من خمسمائة مليون وهم عَلَى دينه البوذية ليس بنبي، وكذلك (تفنييوس) الذي يُنسب إليه أهل الصين إلى اليوم يقول أتباعه: إنه ليس بنبي، وإنما هو رجل مصلح، ورجل حكيم فقط.
      فهم ينتمون إِلَى دين ينكر النبوات ولا يثبتها. ويقولون: إن الحكمة العقلية يستغنى بها عن ذلك.
      والنظام كَانَ في الأصل من هَؤُلاءِ القوم فجاء إِلَى دين الإسلام، وأراد أن يهدم النبوة ويهدم دلائل النبوة ولكن بطريقة خفية، فقَالَ: لا يمكن إثبات نبوة النبي إلا بالمعجزة.
      وآية خارقة يفعلها، وهذه المعجزة أو هذه الآية لا تثبت إلا بالتواتر، ثُمَّ بعد ذلك اختلفوا في تحديد التواتر، فَقَالُوا: سبعين عن سبعين عن سبعين شخص، واختلف المعتزلة بعد ذلك، فَقَالَ بعضهم: ثلاثين، وقال بعضهم: عشرين.
      ولو طبقنا هذا عَلَى ما جَاءَ في السنة من الآيات الحسية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا قد لا نجد هذه الأعداد؛ لكنهم يريدون بهذا أن يتوصلوا إِلَى هدم الدين ولكن من بعيد،
      وبستار خفي.
      ولقد تنبه علماء الإسلام إِلَى ذلك، وكفروا هَؤُلاءِ.
      وقد اخترع النظام والعلاف أموراً كثيرة تدل عَلَى أن كلاً منهما لم يكن يؤمن حقاً بدين الإسلام، وإنما كَانَ غرضه الهدم، فحصروا معرفة النبوة وحصول اليقين في التواتر فقط، وإلا فما عند الحكماء وما عند الفلاسفة يغني عن النبوة.
    3. الرد على ما اشترطه المتكلمون في باب النبوة

      لو أن عاقلاً فكر في كلامهم هذا لوجد أنه بالإمكان أن نرد عليهم ببساطه جداً، وذلك أن ما ورثه النظام والعلاف-ثُمَّ من تبعهم من المتكلمين من أشعرية وغيرهم- من طريق الفلاسفة، كيف ثبت لديهم؟ وكيف وصل إليهم؟
      هذا هو السؤال الذي يوجه إليهم، فنسألهم ونقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي في السنة العاشرة أي: أن بينه وبين عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء حوالي مائة سنة فقط، ومائة وخمسين أو مائة وستين سنة بينه وبين العلاف والنظام، لكن كم بين العلاف والنظام وبين أرسطو وأفلاطون؟! قرون طويلة، مئات من السنين.
      وما كتبه أرسطو وأفلاطون كتبوه بلغتهم، وهذه اللغة ترجمت، ثُمَّ ترجم من الترجمة أحياناً ثلاث ترجمات أو أربع حتى وصل إِلَى اللغة العربية التي كَانَ العلاف والنظام يقرؤون بها، فلم تصلهم بالسند، ولم تصلهم بنفس اللغة التي كتبوها، ومع ذلك يقولون: هذه عقليات، وهذه قواطع، وهذه يقينيات!!

      أما النصوص والأحاديث النبوية التي جاءت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعتبرونها من قبيل أخبار الآحاد فلا تثبت!!
      فلو أن العاقل تدبر هذا لعلم أنهم مجرد هدامين هذا أمر.
      والأمر الآخر أن القُرْآن -ولله الحمد- قد ثبت بالتواتر الذي لم يقع لأي كتاب في الأرض عَلَى الإطلاق، فالآلاف ترويه عن الآلاف، فلو أن هَؤُلاءِ القوم تهمهم مسألة التواتر والآحاد لآمنوا بما جَاءَ في القُرْآن كله، ثُمَّ نناقشهم في السنة؛ لكنهم يقولون: القُرْآن يصرف عن معناه إِلَى معاني مجازية، إِلَى التأويل.
      والسنة غير متواترة، والمتواتر منها في نظرهم إذا كَانَ موجوداً يعامل معاملة القُرْآن يصرف بالمجاز وبالتأويل، إذا عَلَى قولهم هذا لم يبقوا كتاباًً ولا سنة، المتواتر أولوه والآحاد ردوه، وعليه فليس هناك وسيلة للعلم الشرعي؛ بل إن وجود القُرْآن والسنة عَلَى هذا الحال حسب كلامهم يصبح عائقاً بين النَّاس وبين الحق والعياذ بالله؛ لأن النَّاس كَانَ في إمكانهم أن يأتوا إِلَى ما كتبه أرسطو وأفلاطون والعلاف والنظام، ويأخذوا الحق منه مباشرة.
      فجاء القُرْآن وجاءت السنة فأشتغل النَّاس بتأويل هذا ورد هذا فكان مشغلة، وكان حاجزاً بين النَّاس وبين الحق عَلَى كلام هذين الخبيثين وأمثالهما.
      فمن هنا تعلم القضية التي أشار إليها المؤلف أن العلم اليقيني والعلم الضروري يحصل بطرق أخرى كثيرة.
    4. النبي يرسل إلى ملوك الأرض آحاداً من الناس

      إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إِلَى ملوك الأرض آحاداً يبلغون النَّاس الدين، فلو أن كل أمة جاءت وقالت: لا نؤمن ولا نصدق بأن هذا الكتاب من عنده إلا إذا جاءنا من سبعين عن سبعين إِلَى آخره لكان هذا جنوناً في عقولهم، قبل أن يكون تكذيباً للرَسُول الذي أرسل هذا الرسول.
      وهذا أمر معروف لدى سائر البشر حتى اليوم، فإن لديهم علامات، ولديهم قرائن للحق غير التواتر.
      فلو أن النَّاس أخذوا هذا المبدأ، وَقَالُوا: لا نتعامل إلا بما ينقله جمع عن جمع لكلف ذلك شططاً، ولكنت تحتاج إذا أردت أن تشهد عَلَى قضية أو تكتب عن مسألة أن تشهد عليها سبعين أو عشرين، كما اشترط هَؤُلاءِ المتكلمون، ثُمَّ بعد ذلك يكون اليقين.
      وهكذا فالعاقل إذا تأمل ذلك يجد أنهم مجانبون للصواب بوضوح، وإنما كَانَ قصدهم زندقة وهدم لدين الإسلام، ولذلك ينبه المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى شيء من كيفية حصول العلم وكيفية حصول اليقين في القلوب.
    5. بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشغل أذهان كفار زمانه وعقولهم

      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها؛ لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر.
      وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثُمَّ الآخر يقويه، إِلَى أن ينتهي إِلَى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة عَلَى الصدق والكذب ونحو ذلك] اهـ.

      الشرح:
      يذكر المصنف: أن هناك قرائن وأموراً تجتمع في أي قضية فتحولها إِلَى يقين، وضرب أمثلة بحال الإِنسَان في الأكل والشرب وغير ذلك.
      فالإِنسَان إذا أكل شيئاً من الطعام حصل له شيء من الاكتفاء، فإذا أكل كثيراً حصل له الشبع التام هذا في المحسوسات.
      وكذلك اليقين في الأخبار العادية، فإنه إذا حدثك رجلٌ أن أمراً ما قد حدث، فإنه سيحصل عندك نوع من العلم بأن هذا الأمر قد وقع فعلاً؛ لكن لو حدثك آخر ثُمَّ آخر، ثُمَّ قرأته في كتاب، ثُمَّ سمعت النَّاس يتحدثون عنه، لحصل لديك به علم يقيني.
      بحيث لو جاءك إنسان آخر وقَالَ: هذا الكلام كله لم يحصل ولم يقع، فسيكون لك ردة فعل عَلَى هذا الكلام، ولا يمكن أن يدفع ما ثبت عندك يقيناً.

      وهكذا كَانَ حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناقلت الركبان أخبار بعثته كما في حديث أبي ذر الغفاري المعروف الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم فإنه لما سمع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج، أرسل أخاه فَقَالَ له: ائتني بخبر هذا الرجل الذي قد خرجَ، والقصة معروفة.
      وغيرها كثير ممن سمع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج، أو في أسواق العرب التي كَانَ يغشاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبلغ الدعوة فيها، ويتحدث عنها النَّاس وتأتيهم الأخبار من الذين يؤمنون من أقوامهم فيذهبون إليهم، ويقولون لهم: ذهبنا إِلَى هذا النبي، ورأيناه ووجدناه يدعو إِلَى كذا وكذا فيؤمن القوم أو بعضهم.
      ثُمَّ بعد ذلك يأتي وفدهم إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حصل للوفود التي وفدت إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد آمنوا بنبوته، ولكن وفدوا يريدون اليقين، فعندما يسألونه ويرونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي اليقين الكامل بصدق نبوته، وقد يبقى أيضاً من الشكوك عند البعض الآخر فيرتدوا ثُمَّ تكون الحرب عليهم.
      الشاهد من هذا أن الخبر - دائماً - يحصل ويأتي إِلَى النفس بطريقة انفرادية، ثُمَّ ما يزال يقوى وتجتمع منه أمور معينة تجعله يتأكد وهذا يدل عَلَى أنه ليس من الشرط لحصول اليقين أن تلزم طريقاً واحداً، كما يلزمنا به المتكلمون من المعتزلة أو غيرهم، وطبيعة الحياة، وطبيعة الاجتماع البشري تكون في الأخبار والأحداث العظيمة عَلَى الطريقة التي ذكرنا، وليس هناك حدث أعظم وأضخم من حدث النبوة أو دعوى النبوة.

