المادة    
قوله تعالى: ((عَلَى بَصِيرَةٍ )) أي: ليست الدعوة إلى الله انفعالات ولا عواطف ولا صرخات ولا تأوهات؛ وإنما هي بصيرة؛ فيجب أن ندعو إلى الله على بصيرة.
وقوله تعالى: (( أَدْعُو إِلَى اللَّهِ )) [يوسف:108] أخرج الذين يدعون إلى غير الله؛ فبقي المخلصون الذين يدعون إلى الله، وهؤلاء حالهم بين من يدعو إلى الله على بصيرة، وبين من يدعو إلى الله على غير بصيرة (وكلاهما يدعو إلى الله).
إذاً: لا بد أن نعرف هذا المعنى الثاني، الذي يخرج طائفة من طوائف الدعاة إلى الله، وهو (البصيرة في الدعوة) فما هي البصيرة؟
  1. أولا: حقيقة البصيرة

    أما البصيرة فهي كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن البصيرة هي أن يتعلم ويتفقه في الدين؛ حتى يصبح في قلبه من النور لرؤية الحق مثلما ترى العين المرئي".
    فالبصيرة أن يصبح قلبك يرى الحق مثلما ترى عينك الشيء المرئي، وهذه درجة عظيمة؛ فليس لكل إنسان أن يزعمها أو يدعيها؛ ولهذا فعند تفسير الحكمة، في قوله تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ )) [النحل:125] يتبين لنا ذلك.
    فالبصيرة هذه لا تكون إلا بالعلم، وأساسها العلم، والبصيرة أيضاً تجمع صفات كثيرة، منها: الحكمة؛ فهي إن لم تكن مرادفة للحكمة؛ فهي تشمل معنى الحكمة؛ لأن الذي يدعو إلى الله... إن دعا بالحكمة، أو بالموعظة، أو بالمجادلة، أو بالقتال؛ فكل ذلك -إذا كان على مثل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون على بصيرة؛ فتكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وإلى أي شيء تدعو.
    ألا ترون أن بعض الناس قد يدعون إلى فضائل الأعمال، وينسون الدعوة إلى التوحيد، فأين البصيرة؟! ألا ترون أن بعض الناس قد يدعو رجلاً قريباً من الخير فينفره... فيبتعد عن الخير بالمرة، فأين البصيرة؟! ألا ترى أن إنساناً قد يدعو شخصاً إلى ترك منكر، فينتج عن دعوته حصول منكر أكبر، فأين البصيرة؟!
  2. ثانياً : أهمية الدعوة إلى على بصيرة.

    فلو أن البصيرة موجودة، لحصلت النتائج الحسنة بإذن الله، أو قامت الحجة على من يريد الله أن يقيمها عليه من المعاندين والمستكبرين.
    لكن بعض الناس إن دعا إلى طلب العلم، فقد يدعو إليه على غير بصيرة، وإن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فقد يفعل ذلك على غير بصيرة، وقد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله؛ ولكن على غير بصيرة، (إما إلى غير راية أو إلى راية عمِّية)، والمقصود: أنها على غير بصيرة.
    وحتى التوحيد فقد يدعو إلى توحيد الله، وإلى المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله، ولكن على غير بصيرة.
    إذاً: البصيرة أمرها عظيم، وأسأل الله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين ممن آتاهم الله البصيرة والحكمة في الدعوة إليه، إنه على كل شيء قدير.
    فلابد إذاً من الأسلوب الحسن ومن العلم، ولابد من معرفة المصلحة من المفسدة؛ ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: "ليس الفقيه أو المتبحر الذي يقول هذا حلال وهذا حرام! -ومعرفة الحلال والحرام فقه عظيم ولا يستهان به- ولكن أفقه من ذلك والفقيه الكامل هو الذي يعرف أرجح المصلحتين وأقل المفسدتين.
    وكما نلاحظ في عصرنا الحاضر، فنحن اليوم في عصر غربة، انتشر فيه الفساد، وأهدرت المصالح.
    فلا بد من بصيرة في أي أمر من الأمور؛ لنعرف ما هو أرجح المصلحتين، وأقل المفسدتين، فإن كان أمامك مفسدتان، ولا بد أن تقع إحداهما، فتتجاوز الكبرى وترتكب الأخف، فهذه هي البصيرة، وهذا هو الفقه الذي نريد أن يكون عليه الدعاة إلى الله وطلاب العلم جميعاً.
    وهذا المنهج ليس خاصاً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال الله في الآية: ((عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )) [يوسف:108] أو معناها على الوجه الآخر: أنا ومن اتبعني ندعو إلى الله على بصيرة.
    فهذا أمر الله، ونحن أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن ندعو إلى الله على بصيرة؛ فإذا دعا داعٍ إلى غير الله أو على غير بصيرة من الله، فهذا ليس متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلام الله: (( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )) [يوسف:108] فإن كنت من أتباعه، فلا بد أن تقتفي أثره في الدعوة إلى الله، بأن تكون دعوتنا على بصيرة، وأن نكون على بصيرة من أمرنا في تعلم كتاب ربنا وسنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتفقه في الدين والصبر واليقين.

  3. ثالثاً : الصفات التي يجب أن تتحقق في أتباع الأنبياء حتى تكون لهم الإمامة في الدين

    إن الله سبحانه جعل في أتباع الأنبياء الذين يدعون إلى الله صفتين؛ إذا تحققتا كان لهم الإمامة في الدين، يقول الله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24] فبالصبر واليقين؛ تتحقق الإمامة في الدين، ويتحقق اتباع المرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين؛ فهم كانوا الغاية في الصبر، وكانوا الغاية في اليقين، وحسبكم أن تعلموا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفارقه الصبر واليقين في كل المواقف الصعبة التي مرت به (وهو طريد في الغار يطمئن صاحبه -وأثناء الهجرة يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى- وهو يحفر الخندق والخوف يحيط به من كل ناحية، فيضرب بالفأس ويقول: الله أكبر! الله أكبر! ويبشر أصحابه بملك كسرى وقيصر) فلم يفارقه اليقين والصبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبداً، وكان أصحابه مثلاً في الصبر واليقين، يقتدى بهم ويسترشد بطريقتهم، وكانوا خير حواريين لخير نبي.
    فباليقين وبالصبر وبالاتباع تتحق البصيرة، ونكون على المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.