المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وقد اختُلفَ في تحديد المحبة عَلَى أقوال نحو ثلاثين قولاً] والتحديد معناه: التعريف للمحبة، والمتكلمون اختلفوا في ذلك، فمنهم من يقول: تعلق القلب، ومنهم من يقول: ميل القلب وإرادته الشيء، ومنهم من يقول غير ذلك، إِلَى أن أتوا بثلاثين تعريفاً.

وكلها لا فائدة فيها؛ لأن توضيح الواضح من المشكلات، والمحبة أوضح من أن نُعرّفها الطفل الصغير جداً، فلو قلت له: تُحب كذا، فيقول لك: نعم، فهو يعرف معنى المحبة.
فلا داعي إِلَى القول أنه لا بد أن نعرف المحبة، ونضع لها حداً منطقياً، وهذا الحدّ يكون جامعاً مانعاً لا يدخل عليه اعتراض؛ لأن المحبة شيء واضح لا يحتاج إِلَى أن يُعرَّف، وهذه القضية من القضايا التي نُعرَفُ بها -نحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- بطلان ما يُسمى بعلم المنطق، وننقض بها هذا الذي يسمونه المنطق؛ لأن المناطقة يقولون: إن الأشياء لا تدرك حقائقها إلا بالحدود والتصور، كما يقولون: لا ينال التصور إلا بالحد، فلا بد أن نضع حداً عَلَى الطريقة المنطقية، وذلك بأن تضع التعريف، ثُمَّ بهذا التعريف تعرف الشيء وتميزه عن غيره، وبغير ذلك لا نعرف أي شيء.

فرد عليهم شيخ الاسلام ابْن تَيْمِيَّةَ؛ بل رد عليهم جميع العقلاء أن النَّاس يدركون حقائق الأشياء ويعرفونها من غير تعريف، والنحويون الأولون لما أرادوا أن يعرفوا ما هو الاسم؟ وما هو الفعل؟ كانوا يعرفون الأشياء تعريفاً بسيطاً، كقوله: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: من، وفي، وعلى، فلما دخل علم المنطق النحو، عرَّفوا الاسم بأكثر من سبعين تعريفاً، وكذلك تكلم الفقهاء في تعريف الزكاة قبل أن يعرفوا علم المنطق، فلما دخل المنطق قالوا في تعريف الزكاة: إخراج مالٌ مخصوص في وقت مخصوص لطائفة مخصوصة.
فإذا قلنا لهم: إن الزكاة معروفة، قالوا: لا، هذا هو التعريف الجامع المانع، وهو ليس فيه فائدة، إنما هو كلام كله لا ينفع.

وهكذا المحبة ولذلك نقول: إن الأشياء الواضحة لا تحتاج إِلَى تحديد، كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك، فتعريف الجوع عجز عنه الأطباء والفلاسفة، وقالوا عن الماء: إنه سائل شفاف... سُبْحانَ اللَّه!
إن الماء لا يجهله أي إنسان، وهذا مما نعرف به فساد ما يُسمى علم المنطق، والمناطقة إنما جاءوا بهذا العلم لمواجهة مجانين السفسطة الذين أنكروا حقائق الأشياء، فتثبت لهم الحقائق عن طريق التعريف العقلي المنطقي، حتى يؤمنوا بها ويثبتوها، هكذا كَانَ يريد علماء اليونان لمَّا وضعوا علم المنطق.
والمنطق قسمان:
القسم الأول: الحدود وهو هذا الذي تكلم عنه المُصنِّفُ هنا.
والقسم الثاني: في البراهين عَلَى صدق القضايا.
وخلاصة ما سبق أن المحبة أوضح وأجلى من أن تعرف أو يكون لها حد، فمحبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي عَلَى المعنى الذي يليق بجلاله مثل سائر صفاته، ومحبة المخلوقين له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معروفة ولا تحتاج إِلَى إيضاح ولا تحديد ولا تقييد.