المادة    
كانت مرحلة الثمانينات الهجرية أو الستينات الميلادية هي أشد مرحلة، وكانت الدولة التي لا تطبق الاشتراكية تكاد تطرق رأسها من الحياء والخجل أمام العالم، كأنها دولة رجعية متخلفة؛ وهكذا توصم في جميع المحافل الدولية التي تسيطر عليها الشيوعية، ثم شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانقلبت المعايير والموازين وجاء برجنيف، وللعلم فقد كان ماركس يهودياً، ولينين يهودياً، واستالين يهودياً، وخريتشوف يهودياً، وبرجنيف يهودياً، وجورباتشوف ليس عندي علم به لكن سيكشفه الزمن، لكن علي أي حال كلهم يهود، فجاء برجنيف وهنا نأتي إلى نقطة مهمة جداً، فوجدت الشيوعية نفسها أنها ستنهار فعلاً من الداخل بسبب الإلحاد، وهذا من أعظم عوامل انهيارها، أنها لا تؤمن بالله، ولأنها لا تعبد الله، ولأنها تعلم الناس الإلحاد وتربيهم عليه، ولذلك تُبُنيَّ ميخائيل جورباتشوف من قبله برجنيف وأتباعه ليقود المرحلة الجديدة للشيوعية.
  1. البناء الديني

    من أهم غرائب الدنيا التي سجلها التاريخ: أن زعيم أكبر دولة شيوعية في العالم، يحتفل بمرور ألف عام على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية فاحتفل الاتحاد السوفييتي بمناسبة مرور ألف سنة على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية، ثم أعقب ذلك قبل شهرين أن جورباتشوف بنفسه وهو صنيعة برجنيف ومن بعده، وذهب وزار البابا في الفاتيكان وقابله، وهذا أيضاً من الغرائب والعجائب إذ كيف يحصل هذا؟!
    وهم الذين يعتبرون أن مجرد كلمة دين رجعية.
    فالدين كما قال كارل ماركس: أفيون الشعوب الذي يخدرها، يقولون قبحهم الله -وهذا القول يتردد في العالم الإسلامي ولكن بلهجات أخف- يقولون: إن الدين شيء اصطنعه الإقطاعيون والملاك وأصحاب السلطة والاستبداد ليخدروا به الشعوب، وليأكلوا دنياهم، ويعدونهم بالعوض في الدار الآخرة.
    وهذا كان واقع رجال الدين من النصارى، كما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))[التوبة:34] فهذا حال النصارى، لكنهم يعممون الكلام على الدين كله، فيقولون هذا هو الدين.
    لكن الآن انقلب الحال هذا إلى الاعتراف بالدين وكما في كتاب جورباتشوف "إعادة البناء البروستريكا" يقول: ''إن القيم الروحية ضرورية ولابد منها'' سبحان الله!
  2. البناء الأسرى

    ومن العجائب التي لن تصدقونها وقد قرأتها في الكتاب بنفسي أن جورباتشوف ينتقد أو يريد إعادة الحساب في موضوع المرأة، كيف؟!
    الشيوعية التي تقول: إن العالم بدأ بـالشيوعية البدائية التي لا يملك المرء فيها زوجة أبداً، والمرأة كانت كالرجل تعمل، وتنتهي بـالشيوعية الأخيرة التي تحكم العالم وتسيطر عليه، والتي تقول: إن المرأة كالرجل في كل شيء، الشيوعية التي تفتخر بأنها أخرجت النساء إلى المعسكرات العمالية والمصانع، وأنتجت وبلغت الذروة -كما يقولون- في كل شيء.
    غورباتشوف يقول: لا، كنا مخطئين، وكانت ظروف الحرب من جهة، وكان واقعنا ونحن نريد أن ننشئ البلد اقتصادياً من جهة أخرى، جعلنا نستعجل ونخرج المرأة؛ ونعطي قومية المرأة شكلاً أكبر مما تستحق، أما الآن ونحن نعيد البناء فلابد أن نفكر في وظيفة الأمومة وبوضع المرأة في البيت.
    نعم، يا دعاة تحرير المرأة في كل بلد وفي كل مكان! هذا جورباتشوف بنفسه يقول: نعم، نحن أخطأنا، ولم ندرك حقيقة وظيفة المرأة، ولهذا فإن من ضرورات إعادة البناء: إعادة بناء الأسرة.. سبحان الله!
    ماذا كان الشيوعيون يقولون عن موضوع الأسرة؟!
    الأسرة تقليد برجوازي، تقليد إقطاعي، وعبارات سخيفة لا أريد أن أثقل بها عليكم، حتى لو فتحت إذاعة من إذاعات الدول التي ما زالت حتى الآن شيوعية، وتدندن للشيوعية البرجوازية من بين كل عشر كلمات تجد كلمة برجوازي، والمهم أي كلام، فيقول: الأسرة تقليد برجوازي.