      إنها قضية كبرى عند جميع الناس، فالذين بعث إليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت النبوة عندهم حدث عظيم؛ لأنه لم يبعث فيهم نذير ولا بشير قبله، فكان لا بد أن يستغرق أذهانهم بالتفكير فيه، ولا سيما أن هذا المبعوث بعث في قلب مركز وثنيتهم وعبادتهم، وبجوار البيت الذي يعظمونه جميعاً، ومن نفس الأسرة التي هي أشرف الأسر، وهو من ذرية إسماعيل عَلَيْهِ السَّلام ولد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، اللذين بنيا هذا البيت، وأما الروم واليهود وأمثالهم فإن لديهم الكتبَ التي فيها صفات هذا النبي، وكانوا ينتظرون زمانه، وقد أخبر كثير منهم بأن هذا الزمان هو زمان هذا النبي فعندما كانوا يتحسسون الأخبار كما حصل من بحيرا الراهب الذي كَانَ في بصرى، فقد كَانَ يخرج من الصومعة ويتحسس الأخبار، وينزل عَلَى طريق القوافل التجارية بين بلاد العرب وبين الروم، ويقول: هل ظهر نبي آخر الزمان؟ هل جاءكم أحد؟ هل أخبركم أحد؟ حتى وجد ركباً فأخبروه أنه قد ظهر نبي آخر الزمان.
      وأيضاً الراهبان اللذان تعبد عندهما سلمان الفارسي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ما زال كل واحد منهم يسلمه إِلَى الآخر، إِلَى أن قال له :آخرهم: (لا أعلم أحداً اليوم في الأرض عَلَى ما أنا عليه إلا أن نبي هذا الزمان قد ظهر فالتمسه في بلاد العرب، في أرض ذات نخل بين حرتين)، ولهذا جَاءَ سلمان الفارسي يبحث عن الدين لذاً كَانَ اهتمام القوم بهذا الأمر عظيماً؛ لأنهم يترقبون هذا النبي ويتوقعونه فأخذت آياته تظهر.

      وكانت أعظم آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رآها أُولَئِكَ النَّاس أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الإِنسَان يرى هذه الأمة التي تحولت من عبادة الأوثان وشرب الخمور ووأد البنات والظلم والنهب والجور إِلَى أمة مؤمنة تقية عادلة بارة، لم يشهد التاريخ فاتحاً أرحم منها، ولا حاكماً أعدل منها، تتواصى بالحق وبالصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتبعث مكارم الأخلاق التي اندثرت في قلوب الأمم عَلَى مر القرون.
      فكان الرجل من الأمم إذا رأى أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو استطلع أخبارهم وأحوال جيش الْمُسْلِمِينَ يتعجب أشد العجب من أخلاق هذه الأمة ومن تعاملها، وهذا هو الذي يغزو قلوب النَّاس أكثر مما تغزوهم المسائل النظرية والجدلية.
      وما زال خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتردد بينهم، وآياته تظهر حتى صدقوا وآمنوا، ودخلوا في دين الله برغبة وصدق، مع أنهم لم يكونوا يفهمون اللغة العربية إلا من كَانَ عربياً بطبعه، ومن تعلمها فيما بعد، فآمنوا وحملوا السيوف للجهاد، وآمنت أمم في أصقاع الدنيا وجاهدت من أجل هذا الدين، بناء عَلَى هذه الآيات الواضحات في خلق أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحق الذي جَاءَ به هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبمقارنته بالفطرة وبمكارم الأخلاق التي تؤمن بها كل فطرة سليمة، ويهدي إليها كل عقل رشيد سليم، فهذا من أعظم الآيات الدالة عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون حاجة إِلَى ما ذكره أُولَئِكَ المتكلمون،
      وهناك أدلة أخرى سيذكرها المؤلف أيضاً.
  3. أحوال الأنبياء مع أقوامهم من أظهر العلوم المتواترة على صدق نبوتهم

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وأيضاً فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى في العالم الآثار الدالة عَلَى ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده. ولما ذكر سبحانه قصص الأَنْبِيَاء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) [الشعراء:8، 9] وبالجملة: فالعلم بأنه كَانَ في الأرض من يقول: إنه رَسُول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم: هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب: كـبقراط وجالينوس وبطليموس وأفلاطون وسقراط وأرسطو وأتباعه، ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين عَلَى الحق من وجوه متعددة، منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أُولَئِكَ وبقاء العاقبة لهم.
    ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه: كغرق فرعون، وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم عرف صدق الرسل، ومنها: أن من عرف ما جَاءَ به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاؤوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق عَلَى ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. ولذكر دلائل نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها النَّاس بمصنفات كالبيهقي وغيره] اهـ.

