المادة    
وهنا نقول: من هذا الكلام ومما بعده نستنتج أن المدائن أو الأمصار على ثلاثة أصناف:
  1. المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر

    الصنف الأول: المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر والبدع المكفرة، كبدعة هؤلاء الباطنيين وأمثالهم، فإذا غلبت على بلد من البلدان وظهرت وانتشرت، وكان أئمته منهم، فإن حكم الصلاة حينئذٍ أنها لا تصح، فلا يجب على أهل السنة أن يصلوا خلفهم؛ لأن الأصل هو الوجوب، بل أقول: لا تصح الصلاة خلف المعين المعلوم أنه من هذه الفرقة الكافرة المرتدة وإن كانوا ينتحلون الإسلام ويدعونه، وعلى أهل السنة في هذه الحالة أن يصلوا وحدهم إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا كأن تكون الغلبة لأهل الشر، فيصلون من غير جمعة ولا جماعة، فلو كان واحداً فإنه يصلي وحده، أو متفرقين صلوا فرادى فإنه لا يجب عليهم في هذه الحالة أن يصلوا خلفهم؛ لأن صلاتهم باطلة.
    والقاعدة تقول: من كانت صلاته باطلة في ذاتها فصلاة المأموم خلفه باطلة، فلا يجوز له أن يصلي خلفه، وبطلانها؛ لأن البدعة مكفرة حيث أن هذا باطني أو مشرك مظهر للشرك الأكبر علانية، فهؤلاء لا يجوز الصلاة خلفهم، ولا تصح.
  2. المدن والأمصار التي يغلب عليها أهل السنة

    الصنف الثاني: وهي مدن أهل السنة، أي: المدن أو الأمصار التي يغلب عليها أهل السنة وتظهر السنة فيها، وهذه هي التي فصّل القول فيها ها هنا، وسيتعرض لها -وقد ذكرنا بعضاً منها- وهو أنك تصلي خلف الأئمة جميعاً، ولا تقول: هذا لا أعرفه حتى تتيقن أنه من غير أهل السنة، بل لا بد أن يكون لك يقين أن هذا الإمام فيه بدعة مكفرة تنقله عن الدين، أما غير ذلك فالأصل هو صحة الصلاة خلفه، وإن كان فاجراً، وإن كان صاحب بدعة -كما ذكرنا من قبل- ولم يمكن الصلاة خلف غيره، ولو كان صاحب بدعة وأمكن الصلاة خلف غيره فهذا يترك.
  3. المدن والأمصار التي اجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة

    أما الحالة الثالثة: إذا كان البلد أو المصر مختلطاً من أهل سنة ومن غيره من البدع، ففي هذه الحالة يكون الأصل هو التحري، كما لو كان بلداً نصف سكانه من الروافض أو الخوارج، والنصف الآخر من أهل السنة، فيجب على أهل السنة أن يتحروا ولا يصلوا إلا خلف من كان إماماً مثلهم من أهل السنة.
  4. حكم الصلاة في تلك الأمصار خلف المرء أو عليه

    ثم يقول رحمه الله: ''فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله، فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة '' وهنا ننبه إلى مسألة هامة: وهي أن حكم الصلاة خلفه مثلها -أيضاً- حكم الصلاة عليه، فأي جنازة تقدم في مصر من أمصار المسلمين فالأصل أنه يصلى عليه، إذا كان في مصر غلبت السنة عليه، أو لم يعلم يقيناً أن هذا الرجل من الفرق -أو من الناس- المرتدين، فإن علمت حاله يقيناً أنه مرتد؛ فلا يجوز أن تصلي عليه.
    وهذه ينشأ عنها قضية أخرى، وهي: إذا علمت أنه مرتد ولا يجوز لي أن أصلي عليه، فهل يجب عليَّ أن أقول للناس: لا تصلوا عليه؟ الأولى أن نقول: هذه مسألة أخرى، وهذه تتعلق بالمصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك؛ لأن الأصل أن الحكم مناط بالمصلحة أو المفسدة، كما فصل -رحمه الله- في هذه الرسالة، وهناك أدلة كثيرة، لكن نكتفي بذكر واحد منها -فقط- وهو القصة المشهورة الصحيحة: قصة عمر مع حذيفة رضي الله تعالى عنهما.
    حيث كان عمر رضي الله عنه ينظر إلى حذيفة فإن صلّى على الجنازة صلّى، وإن لم يفعل لم يفعل؛ لأن حذيفة رضي الله تعالى عنه يعلم المنافقين بأعيانهم، وقد أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعيانهم، لكن مع ذلك لم يقل حذيفة: يا أصحاب رسول الله! هؤلاء المنافقون لا تصلوا عليه، وكذا عمر وهو أمير المؤمنين لم يأمر الناس بذلك، وإنما هو بنفسه لم يفعل.
    والحقيقة أن الرسالة عظيمة وقيمة، لكن أقول: هناك قضايا لا بأس أن نبسطها، وهي قضايا مهمة جداً، تدل على حكمة الدعوة وحكمة المعاملة، وشَيْخ الإِسْلامِ في رسالة الحسبة ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي رسائل كثيرة بسط هذه المسألة، بل هي ظاهرة في السنة كظهور الشمس لمن أراد الحق وتبينه .
    فـعمر أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، ومع قوته في الحق التي لا تخفى، وهو الذي لم يرفع المبتدعة رأساً في زمنه، ولم يستطع الخوارج ولا الشيعة ولا غيرهم أن يرفع رأسه في زمنه، لقوته في الحق رضي الله تعالى عنه كان يستطيع أن يقول للناس: لا تصلوا، فكيف يقتصر على نفسه هو ولم ينه غيره؟ وذلك لأن هذا الأمر فيه سعة، فصلاتك عليه أنت تؤجر عليها لأنك صليت وامتثلت أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعني صلاتك عليه: شهادتك له بالإيمان.
    وحتى لو شهدت له وقلت: هذا رجل مؤمن -مثلاً- مع أنه رجل باطني مرتد، أو رافضي وأنت شهدت أنه مؤمن على ما ظهر لك فإن الله لا يؤاخذك على ذلك! وسيأتي المصنف بالشواهد الكثيرة .
    والشاهد أن الصلاة صحيحة خلف مستور الحال، وكذا الصلاة عليه.
    بل ذهب الأئمة في كتب الفقه إلى أبعد من ذلك، كما في المغني والمجموع للـنووي أنه لو قتل في المعركة واختلط أموات الكفار بشهداء المسلمين، قال بعض العلماء: يغسل الجميع ويكفن الجميع، ويصلى على الجميع، وقيل: يصلى عليهم واحداً واحداً، قالوا: وذلك تغليباً لجانب الإسلام.
    والكلام معروف في أن الشهداء لا يصلى عليهم، لكن قد يكون قتال فتنة، وقد يكون دماراً أو زلزالاً .
    المهم إذا قتل مجموعة، واختلطت جثث الكفار بجثث المسلمين في غرق أو حريق أو أي شيء آخر.
    والمقصود أن الأئمة نظرتهم كلهم نظرة تغليب الإيمان، ولم يقل أحد أن الجميع يدفنون بلا صلاة ولا كفن لوجود كفار بين هؤلاء المسلمين. مع أنه قد يكون في المسلمين -والله أعلم- من نعلم حقيقته في الباطن أنه مرتد، لكن يجب علينا أن نعامله بالظاهر، ولم يكلفنا الله تعالى بغير ذلك، ولا يحاسبنا على غير ذلك، وإن أخطأ أحد فنسب مؤمناً إلى النفاق أو الردة، أو أخطأ فنسب مرتداً إلى الإسلام مجتهداً مخطئاً؛ فهذا لا مؤاخذة عليه، والأدلة الصحيحة على ذلك كثيرة، وسيأتي بعض منها -إن شاء الله- هنا.
  5. صلاة الصحابة خلف الفجرة والظلمة

