المادة    
ثانياً: إن إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر، أو إلى مفسدة اعظم، فإنه لا يجوز الإنكار.
فليس الغرض مجرد أن تنكر، أو أن تتشفى بالإنكار، أو أن تنتقم من صاحب المنكر، بل الغرض هو أن يطاع الله تبارك وتعالى، فإذا كنت تسعى إلى أن يطاع الله وجئت بما يؤدي إلى معصية أكبر فلا تفعل ذلك، وقد بين الله ذلك في القرآن للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، يقول عز وجل: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)) [الأنعام:108] فنهى الله تبارك وتعالى عن ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يتجرأ المشركون فيسبوا الله عز وجل.
فإذا كنت في مجلس، أو جمعك ركب ما بقوم لو شتمت أهل المعاصي لشتموا وسبوا أهل الخير والإيمان، ولو أنك شتمت رءوس البدعة، ورءوس الشرك والضلال للعنوا وسبوا وشتموا رءوس أهل الإيمان والتوحيد، فعليك ألا تفعل ذلك، ولو ذهبت إلى إنسان تعلم من حاله أنك لو أمرته بمعروف ما لأعلن الكفر وسب الله ورسوله فلا تأمره.
ومن المصائب أن يقع هذا في مجتمعنا، وأن يوجد في ظل هذا المجتمع الذي ترتفع فيه المآذن في كل حين وتملأ الأجواء بالتكبير والشهادة لله تعالى بالتوحيد، ولمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، من يسب الدين. وإننا كنا نتوقع ألا يوجد سب الدين، في أي مجتمع مسلم وأن يخلو من سب الدين، فكيف يوجد هذا السبب في المجتمع الذي يعاقب الإنسان إذا لم يلتزم بصلاة الجماعة، فكيف بمن يسب الله ورسوله! لكن هذا هو الواقع للأسف.
فلا بد إذاً أن ننتبه إلى هذا الأمر، فلا ننكر المنكر إذا كنا نتوقع أن يقع منكر أكبر منه.
وأيضاً لا ننكر المنكر بوسيلة غير مشروعة، فالمنكر منكر، فلا ينكر المنكر بمنكر آخر؟ لأنهما منكران، فما هذا بأولى من ذاك، وإنما ينكر المنكر بالأمر المشروع وبالمعروف وبما أمر الله تبارك وتعالى وبما شرع.
  1. تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ولهذا لا نصدم مشاعر الناس في أمور لو أخرت لكان خيراً، وهذه أحد القواعد التي تتفرع عن هذه القاعدة، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأم المؤمنين عائشة: {لولا أن قومك حديثو عهد بشرك أو بكفر، لهدمت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم} فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي غيَّر ما كان عليه العرب من الدين، وقاتلهم على ذلك قتالاً، ودخلوا في دين الله عز وجل برغبة وصدق، وبالسيف والجهاد، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يحكم جزيرة العرب جميعاً، والذي إذا قال أطيع، ومع ذلك يذكر المانع من أن يجعل الكعبة على قواعد إبراهيم، مع أن جَعْل الكعبة على قواعد إبراهيم مصلحة وتحقيق لأمر شرعي؛ وهي أن تكون كما بناها الخليل عليه السلام؛ لكن ما الذي يمنع من تحقيق هذه المصلحة؟
    المانع هو أن العرب حديثو عهد بالكفر، وهم إنما آمنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوه لأنه يعظم حرمات الله، ويعظم ما عظم الله، ويوحد الله، ويدعو إلى دين إبراهيم، وكثير من الناس ينظرون إلى الدين بهذا المنظار، ولا يفطنون إلى ما وراء ذلك من حكم ومصالح، فكل ما في الأمر عندهم أن هذا هو دين التوحيد، وأننا اتبعناه من أجل ذلك، والكعبة في أذهانهم تمثل حقيقة التوحيد ورمزاً للتوحيد وللدين، فإذا هُدمت وغُيرت فكأنها تغيرت ملة إبراهيم، وكأن المنهج الذي رسمته الأذهان فيه خلل وخطأ.
    إذاً لا بد من الإنكار عليه، ولهذا لم يشأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدم هذه المشاعر.
    ولهذا نقول: إن علينا أن نعلم أن الإنسان وإن آمن واهتدى، واستقام، فقد يُترك له بعض التجاوزات والمخالفات لا إقراراً لها، أو اعتقاد حلها والانكار على من أنكرها بدعوة مصلحة الدعوة...ولكن يقال: مصلحة الدعوة أن يؤخر الإنكار وأن يؤخر التغيير.
    أرأيتم لما وضعت الكعبة على قواعد إبراهيم أيام عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه ما الذي جرى؟ لم يجر شيء، لأنه قد انقضى ذلك الجيل وولدت أجيال على التوحيد، فالذي أمر به عبد الله بن الزبير أمر مشروع، ولم يحدث أي منكر ولا إنكار، لأنه جاء في حينه.
    ومن هنا لا نتوقع أن ننكر المنكرات دفعة واحدة، والشيء المؤلم والمؤسف اليوم أن في المسلم جملة منكرات فتجده متهاوناً بالصلاة ويسمع الغناء، ويرى النساء الأجنبيات، ويغش في البيع والشراء، ويكذب، ويغتاب والله المستعان! إنها مصائب مجتمعة ومنكرات.
    فإذاً نحن مع قولنا في الأول بالبدء بالأهم فالأهم، والبدء بالظاهر قبل الباطن، نقول أيضاً: إن مما يجب، هو أن نؤخر ما قد يصدم مشاعر هذا الإنسان، فيجعله يرجع عما هو عليه من الحق، فإذا اهتدى وبدأ يقيم الصلاة، فنحرص بعد ذلك أن نبين له أن سماع الأغاني حرام، وأن رؤية النساء في الشارع أو في التلفاز أو في المجلات حرام، ولنبدأ بذلك حتى يدخل في الدين تدريجياً، ويرسخ الإيمان في قلبه بالتدريج، ولا نتعجل ونقول: ما دام أنه اهتدى اليوم، فيجب في هذه اللحظة وفي هذا الوقت أن يبادر فيحافظ على الصلاة، ويترك المنكر الظاهر والباطن، وأن يترك جميع المنكرات التي هو عليها، فهذا من توقع المحال، وهذا مما يجعل بعض الدعاة يفشل في دعوته، لأنه توقع ذلك، والحقيقة أن النفس لا بد لها من التدرج، فبعض الأمور قد تؤجل إلى أمد ما محافظةً على الأصل الموجود، لكي ينمى الإيمان في قلبه، ثم بعد ذلك يترك ذلك.
  2. مثال توضيحي للقاعدة

    ولعل من الأمثلة التي توضح هذا: أنه إذا اقتصر الدعاة إلى السنة على إنكار الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنكره، وعلمنا أن ننكره، والأحاديث في ذلك معلومة؛ لكن لو أننا نقتصر فقط على أن نذكِّر أن الغلو في محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، فإنه سوف يكون مدخلاً لأهل البدع، ومدخلاً لبعض المهتدين الذين هم قريبو عهد بالبدع أن يقولوا: إن هؤلاء الناس لا يعرفون من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا النهي عن الغلو فيها، ولا يتحدثون عنها، ولا يأمرون بها، إذاً ما هو الواجب في هذه الحال؟ الواجب أن نبدأ بالتذكير بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته، ونجعل النهي عن الغلو فيه مع ذلك وضمنه، وإلا فقد يفتن بعض الناس من هذا الباب، يفتنه الشيطان أو يفتنه شياطين الإنس بمثل هذا الشبهات، ولا يخفى عليكم الأمثلة التي توضح ذلك في واقعنا اليوم.