    الشرح:
    وهنا دليل آخر من أدلة كثيرة عَلَى إثبات النبوة للأنبياء جميعاً، وإمكان العلم والمعرفة بها، وهذا الدليل هو ما أبقاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الآثار المكتوبة أو المحفوظة أو المحسوسة، للدلالة عَلَى صدق نبوة الأنبياء، فإن البشرية جمعاء والعالم أجمع يتناقلون هذه الآثار، فمثلاً الطوفان جَاءَ علماء الاجتماع أو المكتشفون الأوروبيون وذهبوا إِلَى أمريكا الجنوبية، وذهبوا إِلَى أفريقيا، وذهبوا إِلَى الهند، وإلى شرق آسيا، وإلى الأدغال والأحراش، ومناطق كثيرة لاكتشاف المجتمعات، كيف تعيش؟ وكيف تعتقد؟ وبماذا تدين؟
    1. العالم أجمع يتناقل آثار الأمم الماضية

      وجد هَؤُلاءِ المستكشفون أن جميع المجتمعات تعتقد أدياناً ولهم عباداتهم، ووجدوا أنهم يؤمنون بالطوفان، وبأنه قد عم الأرض، وسموها الخرافة المشتركة، أو الأسطورة المشتركة؛ لأن كل القبائل اشتركت واتفقت عليها، بينما لكل قبيلة أو مجتمع أساطير أخرى، فيقال لهم: كيف تكون أسطورة مشتركة، وأنتم تقرؤون ذلك في كتبكم، في التوراة، وفي الإنجيل، والْمُسْلِمُونَ يقرؤون ذلك في القرآن، وهو محفوظ معصوم، والنَّاس الذين كتبوا التاريخ المحفوظ المقروء يتناقلونه، وهذا تاريخ محفوظ متناقل في السطور مذكور فيه والآثار الحسية في الأرض تقول بذلك.
      فإذا كانت كل الشواهد والدلائل تدل عَلَى أمر من الأمور فهل يكون هذا دليلاً عَلَى أنه خرافة مشتركة؟ إنما تدل عَلَى أن هذا الأمر حقيقة مشتركة.
      فاشتراك النَّاس في ذلك دليل عَلَى إثبات هذه الحقيقة، وكل البشر في جميع المجتمعات يعتقدون أن أصل البشر من أم وأب واحد، ثُمَّ يقولون: إنه بعد الطوفان غرق من في الأرض إلا النبي ومن كَانَ معه، ثُمَّ تناسلت منهم البشرية، وهذا كلام لا يمكن أن يكون مجرد اختلاق.
      أما دلالتكم أنتم عَلَى أن هذه الشعوب أو هَؤُلاءِ النَّاس خرافيون، وإنكاركم لآدم، وإنكاركم لنوح، هذا هو الظن والاختلاف الذي ليس عليه أي دليل عَلَى الإطلاق.
    2. كتب التاريخ وتغيبها لقصص الأنبياء مع أقوامهم

      إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى من الدلائل عَلَى الأَنْبِيَاء وما حصل لهم مع أممهم، ما يدل عَلَى صدقهم، ونحن نؤمن به، ونقرأه في التواريخ وفي الآثار، وهو أكثر ثبوتاً من إثبات أرسطو وأفلاطون في علم الاجتماع وغيرهم في غيرها من العلوم، ونحن نجد من يكتب في التاريخ أنهم عندما يبدأون بالكلام عن الطب فيبدؤون بالطب عند اليونان، ويتكلمون عن تاريخ الطب وعلماء الطب من اليونان وجالينوس وبقراط.
      وفي علم الجغرافيا والفلك يبدؤون أيضاً من الجغرافيا عند اليونان فيحدثونك عن بطليموس وأمثاله، وهكذا كأن بداية العلم البشري ظهر من اليونان.
      ولابأس عندنا بالتحديث عن تاريخ هذه العلوم، لكن لماذا يتحدثون عن هذا التاريخ، ثُمَّ ينتقلون منه إِلَى القرون الوسطى، ثُمَّ منه إِلَى العصر الحديث، ولا يأتي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا ذكر الإسلام، ولا التاريخ الإسلامي إلا عرضاً؟! حتى في الجامعات الإسلامية تأتي هذه الأمور عرضية فهم يبدؤون بالكلام عن اليونان والرومان.
      ثُمَّ العصور الوسطى ويتحدثون قليلاً عن الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ العصر الحديث، ولا تجد ذكراً للأنبياء في علم التاريخ؛ بل تجد الحديث عن الفراعنة ويؤلف فيهم المجلدات الطويلة ولا يذكر كفرهم، وما بعث الله إليهم من الأنبياء، ويعتبرون ذلك خاصاً بكتب الدين، حتى ما حصل من إغراق الله تَعَالَى لفرعون، فإنهم يمرون عليه كأنه حدث من جملة الأحداث العادية، فيقولون: في عصر فلان الثاني من ملوك الفراعنة، حصل أنه أراد أن يقاتل بعض الناس، فاجتاحه الماء وغرق، وانتهى الأمر.
      وماذاك -والله أعلم- إلا لأنهم لما نقدوا كتبهم وأناجيلهم وجدوها مزيفة لايصدقها التاريخ، ومع ذلك ليست كلها زائفة بل فيها حق وفيها باطل؛ لكن هَؤُلاءِ الحاقدين من الملاحدة الأوروبيين أنكروها بجملتها، وَقَالُوا: التاريخ هو الحقيقة.
      وأما الأديان فلا عبرة بها ولا يؤخذ بكلامها، ولا يؤخذ بالكتب الدينية في تسجيل الأحداث التاريخية.
    3. وفي المسلمين من يأخذ عن الحاقدين لهذا الدين

      فجاء بعض الْمُسْلِمِينَ وأخذ نفس الفكرة، وأخذ نفس الرأي فتراه يتحدث عن الفراعنة ولا يذكر موسى عَلَيْهِ السَّلام ولا ما حصل له، ويتحدث عن الأشوريين والكلدانيين، ولا يتحدثون عن رسالة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ولا عن موقفه منهم، وهكذا. فكأن الأَنْبِيَاء ليسوا موجودين من التاريخ، لماذا؟
      لأن كتب التاريخ التي كتبها المُشْرِكُونَ والكفار من الأمم الماضية لم يذكروا فيها الأنبياء، وعليه فهم لا يذكرونها، بينما ذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه.

      الشاهد مما سبق: أن خبر إغراق فرعون معلوم لدى الناس، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ترك من آثار الفراعنة شواهد دالة عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد عذبهم وأهلكهم، وكذلك كثير من الأنبياء.
      كما نشاهد في مدائن صالح عَلَيْهِ السَّلام، فقد ترك الله عز وجل هذه الآيات الواضحة ليرى النَّاس أن نبياً قد بعث، وأن قومه قد كَفَرُوا به، فأهلكهم الله عز وجل، وهذه جبالهم التي كانوا ينحتونها ويتخذون منها القصور والبيوت لا تزال شاهدة ((فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [النمل:52].
    4. مواقع الأمم الماضية آثار أم دمار ؟!

      إن بقايا وآثار مساكن الكافرين متواترة ومشهورة عند الناس، لا يغفل عنها إلا أصحاب القلوب المعرضة، فالذين يذهبون في رحلة، وفي نزهة، ويصورون تلك الجبال، وبعضهم يضخمها صورة كبيرة، ويعلقها في البيت، سُبْحانَ اللَّه العظيم!
      هذا عذاب أمة عظيمة، أهلكها الله بالمعاصي أتعلق صورها للزينة!! والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى أن نمر بها إلا مستعبرين، أي: باكين.
      ونهى عن الإقامة فيها كما هو ثابت في قصة غزوة تبوك، ولكن القلوب الغافلة أبت إلا أن تتخذها منتزهات وملاهي، ولذلك نبه المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الشعراء بعد أن يذكر كل أمة من الأمم، وماذا جرى لها يقول :((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ))[الشعراء:8-9].
      ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في آخر سورة يوسف لما قص قصة يوسف: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ))[يوسف:111] وأولوا الألباب هم فقط الذين يعتبرون عندما يرون أمثال هذه الأحداث.

      فترك الله عَزَّ وَجَلَّ شواهد حسية مرئية، وشواهد منقولة بالتواتر تاريخياً، مكتوبة أو محفوظة تدل عَلَى أن له أنبياء، وأن هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاء قد بعثوا إِلَى أقوامهم فمن آمن منهم نجى، ومن كفر من أقوامهم فإنه يهلك بأنواع من الهلاك ما تزال بعضها شاهدة شاخصة يراها أولوا الألباب، ويقر بها أولوا الأبصار.
      فهذه أيضاً من الدلائل التي يغفل المتكلمون والفلاسفة وأمثالهم عن الاستشهاد بها عَلَى صدق النبوة.
    5. هوس فلاسفة اليونان

