أخيراً كان التغيير الذي أعلن في
الاتحاد السوفييتي نفسه وهو أن
الحزب الشيوعي لا يحتكر السلطة، وإنما تكون حكومات
ديمقراطية وهنا تضعضع العالم الغربي واهتز وشعر بالخطر فعلاً، وبدأت التحليلات الغربية تختلف، طائفة من الغربيين أبدوا الارتياح الكامل، لهذه الخطوات الديمقراطية، وتفاءلوا بمستقبل زاهٍ للإنسانية -كما نسمع الآن ويردد كثيراً- وأن الإنسانية والعالم الإنساني مقبل على مرحلة انفراج، وأن النظم الشمولية ستنتهي، وأن الديكتاتوريات ستسقط، وأن.. وأن.. وأن.. إلخ.
وقالوا: إن هذا نتيجة ثورة الإنسانية، وتفاعل الحرية في قلوب العالم أجمع، هذه كانت تحليلات، وتحليلات أخرى تقول: لا..!
الاتحاد السوفييتي دائماً يلدغ و
الشيوعية لم يتنازل عنها، وإنما هذه حركة التفاف وعملية مخادعة.. وهكذا اختلفت التحليلات.
والذي يتتبع العملية يقول: لا يمكن أن تكون هذه إلا عملية مقصودة إذ كيف يكون السقوط بهذه الدقة.
ثم لماذا في كل دولة يسقط فيها
الحزب الشيوعي يبرز في محله الشيوعيون الناقمون، أو الإصلاحيون كما يسمون، فكأن
تروتسكي الذي قتله
استالين عام (1940م) قد أعيد من جديد، أو غيره كالدولية الثانية والثالثة والرابعة.
مجموعة الأحزاب
الشيوعية (خارج
الاتحاد السوفييتي):
يرون أيضاً الارتياح التي تقابل به الأحزاب
الشيوعية في بلادها هذا الحدث، فيقول: لا بد أن هذا أمر دبر بليل، ووراؤه ما وراؤه من خطر على
أوروبا.
على أية حال وصلت بعض التحليلات إلى القول بأن
جورباتشوف دسيسة أمريكية، ربي على عين
أمريكا، ووضع ليهدم
الشيوعية وليأتِ في مؤتمر
مالطا ويقول ل
بوش: نحن لن نتقاسم العالم معكم.
والبعض الآخر يقول بالعكس: إن
جورباتشوف هو الذي سيحتوي العالم، ويريد أن يحتوي العالم عن طريق هذا الخداع، المهم أنها تحليلات مختلفة، لكن نقتصر نحن على الأمور الظاهرة، ثم لنا الحق جميعاً أن نستنتج منها ما نستنتجه.
القضية الأساسية هي: أن الأحزاب الاشتراكية في
أوروبا، و
الشيوعية تكاد أن تكون هي الحاكمة في كثير من دول
أوروبا، في
فرنسا، في
إيطاليا، في
البرتغال، في دول عدة.
الشيوعيون أو الاشتراكيون على الأقل، إما حاكمون، وإما لهم أحياناً فوق (40%) من الأصوات كما في الانتخابات الحرة التي أجريت في دول
أوروبا الغربية.
إذاً هناك عمق شيوعي ثقافي فكري داخل
أوروبا الغربية مؤيد لـ
جورباتشوف، ثم إذا سحب
جورباتشوف الأنظمة الديكتاتورية التي عفنت، وسخط عليها الناس واستبدلها بأوضاع قريبة، مما تطالب به الأحزاب
الشيوعية تقريباً في
أوروبا الغريبة، فإنه سيوفر على نفسه النفقات الباهضة للمنافسة النووية، ليدعم نشر
الشيوعية بطريقة الفكر والثقافة.
وقد صرح بأنا نريد أن ننشر الفكرة عن طريق اقتناع الناس بها، لا عن طريق إرغام الناس أن يكونوا شيوعيين، كما كان في الماضي، وواثق أن
أوروبا الغربية ليست لديها عقيدة ولا مبادئ، وأن الشركات الأمريكية سوف تنظر للموضوع نظر ريبة.
ثم إن
جورباتشوف يرى -قد صرح بهذا في
إعادة البناء- أنا نحن الأوروبيون،
أوروبا بيتنا المشترك -هكذا بالنص- ونحن مثل ناس في شقق، فـ
ألمانيا و
بريطانيا و
فرنسا شقق في هذا البيت حتى يقول: لماذا يقبل الغرب على الثقافة الأمريكية: ثقافة الجنس، ثقافة العنف، ثقافة الجريمة، ويترك الآداب الإنسانية الأوروبية، نحن يجمعنا أدب واحد، تجمعنا حضارة واحدة، يجمعنا دين واحد، حتى يقول: الدين وحَّدنا وهو
الكاثوليكية، واختلفوا على مرور ألف سنة على دخول
الكاثوليكية إلى
الاتحاد السوفييتي.
يقول: و
أوروبا شيء واحد، عندما ننظر إلى ضرورة أن تعود
ألمانيا دولة واحدة، وتسحب منها القوات الأجنبية، فـ
روسيا جغرافياً موجودة في
أوروبا، لكن
أمريكا إذا سحبت قواتها تكون من وراء البحار، إذن هنا نقطة أساسية في العملية الاستراتيجية العسكرية ما بين الدولتين.
طبعاً الإعلان الذي أعلن عن توحد
أوروبا هو توحد دول يسكنها ثلاثمائة وخمسة وعشرون مليوناً، ومعنى ذلك أنها أكثر من
الولايات المتحدة الأمريكية، ومن
الاتحاد السوفييتي التي يسكنهما تقريباً مائتان وسبعون مليوناً.
إذاً:
أوروبا ستكون أقوى سكانياً، و
جورباتشوف يريد احتواء هذا بطريقة أن يضيف إلى الثلاثمائة وخمسة وعشرين مليوناً المائتين والسبعين مليوناً الذين في
الاتحاد السوفييتي فتصبح أوربا قوية.
ويقول: نحن لدينا خبرات، لدينا تقدم في إنتاج الفولاذ وغيره، ولدينا موارد هائلة، ولدينا امتداد جغرافي كبير، نستطيع توظيف الأموال الأوروبية فيه، وبذلك ينفصل الغرب عن
الولايات المتحدة الأمريكية، فتكون النتيجة أن توجد
أوروبا الموحدة، والتي إذا ضمت لها
أوروبا الشرقية مع
الاتحاد السوفييتي سيكون شيء لا يكاد يصدق، أكثر من سبعمائة مليون قوة بشرية وعلمية هائلة، وتجد
أوروبا الغربية إما أن توافق وإما لا قيمة لها، شعاراتها مفقودة، وستجد على الأقل أن الأحزاب
الشيوعية فيها و
الاشتراكية ستطالب وتقول: لم لا ينظم
الاتحاد السوفييتي إلى
أوروبا الغربية؟
فإذا قيل: إنها دولة استبدادية، سيقال لهم: لقد انتهت الاستبدادية، وانتهى الظلم وانتهت الاشتراكيات، والآن أصبحت أحزاب
ديمقراطية، فلماذا لا تمدون لهم يد العون؟
و
الشيوعية متغلغلة حتى في غير الأحزاب
الشيوعية، ومتغلغلة في
أوروبا الغربية، والنتيجة المتوقعة أنه ستقتنع
أوروبا، بشكل ما على الأقل، ويعجب المرء عندما يسمع طبعاً نداءات
جورباتشوف المتكررة بتعجيل مؤتمر الأمن القومي الأوروبي، وإدخال
الاتحاد السوفييتي ضمن هذا المؤتمر، وأن تُعلن
أوروبا الموحدة ومن ضمنها
الاتحاد السوفييتي.
إذاً سوف تتوحد
أوروبا بشكل ما؛ لتصبح سبعمائة مليون أو أكثر لتكون قوة واحدة في مواجهة العالم، وبطبيعة الحال الأموال الأوروبية بدأت تتدفق من
ألمانيا الغربية غيرها، إلى دول
أوروبا الشرقية، وهذا أقوى شيء يؤمن به الغرب، وهو الاقتصاد والوحدة الاقتصادية.
يبقى هناك
أمريكا هل ستستسلم
أمريكا بهذه السهولة، وتعطي
أوروبا شرقها وغربها لقمة سائغة لـ
جورباتشوف؟
هذا غير معقول، فلا يمكن أن
أمريكا التي أنست الناس كل أنواع الاستبداد والاستعمار القديم، باستعمارها الفظيع الحالي للعالم كله تقريباً جوه وبحره، وإنما
أمريكا وجدت عدة وسائل لتضغط بها على
الاتحاد السوفييتي.