المادة    
وبيان ذلك أنه لو كَانَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدعياً مفترياً -كما يزعم المفترون قاتلهم الله أنى يؤفكون- لما أقره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يفتري عليه؛ أنه أوحى إليه، وأن يفتري باسمه هذا القُرْآن وهذه الأحكام من حلال وحرام، ويسلطه عَلَى أتباع الأديان فيقتلهم ويحصرهم ويسبيهم.
كل هذه الأمور لا يمكن أن تقع فمن قَالَ: إنها يمكن أن تقع من غير رَسُول يوحى إليه من الله، فهذا ليس طاعناً في هذا النبي فقط؛ بل هو طاعن في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي حكمة الله وعدله، وأنه يؤيد الكافرين المفترين عليه وينصرهم ويجعل الغلبة والعاقبة لهم في كل ميدان ومعركة وهم يكذبون عليه ليل نهار ويحاربون أولياءه ويستذلون عباده ويظلمون النَّاس بهذا الفعل، هذا لا يمكن أن يقول به إلا إنسان لا يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق الإيمان، ولا يصف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما وصف به نفسه، ولا يقدره تَعَالَى حق قدره.

أما من كَانَ يعرف صفات الله عَزَّ وَجَلَّ وحكمته وعدله ورحمته؛ فإنه يعلم أنه إنما فعل به ذلك لأنه نبي من عنده، وهو قادر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أن يقضي عَلَى كل مفتري: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) [الحاقة:44-46] فأي إنسان تقول عَلَى الله، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر عليه، وقال في آية أخرى: ((فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ))[الشورى:24] فإذا ختم عَلَى قلبه لم يعد يتكلم بأي كلام، ولا ينطق بأي نطق وانتهى الأمر.
أو يهلكه كما أهلك مسيلمة، والأسود العنسي في اليمن، وأهلك كثيراً من الكذابين والدجالين، وأظهر كذبهم ومخازيهم عَلَى العالمين.
إذاً: هذا دليل كبير نسميه دليل الواقع أو الدليل التاريخي
وكل من أنكر ذلك من اليهود والنَّصارَى خاصة فإنه يلزمه أن ينكر نبوة موسى ونبوة عيسى عليهما السلام بأنه لم يمكن الله عَزَّ وَجَلَّ لموسى ولا لعيسى عليهم السلام ولم يعطهما من الظفر والتأييد وبلوغ الرسالة ورفعة الذكر مثلما أعطى لمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن طعن في نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو من باب أولى طاعن ومكذب بنبوة المسيح وموسى عليهما السلام، فمن كَانَ مؤمناً -وهكذا حال أهل الكتاب- بأن عيسى نبي، وأن موسى نبي فالأولى به والإلزام أن يؤمن بأن محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي.
لأنه ما من آية أوتيها موسى وعيسى إلا وأوتي مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أضعافها ولا سيما ما حصل له من الظهور والغلبة والتمكين ومحو الشرك والضلالات وإزالة الإلحاد، وقمع الظلم والفساد، وإقامة العدل وإعطاء الإِنسَان حريته وإنسانيته الحقيقية، عَلَى مستوى عام لم يشهد له التاريخ من قبل مثيلاً، ولم ولن يشهد له من بعد، إلا لمن يقتدي بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسير عَلَى منهاجه.

بعد ذلك انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في آخر هذا المبحث إِلَى الفرق بين النبي والرسول.