      ومن الأمثلة العجيبة أنه لما جَاءَ فلاسفة اليونان وقد بلغهم أن بيتاً في بلاد العرب -وهو الكعبة- يؤمه النَّاس من جميع الأقطاب؛ لأن هذا البيت من أعظم الآثار الواضحة عَلَى النبوة -كما هو معلوم- من عهد آدم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ نوح عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الذي جدد بناءه، ثُمَّ بقي بناؤه من إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام إِلَى اليوم.
      وهذا أيضاً مما يدل عَلَى النبوة، فتنجذب إليه قلوب البشر من أنحاء أفريقيا، ومن آسيا، ومن كل أقطار العالم، فأخذ الفلاسفة يفكرون عندما حاروا في أمر هذا البيت، فظلوا يفكرون لانجذاب القلوب نحو هذا البيت يتفق مع ما يقولون به من أنه لا نبوة، ولا دين، ولا شيء من هذا قالوا: إذاً حجر المغناطيس موضوع تحت الكعبة؛ فلذلك ينجذب إليه الناس!!
      ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)) [الحجر:14-15]
      فيقال لهم: ومن وضع هذا الحجر؟!
      فإن كَانَ من عند الله فلماذا لم يضعه إلا في هذا المكان؟!
      وإن كَانَ الذي وضعه بشر فلماذا وضعه في بلاد العرب؟!
      ومن هذا البشر الذي وضعه؟!
      ولماذا لم يضعه في الأرض الخصبة، والأراضي المتحضرة؟!
      إن ما يقولونه لا يمكن أن يقبله العقل.

      فالقصد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ترك من الأدلة الواضحة الجلية عَلَى إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأنبياء جميعاً ما يقطع لكل ذي لب بأن النَّاس منذ عهد آدم ومنذ أن وقع الشرك، ثُمَّ صار النَّاس فريقين: مؤمنين وكافرين.
      وإن أصل إيمان المؤمنين هو: الإيمان بالنبوات؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث إليهم الرسل تتراً، أي: متتابعين، فيأتيهم النبي ويبلغهم رسالات ربهم، ويذكرهم بالله ويدعوهم إِلَى ما فيه صلاحهم.

      فلهذا يقول المؤلف رحمه الله تعالى: نَحْنُ اليوم نعلم بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وكذلك من حال أعدائهم ما يدل قطعاً وصدقاً عَلَى نبوتهم، غير الأدلة التي يحصرنا فيها أُولَئِكَ الناس، فَيَقُولُ: ومن ذلك أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم، وبقاء العاقبة لهم وخذلان أعدائهم، فمنذ أن يُبعث النبي وهو موقن بالانتصار، كما هو حال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كَانَ ورقة بن نوفل موقن بأنه نبي، ويقول: {ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك} علم أن قومه سيخرجونه؛ لكنه هو الذي سينتصر في النهاية، وقد قالها هرقل: {الأَنْبِيَاء يُغلبون ابتلاءً من الله، ولكن تكون العاقبة لهم} وهكذا أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن العاقبة كانت للأنبياء الذين من قبله، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهلك الأمم التي كذبتهم وكفرت بهم جميعاً،كما في أحداث فرعون وقومه، ونوح وقومه وأمثالهم.
  4. شرائع الأنبياء أسطع برهان على صدقهم

     المرفق    
    الشيء العظيم جداً الذي اختص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأعظمه وأشمله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع.
    ولهذا يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإنما كَانَ الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يَوْمَ القِيَامَةِ} وما ذاك إلا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل بينته وحياً نورانياً يتلى ويتناقل ويتداول، ولم تكن خارقة حسية يراها بعض الناس، أو يتناقل أخبارها بعض الناس، وإنما كانت مع وجود هذه الخوارق والآيات الحسية وحياً يتلى.
    1. ما من خير إلا وقد دل عليه الأنبياء

      إن ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع يدلُ كلَ ذي عقل ولبٍ سليم عَلَى أنهم صادقون، فهم يدعون إِلَى البرِّ، والعدلِ، ويدعون إِلَى الأخلاق الحسنة، ويدعون إِلَى إخلاص النيات والقلوب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويدعون إِلَى المساواة بين النَّاس في الحقوق والواجبات، ويدعون إِلَى إصلاح الأسرة، ويدعون إِلَى إصلاح المجتمع، ويدعون إِلَى إصلاح الدولة، فلا خير إلا ويدل عليه الأنبياء، فلو تأمل العاقل ما يدعون إليه لوجد أنه الحق والخير والحكمة والهدى والرشاد.
    2. أحوال مخالفي الأنبياء تنبئك عن فساد ما يدعون إليه

      لو تأمل أحوال مخالفيهم والذين يناوئونهم لوجد العناد والكبر والاستخفاف.
      فماذا قال فرعون؟
      قال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24]، ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) [القصص:38]!!
      وماذا قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد ماء بدر فتعزف القيان ونضرب العود ويسمع العرب أننا أعزهم!!
      وإذا قورن كلام النبي بكلام أعداء النبي يظهر الفرق جلياً بين ما يريد هذا ويدعو إليه، وبين ما يريده أُولَئِكَ ويدعون إليه، فهم يريدون العلو والفساد في الأرض، والاستكبار عَلَى خلق الله واستضعافهم، واستعبادهم.
      وأما الأَنْبِيَاء فإنهم يريدون الإيمان والصلاح، والخير والفلاح، لهَؤُلاءِ البشر جميعاً في الدنيا والآخرة، ولهذا يتبعهم الضعفاء أول أمرهم، وهم الأشراف العقلاء، أما أصحاب المناصب، وأصحاب الشهوات، وأصحاب الكبر والعناد، فإنهم يعرضون عنهم.
      فهذا الدليل -ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع- هو نفسه من الأدلة القطعية عَلَى أنهم إنما يوحى إليهم، وإنما يتلقون ذلك من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهذا أيضاً من ضمن الأدلة المعلومة بالتواتر وبالبراهين من واقع حال الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم.

      وهنا ينتقل المُصنِّف رحمه الله تعالى إِلَى دليل آخر قوي جداً وهو الاستدلال عَلَى صدق الأَنْبِيَاء وعلى حقيقة دين الأَنْبِيَاء بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد كنا تحدثنا في أول الكتاب عن الاستدلال بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى وجوده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى إلاهيته وعلى توحيده.
  5. صفات الله سبحانه من أقوى الأدلة على صدق الأنبياء

     المرفق    
    هنا نستدل بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى إثبات نبوة الأنبياء، وكثير ممن دخل في الإسلام -حتى في هذا العصر- لو بحثنا في سبب إسلامه لوجدنا أنه أسلم استدلالاً بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ أولاً، .
    فتنظر إليه وهو يقول: لا بد لهذا الكون من إله، لا بد أن لهذا الكون خالق، وهذا الخالق: إما أن يكون عادلاً، أو ظالماً، فالذي ينظر ويتفكر في خلق السموات والأرض والكواكب والنجوم، ويرى أنه لا يمكن أن يحصل تصادم بين هذه المخلوقات، ولا يرى في خلق الله تَعَالَى من تفاوت، ويرى الإبداع العجيب في ذلك كله يوقن أن هذا الإله عادل في كونه.
    ثُمَّ يسائل نفسه هل يمكن أن هذا الإله العادل يترك الإِنسَان يموج في هذه الحياة، القوي يأكل الضعيف، والشعوب تقتل بعضها بعضا دون أن يعطي هذا الإِنسَان وصراطاً يمشي عليه؟
    لا يمكن ذلك.
    فلا بد أن يكون له دين، وأن يكون له منهج يضعه للبشر، من هنا يبدأ هذا الإِنسَان البحث عن هذا الدين، فيحدث نفسه فياترى أين يكون؟
    أهو اليهودية فيقرأها فلا ينتفع بها، أو النصرانية فيقرأها ولا ينتفع بها، أو البوذية الكونفوشية فيقرأها فلا ينتفع.
    فعندما يقرأ عن الإسلام يجد بغيته وكلما يقرأ شيئاً عن الإسلام يزداد يقيناً به، فيسلم ويستيقن بنبوة نبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً عَلَى هذا الدليل.
    1. الطاعن في نبوة الأنبياء طاعن في صفات الله وربوبيته

      هذا الذي سيشير إليه الشارح رحمه الله تعالى، أن من يطعن في نبوة الأنبياء، ونبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصةً، فإنه يطعن في صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، ويطعن في ربوبية الله عَزَّ وَجَلَّ.
  6. من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم استمرارية دعوته وظهوره

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [بل إنكار رسالته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعن في الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونسبته إِلَى الظلم والسفه، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحدٌ للرب بالكلية وإنكار.
    وبيان ذلك: أنه إذا كَانَ مُحَمَّد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري عَلَى الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إِلَى أمر الله له به ومحبته له، والرب تَعَالَى يشاهده، وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة.
    وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره، ويُعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم، فإنه لا أظلم ممن كذب عَلَى الله، وأبطل شرائع أنبيائه وبدَّلها، وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تَعَالَى يقره عَلَى ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.
    فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كَانَ له مدبر قدير حكيم لأخذ عَلَى يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!
    ولا ريب أن الله تَعَالَى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته، والشهادة له بالنبوة عَلَى رؤوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه.
    هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى:((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) [الطور:30-31] أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل؛ بل لابد أن يجعله عبرة لعباده.
    كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ)) [الشورى: 24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثُمَّ أخبر خبراً جازماً غير معلق: أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء)) [الأنعام:91] فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] إهـ.

    الشرح:
    استمرار دعوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دليل عظيم لمن تأمله وفطن إليه وفقهه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتفكر في حقيقة أمر النبوة، وأمر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، أياً كَانَ دينه، نقول هذا للمسلم ولغير المسلم.
    ولنفترض أن هذا النبي -كما يقول الكاذبون والمرجفون- ليس موحاً إليه من عند الله، فكيف يأتي فيدعي النبوة وهي دعوى عظيمة، ثُمَّ يأتي فيستمر ثلاثاً وعشرين سنة وأمره مؤيد ظاهر؟
    فيحارب الأعداء وينتصر عليهم، ويرفع يديه إِلَى السماء فتستجاب دعوته فيهم، ويستبيح نسائهم وأموالهم، يقتل كل مخالفيه، ثُمَّ يذهب في الأرض فيأتي إِلَى أهل الكتاب: فإما الجزية، وإما الإسلام، وإما السيف، ويأتي إِلَى الْمُشْرِكِينَ: فإما أن يسلموا، وإما السيف، أمور يفعلها، وهو مؤيد ظاهر، وترتفع المآذن في شرق الأرض وفي غربها أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ويخلُد ذكره، ويعظم أمره
    .
    1. من طعن في نبوته أو كذبه أو سبه أذله الله وأخزاه

      ولا يعلم أن أحداً سبه أو طعن فيه أو كذبه إلا أذله الله وخذله، وهدم كبره، كل هذه الدلائل الواضحة البينة، ومع ذلك يكون هذا الرجل مفترياً عَلَى الله، ويقول هذا من عند الله وهو ليس من عند الله.
    2. وقفة مع منكري نبوات الأنبياء

      في الحقيقة الذي يطعن في نبوة النبي لا يطعن فيه بل يطعن في الله هذا ما يريد المُصنِّف أن يقوله، ويلزم من قوله: إما أن هذا الكون ليس له إله!
      وهذا لا يمكن؛ لأن أتباع الأَنْبِيَاء -على الأقل- جميعاً يؤمنون بأن الأَنْبِيَاء جاءوا من عند الله، وإما أن يكون هذا الرب لا حكمة له ولا تدبير، إنما هو ظالم، وهذا لا يليق بالله عَزَّ وَجَلَّ، فكل من يعلم شيئاً عن الله عز وجل لا ينسب الله تَعَالَى إِلَى الظلم؛ بل إن الكون يشهد بأن هذا الإله حكيم عدل.
      فكيف نقول: إنه ظالم؟ وإنه لا حكمة له ولا تدبير؟
      ولا يليق بالله أن يرفع المفتري عليه فوق العالمين، ويظهر سلطانه، ويرفع شأنه ويؤيده.
      ويقال أيضاً لمنكري نبوات الأنبياء: ألا تؤمنون أن هذا الإله قدير؟
      سيقولون: نعم هو قدير؛ لأنه خلق هذه النجوم والمجرات والكواكب العظيمة.
      فيقال لهم: هذا القدير ألا يقدر عَلَى بشر يفتري عليه؟!
      ولذلك قَالَ: ((فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ))[الشورى:24] ولو أن هذا الإِنسَان يفتري عَلَى الله، فإن الله يختم عَلَى قلبه ويميته فينتهي الأمر، ولهذا قالت قريش:((أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) [صّ: 6] وَقَالُوا:((شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))[الطور:30].
    3. قريش تتربص بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون

      تظن قريش أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مات انتهى أمره، لكن الأمر لم يكن كما كانوا يتوقعون، فالنبي مازال ينتصر ويظهر أمره، بل إِلَى الآن لا يوجد أحد يستطيع أن يطعن في دينه، أو يطعن في نبوته إلا ويذله الله تعالى، ويظهر التناقض من فمه، وفي كلامه، وفي رأيه. إذاً.. هذا لا يمكن إلا أن يكون حقاً نبياً من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومن طعن في نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما هو طاعن في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي حكمته، وفي عدله.
    4. في مسيلمة والعنسي عبرة ودلالة

      قد يقَالَ: إن بعض الكذابين ظهر لهم شأن، كـمسيلمة الكذاب والأسود العنسي فإنه قد تبعهما بعض الناس، وظهر لهما شيء من الأمر، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ خذلهم وأذلهم، ونصر جنده عليهم، ومن عرفهم علم أنهم عَلَى غير هدى، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينصرهم ولم يؤيدهم، وإنما فتنهم وفتن بهم ولكن هذا الرجل الذي جَاءَ من أمة أمية، ويأتي للعالمين بالنور وبالضياء المبين، وبالهدى والرشاد، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فمن كَانَ مؤمناً بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أي دين، ومن أي جنس فعليه أن يؤمن بأن هذا رسوله حقاً.
    5. هنا نقطة البداية

      وهذا الكلام هو نقطة البداية التي يمكن أن نتحدث بها إذا أراد أحدنا أن يدعو أحداً إِلَى دين الإسلام، أو يخاطبه عن الإسلام، فلا بد أن ينظر: فإن كَانَ يؤمن بالله، وأن الله حكيم، وأن الله عدل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لديه عَلَى الأقل ما يسمونه "حسن التصرف أو التدبير" فيخاطبه بمثل هذا الكلام، ويخاطبه بصحة هذا القُرْآن الذي بين أيدينا، ويسألة: لِمَ لَمْ يتغير منه حرف؟ ولا يطعن فيه أحد ويغير فيه إلا فضحه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العالمين؟ فهذا لا يمكن أن يكون إلا بتأييد من الله، وبهذا يصل معه إِلَى النتيجة المطلوبة.