    وكان ماركس يقول: أصل الأسرة ليست شيئاً حقيقياً، أي: أن الأسرة خلقها وأوجدها العامل الزراعي فقط، أي: عندما كان في العصر الزراعي كان الرجل يزرع والمرأة تزرع معه، وهو يجني الثمار وهي تطبخ، فمن هنا وجد ما يسمى الأسرة..فقط، لكن في عصر الصناعات والآلات فالرجل يصنع قطعة والمرأة تصنع قطعة ويضعونها في الجهاز ويشتغل، هذا يعمل من ناحية وهذه تعمل من ناحية أخرى، ما الضرورة الآن لوجود أسرة! فألغى ماركس الأسرة تماماً!
    ولما جاء استالين قال: لا يمكن للناس أن يعيشوا هكذا، فقال: الأسرة البرجوازية هي الأسرة التي تعيش بأخلاق العصر الزراعي أو بالدين، لكن نحن نستطيع أن نوجد أسرة تقدمية وعلمية، كيف؟
    قال: أن تغير المرأة النية، فقد كان الشخص يتزوج لكي ينجب أطفالاً ويعيش معهم في عصر الانحطاط والتأخر والرجعية أيام الأديان، أما الآن فلا بد أن تغيروا النية، وانووا عندما تتزوجون أن تنجبوا أبناءً عماليين، يصبحون عمالاً في المصانع وأعضاء في السوفيتيات حتى ينهض البلد ويتقدم ويحقق الشيوعية في العالم، فأعاد تكوين الأسرة لكن بشكل آخر وباسم آخر.
    الآن غورباتشوف يقول: حتى الكلام هذا لا فائدة منه، بل الحقيقة التي لابد أن نعترف بها أن الأسرة لابد أن تقوم، وأن المرأة لابد أن تعرف دورها المهم وهو أنها أم، وتكون في البيت.
    والمجال لا يتسع لكي أذكر لكم كلامه بالنص، المهم أنه قال: من أهم الأشياء أن ترجع الأسرة، هذا الكلام سيترتب عيه أن البناء الشيوعي بأكمله سينهار، والحقيقة أنه على اختلاف المحللين في مسألة إعادة البناء، ليس المهم عندنا السبب بالضبط أو النتيجة أياً كانت، بل يهمنا أن إعادة البناء منطقياً تبتدأ من هدم الموجود، فلابد أن يهدم الموجود أولاً.
    ففي العالم الإسلامي هل تعيش الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية هذه المرحلة؟
    هل نحن الذين واقعنا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وفي رواية: {ولو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه} والعياذ بالله! عندما غزيت الأمة الإسلامية بهذه الفكرة وبهذا المذهب واعتنقته، وأصبح يحكم أكثر العالم الإسلامي، كيف نظر العالم الإسلامي إلى عملية البناء؟
    اختصاراً للوقت ولكي آتيكم بمثال حي حاضر، أقول لكم ماذا حدث في الجزائر منذ أسابيع الحزب الشيوعي الجزائري جمع نساء عدة، وأخرج ثلاثة آلاف امرأة متظاهرة من الرفيقات، لأن العضو في الحزب الشيوعي يسمى رفيقاً، فأخذوا ثلاثة آلاف رفيقة أو رقيقة، وقالوا لهن: اخرجن وطالبن بإلغاء قانون الأسرة، أي عكس ما يجري في الاتحاد السوفييتي تماماً، إلغاء قانون الأسرة لأنه مشتق من الشريعة الإسلامية أو لأن فقرات منه مأخوذة منها، فخرج الثلاثة آلاف واتجهن إلى مبنى البرلمان، ورفعن الشعارات الشيوعية وطلبن بإلغاء قانون الأسرة، فماذا كانت النتيجة؟
    تداعى أهل الغيرة والحمية والإيمان، وهبوا من كل جهة، فخرج مليونان ونصف المليون من المتظاهرين من بينهم مليون ونصف امرأة خرجن في العاصمة وبعض الولايات يطالبن بالحجاب، ونشرت الصحف صورهن والتلفزيونات الغربية ذهلت من هذا المنظر، وكن يلبسن الحجاب، كما ترون النساء المغربيات في الحج والعمرة لا يبدو منهن إلا العينين، ويرفعن اللافتات العريضة: احكمونا بالإسلام، شعب الجزائر مسلم، فصعقوا وذهلوا.
    ولكن هل قالوا: يحق للأمة الإسلامية إعادة البناء؟
    لا، بالنسبة للاتحاد السوفيتي بحق له إعادة البناء وإعادة النظر فيما هو سائر فيه، أما المسلمون فلا يحق لهم إلا أن يعيشوا تبعاً وأذلاء وموالين ورقيقاً للشرق أو الغرب، ولا يحق لهم إلا ذلك.
    والصحف الفرنسية بالذات صعقت وذهلت وعلقت تعليقات كبيرة، وبعد أن تأكد رئيس فرنسا من حقيقة الموضوع؛ قال: هذا أمر لا يمكن السكوت عليه، ولو أن هؤلاء الأصوليون وصلوا إلى السلطة لتدخلت عسكرياً كما تدخل بوش في بنما، فهذا لا يمكن! لكن أن تغير روسيا أو تغير بريطانيا من رأسمالية إلى شيوعية أو من شيوعية إلى رأسمالية هذا ممكن، لكن الأمة الإسلامية تقلب من أمة اشتراكية إلى إسلام فهذا لا يمكن أبداً!
  3. من عبر ونتائج إعادة البناء

    وهنا نقف على عبر عظيمة يجب أن نستنتجها، ومن أهم ما يجب أن نعلمه من الأحداث الكبيرة؛ ومن القضايا الرئيسية في مشروع البناء الذي نادى به غورباتشوف قال: يجب أن يقدم مؤتمر الأمن الأوروبي من السنة القادمة إلى هذه السنة، ويكون توحد أوروبا -الذي سيكون بعد سنتين- يبتدأ من هذه السنة ويشارك فيه الاتحاد السوفييتي، بمعنى أن أوروبا سوف تكون بعد سنتين دولة واحدة تتكون من عدة ولايات، مجموع سكانها ثلاثمائة وخمسة وعشرين مليوناً، ثم ينضم إليها الاتحاد السوفييتي وسكانه قرابة ثلاثمائة مليون، فيصبح المجموع ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً ويصبح لها برلمان موحد وكأنها دولة واحدة، وداخل هذا البرلمان الكبير الأحزاب الاشتراكية هي المسيطرة.
    ومن العجائب أنه رغم كل هذه الانهيارات المتتالية في الدول الشيوعية للأحزاب التقليدية إلا أن رؤساء الأحزاب هم في الأصل شيوعيون، والتغيير هذا له ما بعده، ووراءه مؤامرة كبرى، فإذا صار ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً تقريباً؛ فإن أمريكا والغرب سيصيرون شيئاً واحداً.
    وأعلن الاتحاد السوفييتي قبل شهرين أو ثلاثة شهور -تقريباً- أنه سيسحب جميع قواته من داخل الاتحاد السوفييتي، وعددها أكثر من ستمائة وسبعين ألف، وأعلنت أمريكا أنها سوف تسحب قواتها من أوروبا الغربية وعددها ستمائة ألف، سبحان الله! وماذا يبقى؟
    إذا كانت أوروبا والاتحاد السوفييتي تعدادهما ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً، وانضم إليها الثلاثمائة مليون أيضاً في أمريكا وكندا، يصبح تعدادهم ألف مليون، أي أن هذه القوة البشرية ستكون أقوى قوة في العالم بشرياً، وأقوى قوة في العالم اقتصادياً، وأقوى قوة في العالم عسكرياً، فهذه لما تصبح قوة واحدة وتتوجه بتوجه واحد، فمن الضحية؟!
    ولابد أنكم قرأتم أنه من أهم خطوات غورباتشوف في إعادة البناء السماح لليهود السوفييت بالهجرة إلى إسرائيل، وهذا مؤشر وله ما بعده، أيضاً الدول الشرقية الأخرى طولبت جميعاً بنفس العمل -وقد بدأت بعضها- بعمل لجنة تقوم بإعداد هذه العملية، وبدءوا بالسماح لليهود الشرقيين بالهجرة إلى إسرائيل.
    يقابل ذلك أن الجهاد الإسلامي في فلسطين المسمى (الانتفاضة) يخسر كل يوم ثلاثمائة ألف حالة إجهاض، والقتلى، والجرحى بالآلاف، وكل يوم يسقط عدد من القتلى، ويعوض إسرائيل أن يتدفق عليها كل يوم مجموعة كبيرة من الروس وغيرهم.
    آخر إحصائية نشرت قبل أسابيع تقول: إن عدد اليهود الروس الذين وصلوا في العام الماضي أكثر من ثلاثة وسبعين ألف يهودي، أي أكثر مما يفقده المسلمون في هذا الجهاد، وسيزيد العدد أكثر إذا تحسنت الأحوال أكثر.
    ومن أهم شروط أمريكا لإعادة البناء المطالبة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، ويعقب ذلك بلا شك -وهذا أمر متوقع بإذن الله- انهيار للأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي، لكن ماذا ستكون النتيجة إذا انهارت الأوضاع والنظم الموالية للغرب في العالم الإسلامي؟