    ثم يقول: ''وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره'' أي ليس فقط من لا يعرفون حاله، بل صلوا خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد شرب الخمر، وصلى الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك، وقصة الوليد بن عقبة مشهورة في التاريخ، وجَلْدُ عثمان بن عفان رضي الله عنه له مشهور في التواريخ، وبعض الناس يطعن في صحتها على أساس أنه كيف يصلي الصحابة أربع ركعات خلف إنسان سكران، وكيف يصلون الفجر أربع ركعات؟!
    فأقول: لا يلزم من يصححها أن الصحابة صلوا الفجر أربع ركعات، لأن الإمام إذا قام خطأ، فإنه لا يتابع في ذلك، بل ينتظرونه حتى يكمل الركعة، ولهذا قال لهم: أزيدكم! حتى قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا في زيادة منذ اليوم.
    فلا يلزم بطلان القصة من جهة متنها، وإنما من جهة السند، وهذا شيء آخر راجع إلى اختلاف العلماء في هذه الأمور من الناحية الحكمية، لكن شَيْخ الإِسْلامِ كرر الاستدلال بها أكثر من مرة بناءً على أن كثيراً من الفقهاء استدلوا بها كدليل معتمد أو كدليل استئناس، والمهم أن فقهاء المذاهب الأربعة لا يعتمدون على هذا الدليل وحده، لكن مذهبهم من مجموع الأدلة هو: صحة الصلاة خلف الفاسق.
    قال: ''وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف -وهذه الواقعة متفق على صحتها لا ينازع في ذلك أحد- وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد -المختار ابن أبي عبيد كذاب ثقيف- وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال'' .
    ولعل قائلاً يقول: كيف يصلون وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كـعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود وأمثالهم خلف هؤلاء؟
    فنقول: هؤلاء مع ظهور بدعتهم أو ضلالتهم أو فجورهم ليسوا مجرد أئمة صلاة، وإنما كانوا أئمة حكم أو نواب عن أئمة الحكم، فهنا لو لم يصلوا خلفهم لحدثت فتنة عظيمة.
    والمختار بن أبي عبيد الكذاب الذي من ضلالته قيل: إنه ادعى النبوة وما أشبه ذلك، ونقل تكفيره عن كثير ممن عاصره، هذا المختار ما كان ينتحل ويدعي الكفر ويظهره، إنما كان يقول: إنه داعية إلى أهل البيت، وأن الإمام الحقيقي هو محمد بن الحنفية- محمد بن علي بن أبي طالب، لكن يقال له: ابن الحنفية لأن أمه ليست فاطمة رضي الله تعالى عنها، وإنما أمه امرأة من بني حنيفة- فـمحمد بن الحنفية كان المختار يدعي أنه هو الإمام.
    وكثير من الأمة يقولون: إن محمد بن الحنفية أفضل من بني أمية، ومن المؤلم جداً أنه في سنة (60 أو61) هـ حج الناس تحت ألوية ثلاثة أمراء في وقت واحد، فوقفوا بعرفات ثلاثة ألوية، لواء لـابن الزبير، ولواء لبني أمية، ولواء لـمحمد بن الحنفية، وكانت الفُرقة عظيمة، فلم يشأ الصحابة أن تزداد فرأوا أن يصلوا خلف هؤلاء حتى يفرج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأمة، ويأتي بإمام يجمع شملها، وقد اجتمع شملها بعد ذلك، والمقصود هو المصلحة، فحيث كانت المصلحة راجحة وترك الفتنة هو الأرجح وهو الأولى دائماً أخذ بها.