المادة    
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى لحق بالرفيق الأعلى، وعلى أصحابه الكرام الذين اهتدوا بهديه، وتمسكوا بسنته، وجاهدوا في الله كما جاهد حتى وصل إلينا هذا الدين، فنحمد الله تبارك وتعالى على نعمة الإيمان، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من التابعين لأولئك السلف الكرام، إنه سميع مجيب، وبعد:
فإن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهو من أولى وأوجب ما ينبغي أن يتحدث عنه الدعاة والوعاظ والخطباء، فهو واجب من الواجبات التي شرعها الله تبارك وتعالى، بل هو واجب يترتب على تحقيقه واجبات كثيرة، بل كل الواجبات إذا تأملنا نجد أنها لا تتحقق، وكل المنهيات لا يُنتهى عنها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة المباركة فقال: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))[آل عمران:104] ثم عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد هذه الآية فوصف حال هذه الأمة، وأفضليتها وخيريتها فقال: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110] ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدم على الإيمان بالله.
وكل المسلمين يعلمون أنه لا شيء يتقدم على الإيمان بالله، فلماذا قُدِّم في هذه الآية؟
ذلك لأن الآية تتحدث عن الخيرية والأفضلية، وعن الميزة والخاصية التي تتميز بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، فقدم فيها الخاص، ثم ذكر بعد ذلك الأمر الأساس الذي لا يقبل بدونه أي عمل، ولهذا عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوصف حال أهل الكتاب الذين كان من طبعهم أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)) [المائدة:78-79] فعقب على هؤلاء القوم بعد ذلك فقال: ((لَيْسُوا سَوَاءً)) [آل عمران:113].
فبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا كلهم بهذه المثابة، وإنما فيهم من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأولئك وصفوا بالإيمان ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي الحالة الطبيعية، وهذا هو الوصف العادي الذي توصف به الأمم جميعاً، لكن هذه الأمة لأنها أُخرجت للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالة للعالمين فهي أولاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهذا ما يميزها، وهذا ما تختص به دون غيرها من الأمم التي قَصَّرت في ذلك أو كانت دونها.
  1. علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقيقة الدين

    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تعرف أهميته من معرفة حقيقة هذا الدين، ومعرفة حقيقة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي شيء دعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فإذا عرفنا أن هذا الدين يقوم على أساس لا إله إلا الله، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل نبي قبله- إنما جاء ليدعو الناس إلى هذه الكلمة، وإنما جاهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل تحقيق التوحيد الذي هو لا إله إلا الله: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) [الأنبياء:25].
    فلا إله: هذا النفي نبذ للشرك ولكل ما يتبعه من المعاصي والمنكرات.
    وإلا الله: هذا الإثبات تحقيق للتوحيد.
    والتوحيد هو المعروف الأكبر، والشرك هو المنكر الأكبر، ثم بعد ذلك تكون البدعة هي المنكر الذي يلي الشرك ثم المعاصي المعروفة.
    فإذا علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش حياته كلها ومعه صحبه الكرام يدعون إلى توحيد الله، ويأمرون بالسنة، وينهون عن البدعة، ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية، عرفنا أن حياتهم كلها إنما كانت أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهكذا من سار بعدهم واقتفى منهجهم.
  2. من آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمة وإخلالها بهذا الشأن، وكأن ما حل ببني إسرائيل قد وقع بها -ونعوذ بالله أن تنزل بها اللعنة كما نزلت بأولئك- فلقد نسينا أن الله تبارك وتعالى قد خصنا وميزنا بذلك، ونسينا أن الجهاد الذي هو أعلى درجات التضحية والفداء إنما هو من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا لما قال عز وجل: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) [الحج:39] وصفهم بعد ذلك بآية، فقال: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)) [الحج:41].
    فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضعف وفي حال بداية الدعوة، وهو -أيضاً- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في حال التمكين وفي حال القوة، وحسبنا أن نعلم أنك -أيها المسلم-!
    دائماً في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب -الواجب العيني- هو أن تأمر نفسك بالمعروف وأن تنهاها عن المنكر، فهذا فرض عين على كل مسلم.
    ثم بعد ذلك كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه} ثم الدرجة الثالثة التي أصبحت هي ذاتها مفقودة إلا عند من رحم الله وهي الإنكار بالقلب.
    ففرض عين على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده، في بيته وإدراته، ومدرسته، وفي كل ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التغيير باليد، وفرض على الأمة جميعاً أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
    أقول: لما غابت هذه الحقائق عن الأمة أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبحت بعض المعاصي علامة على أن الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطباع، أو اجتماعي، أو غير متشدد أو متزمت، وأصبحت الدعوة إلى ترك بعض المنكرات الظاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه... من الصفات التي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال.
    فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هو العلاج؟
  3. أهمية توضيح قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ونحن في هذا الدرس لا نريد أن نتحدث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاته، وعن وجوب ذلك، وعن فرضيته، ولكن الحديث إنما هو عن شيء من القواعد أو الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد تقولون: وهل يحسن أن نتحدث عن القواعد والضوابط مع قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهل وصل الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد الانتشار والعموم الذي يحتاج إلى أن يوضع له قواعد وضوابط؟ فأقول: الحق أن الأمة ما تزال في غيبوبة عن هذا الأمر إلا من رحم الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يعني أن نغفل عن هذه القواعد والضوابط الشرعية، التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل من أسباب ذلك وجود توبة وعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل الشباب ومن قبل الشيوخ -الذكور والإناث- فأصبحت الأمة الإسلامية على أبواب فجر جديد بإذن الله تبارك وتعالى، وأصبحنا نرى أن ما تعيشه الأمة من واقع مظلم، إنما هو ظلمة ما قبل بزوغ الفجر، وإنما هو مخاض تعقبه ولادة جيل لا تأخذه في الله لومة لائم. هذا الذي نؤمله ونرجوه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحققه. ومن أجل هذا الجيل الذي نترقب أن يوجد، ومن أجل هذه القلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نريد أن يكون الطريق أمامها واضح المعالم، حتى يكتب لها الأجر كاملاً بإذن الله، وحتى لا تخطأ أو تضل في هذا الأمر، فيكون منكراً آخراً وانحرافاً جديداً يحتاج إلى تصحيح، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر. والحق أقول لكم: إن هذه القواعد والضوابط تحتاج إلى أكثر من رأي وأكثر من اجتهاد، لأنها مسائل تتبع في الغالب المصالح التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمصالح متجددة بحسب العقول، الأزمان، والأحوال، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهد وأن نفكر، من كان مستطيعاً لذلك ليصل بإذن الله إلى ما يحقق المصالح، وإلى ما يدفع المفاسد في هذا الجانب، ولكن لا يمنع ذلك أن نبدأ بخطوة أو خطوات. ولعل الله تبارك وتعالى -وهو على كل شيء قدير- أن يبارك في كل الإخوان العاملين في هذا الشأن بأن يتموا ذلك، وأن يستدركوا عليه، فهذا واجبنا جميعاً.