كما نحمده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذه النقلة المرحلية التي لا يدركها إلا من عايش المرحلة السابقة، فهذه المرحلة تقوم على التخطيط والتعاون وعلى نشر الخير، وبذل الجهد وإيصال الحق والدعوة إلى كل بيت وبوسائل متعددة، أما في المرحلة السابقة قبل عشرين سنة أو أكثر فكانت الدعوة بالموعظة فقط.
فهذا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، مرت به فترة في تلك السنوات وبشهادة الإخوان الذين في مكتبه، أنه كان يأتي ليلقي الدرس في المدينة فيجتمع حوله حلقة صغيرة وكلهم من طلاب الجامعة.
أما إذا سافر من المدينة إلى الرياض وألقى الموعظة فمرة -بل مرات-لم يكن عدد الحاضرين أكثر من خمسة أشخاص، وهذا الشيخ محمد الموسى حفظه الله يعلم ذلك.
ثم انتقلت الدعوة وتطورت وتوسعت، وأصبحت الموعظة جزءاً بسيطاً جداً من مجالات الدعوة، فعندنا المحاضرات والندوات المشتركة، ثم الكتيبات والنشرات والأشرطة، والمسابقات والمجلات والانتشار الإعلامي مما جعل الدعوة -ولله الحمد- من العمق والتجذر في المجتمع بحيث لا تقوى أي ريح على اقتلاعها بفضل الله.
ولذلك نحن الآن في مرحلة اطمئنان على الدعوة، ولا يمكن أن تعود إلى الوراء أبداً بإذن الله، لكن -أيضاً- المصاعب، والمتاعب، والمشاكل التي تحيط بالأمة عظيمة جداً هذه الأيام، وفتحت أبواب من الشر لم تكن موجودة، وجاءت تيارات عارمة ما كان أحد يتوقعها، أشبه ما تكون بالفيضانات التي لا تبقي ولا تذر، ومن هنا يجب علينا أن نقاوم هذا بهذا، وأن نطور أعمالنا -أيضاً- أكثر فأكثر، فلا ندع مجالاً للدعوة إلا سلكاناه وسخرناه.
كما أن العلاقة العامة والمحبة، والتهادي، وبث الأخوة ونشرها بين أفراد المجتمع، من أفضل وسائل الدعوة الممهدة لها، ثم بعد التمهيد ينطلق كلُّ منا في ميدانه، فيجب على كل واحد منا أن ينشر من الحق بقدر ما يستطيع، في بيته وأهله وعمله وفي السوق.
فمثلاً: الحث على الصلاة، ليست وظيفة خاصة بالهيئة فقط؛ بل كل واحد منا يجب عليه إذا مر بالسوق أن ينكر وأن ينصح ويذكّر، وأن يحث أهل السوق وكل من يجد في الطريق على الصلاة، فإذا قام كل واحد منا بهذا؛ تغير سلوك الإنسان، وينبغي لكل واحد منا في إدارته الحكومية التي يعمل فيها، أو في مجاله الذي يعمل فيه أن يظهر من الدين ما استطاع، من فتوى يعلقها على جدار، أو نصيحة يدعو إليها، أو موعظة يلقيها، فإن رأى منكراً يذهب إلى المدير أو إلى أي مسئول ويقول: هذا لا يجوز ويكون باللطف، فإن أصررتم نشكو، ونقدم ونطالب، وهكذا لو ظهر أي منكر، حتى لو وصل الحد أن يرسل كل واحد منا برقية أو فاكساً، ونفعل ذلك بكل حكمة، وأناة، وبكل أسلوب ممكن.
المهم أن المرحلة مرحلة انطلاق، وليست مرحلة وقوف ولا تأخر ولا تقهقر، انطلاقة مدروسة ومحكمة، كما قلنا: بضوابط الشورى، والتناصح وباتباع الدليل؛ لأنها قائمة أصلاً على: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف:108].
فهي قائمة على العلم الشرعي وقائمة على الدليل، فلو كان الأمر مجرد اختلاف آراء واجتهادات، فنحن نعلم -جميعاً- أن الاجتهادات والآراء تتنوع ولا حرج في ذلك، لكن الكلام هو في مخالفة أمر الله وشرع الله، فلا يحق لأحد منا أن يتعلل بالعلل الواهية التي قد يأتي بها الشيطان، أو أن نتخاذل ونتواكل وكل واحد منا يقول: الإخوان يكفون، أو فيهم بركة، أو لعلهم يفعلون كذا وكذا، بل على كل واحد منا أن يُؤدي دوره، وأن يستشعر كل منا أنه على ثغر، فالله الله أن يؤتى هذا الدين وأن تؤتى هذه الدعوة من ثغرته.
فأرجو من كل واحد منا ومن الدعاة أن يفكروا، وأن يدبروا جيداً أمر هذه الدعوة، وما هيأ الله تبارك وتعالى لها في هذه المرحلة، وما يتوقع لها من خير، وأن ننظر دائماً من عين التفاؤل، والأمل، والثقة بالله -تبارك وتعالى- والتوكل عليه، وأنه لن يأتي الخذلان إلا من أنفسنا، كما قال تبارك وتعالى للصحابة الكرام أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) [آل عمران:165]، ولكن لنتأمل؛ ولنتدبر حالنا، ولنعد النظر في أمورنا الدعوية، وفي علاقاتنا، ومدى تعميم وتوسيع ونشر الخير في المجتمع، ونعيد النظر في قضية هل نحن فعلاً نخاطب كل إنسان؟
وهل خطابنا له بما يعقله ويفهمه وعلى قدر حاله؟
أم أننا نخاطب خطاباً عاماً لكل أحد؟
وهذا فيه خير لكن لا يؤدي الثمرة المطلوبة.
كل منا يجدد فينظر ويستعين بإخوانه؛ فإن المؤمن مرآة أخيه، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آخراً كما سألناه أولاً أن يبارك هذه الجهود الطيبة النافعة، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل هذا الكفاح وهذا التقدم بادرة خير لما بعده، وأن يجعله نصراً عظيماً لهذه الدعوة، ونهوضاً وقياماً لها، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد.