المادة    
وأول ما نضعه من هذه الضوابط والقواعد: أن نعلم أن الآمر بالمعروف وأن الناهي عن المنكر إنما هو داعية إلى الله تبارك وتعالى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جزء من الدعوة، وإن شئت فقل هو الدعوة كلها ولا غضاضة. فليس المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: التشفي أو الثأر أو الانتقام من هذا الواقع المر، أو من هؤلاء العصاة وإن جاروا وإن بغوا على أهل الحق والخير، وإنما هو جزء من الدعوة إلى الله، فالصبر فيه صبر على الدعوة إلى الله. وطلب العلم من أجل ذلك واجب. والحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة؛ لأن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن كما بين الله ذلك. أي أننا نستطيع أن نقول: إن كل ما ينضبط به منهج الدعوة إلى الله ويقوم عليه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً يتقيد بتلك الضوابط، وينضبط بتلك القواعد.
  1. فقه الأولويات

    والأمر الثاني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكر الأصغر منه.
    وحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها شاهدة على ذلك، حيث بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يزنون، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويقطعون الأرحام، ويأكلون الميتة، ويشركون بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله.
    فبماذا بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته وإنكاره على المشركين؟
    لقد بدأ بالنهي عن الشرك أولاً.
    فإذاً نبدأ بإنكار الشرك، لأن الشرك هو المنكر الأكبر، وهو الذنب الأعظم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48] ونحن دعاة وهداة نريد أن ندعو الناس إلى طريق الجنة.
    فلنبدأ إذن بإنكار الذنب الذي لن يصلوا أبداً إلى طريق الجنة وهم مرتكبون له، ونوضح لهم ذلك، وإذا كان ذلك يستلزم منا العلم فلنتعلم.
    فيجب أن نتعلم ما هو التوحيد وما هو الشرك، وما هي أنواعه، وما هو الشرك الأكبر وما هو الأصغر، وما هي أحكامه، وما هي ذرائعه، ووسائله التي تُوصل إليه.
    وذلك لأن الذرائع والوسائل لها حكم المقاصد، فننكر المنكر الأكبر، وننكر ما يؤدي إلى المنكر الأكبر، وهذه هي الدرجة الأولى، فإذا كان الداعية في أمة فليبدأ بذلك، وإذا كان مع فرد فليبدأ بذلك.
    فمثلاً: رجل يدعو غير الله عز وجل، ورجل يتحاكم إلى الطواغيت، ورجل يذبح لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أول ما نهتم به بأن ندعوه إليه هو أن يتخلى عن هذا الشرك، وأن يسلم قلبه وروحه لله وحده لا شريك له، قال تعالى:(( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) [الأنعام:162-163].
    فيجب أن نهتم بأن ندعوه أولاً إلى تحقيق التوحيد.
    أرأيتم لو أن أمة من الأمم تعبد الأضرحة والقبور، وتدعو غير الله، وتستغيث بغير الله، وتذبح لغير الله، وتتحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، ومع ذلك نجد أنها تملأ المساجد للصلاة، ونجد أن وعاظها ينكرون الزنا، وشرب الخمر، ويجتهدون في ذلك، هل ترون هذه الأمة يمكن أن تصل إلى أن تكون من الأمة التي فضلها الله على العالمين؟ أو أن تلك الدعوات ستنجح في أن تصبح هذه الأمة كذلك؟
    لا مهما دُعي ومهما تُكلم عن تلك الفروع فلا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تكون من الأمة التي لها الخيرية على العالمين.
    فكل دعوة إصلاحية أخلاقية لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوة مخفقة لا تنجح بأي حال من الأحوال.
    وكذلك الفرد: فلو دعوت إنساناً من هذا النوع فحافظ على الصلاة، وترك الخمر والزنا، ولكنه يدعو غير الله، ويحلف بغير الله، ويعدل بالله تبارك وتعالى غيره، ويعترض على قضاء الله، وما أشبه ذلك مما يخل بالإيمان والعقيدة، فنجده يصلي لله، ولكنه لا يدري أين الله -كما يقول بعض الناس إنه في كل مكان- وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا أنه على العرش: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] فهو فوق المخلوقات على العرش، فإذا صلى هذا الرجل وتهجد وتعبد ولكنه يتعبد لإله يظنه في كل مكان، فإن هذا الإنسان لم يحقق حقيقة الإيمان.
    إذاً نقول: إن البدء بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبد الله تبارك وتعالى على بصيرة وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلق الإنسان.
    فالإنسان العاق لوالديه -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهو أيضاً قاطع لرحمه من الأقربين، نبدأ معه في الدعوة والإصلاح والإنكار بالحق الأعظم، لأنه ليس لأحد بعد الله تبارك وتعالى حق أعظم من حق الوالدين، وحقهم قبل بقية الأرحام، والجار، وسائر الحقوق.
    فإذا أردت أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، فرتب هذه الحقوق، ورتب أنواع المعروف، وكذلك رتب أنواع الشرك، وأبدأ بالأهم ثم الأهم.
    ولا يمنع ذلك أن تبدأ دعوتك بالمحبة وبالحكمة وبالحسنى، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يكون الاهتمام هو أن أغير المنكر الأكبر عنده، وأن أزيل عنه هذا المنكر، حتى إذا بقيت عنده كبائر فهي أهون من المنكر الأكبر، وهي كبائر أسعى إلى تغييرها، ولكن بعد أن أكون قد اطمأننت إلى أن المنكر الأكبر قد قضي عليه، وأنه لا وجود له.
  2. أهمية الدعوة إلى التوحيد في المجتمعات التي يقل فيها الشرك

    والمجتمعات التي يقل أو يختفي فيها الشرك بوضوحه -الشرك الأكبر المخرج من الملة- يجب ألا تغفل هذه القضية، وأنا أنبه إلى هذا لأننا مغزوون، ولأن المجتمعات التي ورثت التوحيد وهي عليه بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل الذين قاموا بدعوة التوحيد التجديدية مع ذلك هذه المجتمعات تغزى، والقلوب إذا طال عليها الأمد تقسو، والغفلة تعتري الناس، والشيطان يوسوس، وإلا فقد كانت الأمة كلها على التوحيد، حتى حدث الشرك في قوم نوح.
    إذاً لا نطمئن ونقول: دعونا من هذا الكلام، والآن نتكلم في الربا والزنا والخمر، وما أشبه ذلك، ونترك التوحيد والشرك، فهذا الكلام خاطئ، لابد أن ندعو إلى ذلك حتى الذين لا شرك فيهم، ونذكرهم ونذكر أنفسنا بذلك، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)) [النساء:136].
    وهنا يلاحظ الثبات على الإيمان، والاستمرار عليه فهو الأساس، وبعد ذلك على هذه القاعدة تقوم جميع الطاعات، ولو أننا عرفنا حقيقة التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبداً.
  3. علاقة المعاصي بالشرك

    ولننظر إلى الذي يأكل الربا لماذا يأكله أليس لأن قلبه قد غلب عليه حب الدنيا؟ فهو يأكل الربا، والرشوة وأمثال ذلك من المنكرات التي يرتكبها، وهو يعلم أنها حرام؛ لأن القلب في الحقيقة ضعيف الإيمان، أو فاقد الإيمان، ولهذا آثر الحياة الدنيا على الحياة الأخرى، وأتبع نفسه هواها.
    فإذاً ابدأ معه وذكره بالأساس، وإن كان يقول أنا على التوحيد وعلى الإيمان ولا شرك عندي، فنقول له: هل نسيت شرك الإرادة؟ وهل نسيت شرك المحبة؟ فإن محبة الشيء محبة شيء إذا تغلغلت في القلب، حتى طمست على محبة الله ورسوله فإنه شرك، وإذا أريد عمل أمر ما يقدم على أمر الله ورسوله فهذا شرك خفي.
    فإذاًَ لا بد أن نعرف أن كل منكر له أساس من الشرك، بل قد كان بعض السلف يطلق على كل الذنوب شرك، ولا يقصد أنها تخرج صاحبها من الملة كما فعلت الخوارج، وهذا معلوم ونحن لا نكفر من يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يزني، فمذهب أهل السنة والجماعة أنه مسلم لكنه ليس لديه إيمان، فالإسلام فوقه درجة هي درجة الإيمان، والإيمان فوقه درجة هي درجة الإحسان، لكن بعض السلف سمى الذنوب جميعها شرك؛ لأن أصلها جميعاً هو اتباع الهوى، فمن اتخذ إلهه هواه فقد أشرك بهذا الشرك الخفي، وإن كان لا يأخذ حكم الشرك الظاهر الذي يخرج من الملة.
    فهذه القاعدة يجب أن نتنبه لها ونحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعو إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.
    والقواعد والضوابط التي يجب الاهتمام بها في حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي: