المادة    
ولأهميه هذا الموضوع ننقل كلاماً نافعاً لـشَيْخِ الإِسْلامِ رحمه الله، ولا أريد أن أطيل عليكم فيه، لكننا طلبة العلم نحتاج إليه كثيراً في واقعنا، وهو من كتاب الاستقامة يقول الشيخ رحمه الله: ''إن من مسائل الخلاف الاجتهادية ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بغض الآخر'' أي: إذا اختلفوا في مسألة اجتهادية، فيظن البعض أن اعتقاده يوجب عليه بغض الآخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفيره أو قتاله أو تفزيعه، إلى غير ذلك وقد يخرجه من السنة أو الإسلام أو طريق الحق والدعوة، لأن اعتقاده يدفعه إلى ذلك، فيقول: ''فإذا فعل ذلك مجتهداً مخطئاً كان خطؤه مغفوراً له، وكان ذلك بحق الآخر محنة وفتنة وبلاء ابتلاه به'' أي: حتى إذا تنازعا واختصما فبغى أحدهما على الآخر، أو بغت إحدى الطائفتين على الأخرى فظلمتها وكفرتها وفسقتها وبدعتها إلى آخره، فاعلم أن هؤلاء الذين فسقوا وضللوا وبدعوا إن كانوا يريدون الحق فعلاً فلهم أجر واحد وهو أجر الاجتهاد، وإن كانوا غير مصيبين فالواجب على الآخرين -وإن كان ما قيل فيهم زوراً وباطلاً وبهتاناً- الصبر؛ لأن هذا امتحان وابتلاء.
  1. البغي في الاجتهاد

    ويقول: ''ولكن اجتهاد السائل لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي'' أي إذا أصبح الأمر فتنة وفرقة وقعت بين الناس من طلاب العلم وغيرهم، فلا بد أن ذلك نتيجة بغي وعدوان وليس نتيجة اجتهاد.
    يقول: ''فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ'' فالاجتهاد السائغ لا يكون معه فتنة ولا فرقه، أي: إذا قلت قولاً وخالفك أخوك، فلا توجد هناك فتنة ولا فرقة، ولا يقع ذلك إلا إذا كان هناك بغي من أحد الطرفين على الآخر، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)) [آل عمران:19].
    يقول: ''وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين '' والكلام يخرج المنافقين، لأن المنافقين -والعياذ بالله- يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لكننا نتكلم عن المؤمنين الذين يريدون الحق من هذه الأمة.
    يقول: ''وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول -أي أصول الدين- في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب، فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، وقد يكون المخطئ باغياً، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أُمر به من الصبر'' أي يوجد إنسان بغى من غير اجتهاد، وخالف الحق وظلم، ولا يزال من المؤمنين ولم يخرج من الملة، فخالف في أمر من أمور الاعتقاد العظيمة؛ لكن خالف من غير اجتهاد سائغ، وكان باغياً في ذلك.
  2. بغي الخوارج في الاجتهاد

    وأوضح مثال على ذلك هم الخوارج لما بغوا واعتقدوا كفر علي -رضي الله تعالى عنه-ومن معه، ماذا فعل بهم علي رضي الله تعالى عنه؟ وهم خوارج حقيقيون فعلاً، وهم الذين بلغ من شأنهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفهم بأعيانهم، وعلي رضي الله تعالى عنه كان يقول لأصحابه ابحثوا عن ذي الثدية، فلم يجدوه فكان يقسم ويقول: [[والله ما كذبت ولا كُذبت]] فبحثوا حتى وجدوه في ساقية وفوقه جرحى وقتلى، فأخرجوه وإذا في عضده مثل الثدية، ومع ذلك قالوا لـعلي -رضي الله عنه- لما صعد المنبر لا حكم إلا لله، أي أن علياً رضي الله عنه حّكَّمَ الرجال، ومادام حكم الرجال فقد خرج عن الإسلام وخرج عن السنة، وليس له طاعة، وهو كما قالوا: يريدون أميراً غيره وهو عبد الله بن وهب الراسبي، أو أميراً مثل عمر، إلى آخر ما قالوا، ومع ذلك صعد المنبر وقال: "أما إن لكم علينا ثلاثاً -أي: مهما قلتم وافتريتم فإن لكم علينا ثلاثا- وهم خوارج حقيقيون -قال: وهذه الثلاث هي: ألا نبدأكم بقتال حتى يكون الباغي منكم هو الذي يصول ويعتدي، وألا نمنعكم مساجد الله -لأن المساجد بيوت الله، وكل من كان من أهل القبلة يحق له أن يأتي إلى بيوت الله- وألا نمنعكم الفيء" أي عطاءكم من بيت المال، لا نمنعكم إياه ولا نفصلكم ونضايقكم لأنكم خوارج، ولأن هذا هو حق لكل مسلم مادام من أهل القبلة، ومن أهل الإسلام.
    هذا حكم علي رضي الله تعالى عنه، وحكم الخلفاء الراشدين الذين قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي} ثم قاتلهم رضي الله تعالى عنهم وقاتلهم الصحابة حتى تحقق فيهم ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن بدأوهم هم بالقتال وخرجوا عن الطاعة، وأمَّروا عليهم أميراً منهم، ورفضوا طاعة أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه.
  3. الخطأ في الاجتهاد

    قال شَيْخُ الإِسْلامِ: ''وفيهم المجتهد المخطئ'' وبعض العلماء من أهل السنة والجماعة أخطأ في مسائل الصفات، فبعضهم أول الكرسي بأنه العلم، وأخطأ بعضهم وقال في حديث {إن الله خلق آدم على صورته} إن الضمير يرجع إلى الرجل أو إلى آدم وليس إلى الله، وبعضهم أخطأ في القدر، وبعضهم أخطأ في الحكم على مرتكبي الكبائر، قال قولاً مغايراً لقول الجمهور، لكنه لا يريد إلا الحق، فهذا مخطئ معذور مادام من أهل السنة ويريد الحق، والتزم السنة باطناً وظاهراً، لكن لم يوفقه الله إلى الصواب، وليس كل من التزم السنة يوفق فيعصم بل إنما يوفق ويصيب في أكثر أقواله وأعماله -والحمد لله- وأما الخطأ فكل بني آدم عرضة له، ومنهم النوع الآخر وهو المجتهد المصيب الذي لا شك فيه، يقول: ''وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين'' حتى نحفظ ألسنتنا جوارحنا من أن نحدث فتنة وفرقة بين طلبة العلم وبين إخواننا المسلمين، فكل ما أوجب فرقة أو فتنة فليس من الدين سواء كان قولاً أو فعلاً.
  4. صبر المصيب العادل على المخطئ الجاهل

    المصيب العادل عليه أن يصبر على الفتنة، إذا كنت أنت المصيب العادل وغيرك الظالم الباغي المخطئ فاصبر ولا ترد عليه، حتى لو ألف ضدك الكتب، حتى لو قال فيك ما قال، لا ترد أنت، لأنه إذا أخطأ وعصى الله فيك فأطع الله فيه، كما قال بعض السلف: ما رأيت أن أعامل أحداً عصى الله فيّ بمثل أن أطيع الله فيه -عصى الله فيك وأنت تطيع الله فيه، تعفو وتصفح وتصبر وتتحمل. يقول -رحمه الله-: "وسوف يصبر على جهل الجهول وظلمه إن كان غير متأول، وأما إن كان ذلك أيضاً متأولاً فخطأه مغفور له'' أي حتى الذي يبدأ بالعدوان والسب والشتم والتعيير والتبديع قد يكون بعضهم يريد الدفاع عن السنة وعن العقيدة، فهذا له أجر الاجتهاد على هذا الاجتهاد السائغ، وإن كان عمله خطأ.
    وفي المقابل أنت عليك الصبر، يقول: ''وهو فيما يصيب به من أذىً بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم، فإذا صبر على ذلك'' أي: المظلوم والمفترى عليه إذا صبر على ذلك واتقى: ''كانت له العاقبة -ولا بد أن يظهر الحق- كما قال تعالى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)) [آل عمران:120] ''.
    وكم افتري على شَيْخِ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، وقالوا: إنه عدو الله والسنة والإجماع، ولو قرأتم في أول التسعينية وغيرها لرأيتم كيف جعلوه خارجاً عن إجماع الأمة، وهذا لأنه -بظنهم- لم يوافقه على كلامه أحد لا في القديم ولا في الجديد، فجعلوه خارجاً عن إجماع الأمة في الأمور التي يعلم الناس الآن أنها حق.
    واسألوا العامة بل واسألوا العلماء من هم الذين ردوا على ابن تيمية، من الذين أغروا به فسجن ومات في السجن رحمه الله؟! ومن الذين اتهموه، وآذوه؟! من هم وما أسماؤهم؟! دعك من كتبهم قد لا يكون لها وجود في الدنيا، بعضهم لا وجود لاسمه فضلاً عن كتبه، كثير منهم لا يعرف؛ لكن من الذي يجهل ابن تيمية رحمه الله؟! سبحان الله! دائماً العاقبة للتقوى، ولا يظهر الله إلا الحق، أما الزبد فيذهب جفاءً ولو استمر ما استمر.
    فهذا يوجب من المبتلى ومن المؤذى والمفترى عليه أن يصبر، ويتوقع أن العاقبة له، وهذا حاصل في القديم والحديث.
    وتذكرون شيخاً عالماً فاضلاً -ولا حرج أن نسميه- وهو شيخنا جميعاً الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- عندما قال قولاً في مسألة المعية، وافترى عليه من افترى، وقالوا: خرج عن أهل السنة وصار حلولياً -حاشاه من ذلك حفظه الله- وتعجبت من ذلك وقلت: سبحان الله! المسألة لا تحتاج إلى هذا القول كله، ولكن الشيخ آذوه وتحمل الأذى الشديد وصبر على هذا، وفي النهاية الآن لا يوجد أحد إلا ويعلم أن الشيخ -حفظه الله- على الحق وعلمه منتشر في الأمة، وأولئك من كان منهم له اجتهاد سائغ فله أجر الاجتهاد ولكنه لم يصب، ومن كان عادياً ظالماً باغياً فهو قد أفضى إلى ما قدم والله تعالى حسيبه حياً أو ميتاً.
    الشاهد أن هذه سنة الله في العلماء والدعاة أن يبتلوا، ويفترى عليهم، ويتهموا، وأن يقال عنهم: أعداء للعقيدة والسنة، فالواجب في هذه الحالة هو الصبر والاحتساب، وفي النهاية يحق الله الحق ويبقى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض بإذن الله تبارك وتعالى.
  5. الصبر على الابتلاء

    يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: ''وقال تعالى: ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) [آل عمران:186] فأمر الله سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى -وهذا مهم لنا- وذلك تنبيه على الصبر من أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين'' أي: لابد أن يصبر المؤمنون بعضهم على أذى بعض، فلا يجوز لأحد أن يغتاب المسلمين، أو يسيء الظن فيهم، أو أن يعقد جلسات للطعن والنيل منهم.
    ولكن أيضاً لو فعل فالواجب على الطرف الآخر الصبر والسكوت والاحتساب، وهذا واجب على الجميع، يجب على هذا أن يكف عن الأذى، ولكن لو لم يكف وجب على ذاك أن يصبر وأن يحتسب حتى تستقيم الأمة ولا تعم الفرقة.
    يقول: ''وقد قال سبحانه: ((وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) [المائدة:8] فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا فيهم -هذا وهم كفار- فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟!'' فلا يحملنا بغضنا لليهود والنصارى أن نظلمهم ونفتري عليهم، ونبهتهم بما ليس فيهم، حتى لو كان رافضياً، أو كان خارجياً، ولا يحملنا ذلك على ظلمه والافتراء عليه، وما فيهم من البدعة يغنينا على أن نبهتهم ونفتري عليهم ونتكلم في نياتهم.
    فكيف إذا كان ممن يدعو إلى مثل ما تدعو إليه، ويدين الله بمثل ما تدين به، ويعتقد مثل ما تعتقد، هل يجوز أن تبغضه وتعاديه؟ هذا مما لا يجوز بلا ريب.
    يقول: ''فهذا أولى أن يجب عليه ألا يحمل ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالماً له، فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا، فإن الشيطان موكل ببني آدم وهو يعرض للجميع، ولا يسلم أحد من مثل هذه الأمور'' وهذه قاعدة عظيمة، لا يسلم أحد من أن يقع في قلبه شيء من هذا على إخوانه المسلمين.
    يقول: ''من نوع تقصير في مأمور، أو فعل محظور باجتهاد، أو غير اجتهاد، وإن كان هو الحق، ولهذا قال تعالى: ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ)) وقل فعلاً ولا يمكن أن يسلم أحد أو يسلم مجلس من هذا ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء:114]'' .
    لماذا لا يكون هذا هو ديدننا وشأننا دائماً في مجالسنا، أن نأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ولا نتحدث في الفرقة ولا نضع على النار أعواداً لتشتعل، بل لو بلغنا أن أحداً في قلبه شيء على أحد نصلح ما بينهما ونهدئ الأمر، وهذا الخلاف يقع عقوبة من الله ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)) [الأنعام:65].
    وقد استعاذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأولين فأعيذ منهما، وأما الثالثة فمنع وحجب عنه كما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالفرقة عذاب لكن الواجب ألا نأججها، بل نقول لمن جاء يغتاب أو ينم أو يتكلم اتق الله وأصلح ذات البين، فيجب أن تكون مجالسنا كذلك، وإن لم تكن مجالسنا مجالس علم وذكر لله -تبارك وتعالى- ومنفعة تنفعنا حتى في دنيانا، فيجب أن تكون مجالاً للأمر بصدقة أو معروف إو إصلاح بين الناس، وليس مجالس إفساد وشحناء في القلوب وإيغار في الصدور.
  6. أمر الله لنبيه بالصبر

    يقول: ''وقال سبحانه لنبيه: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ)) [غافر:55] فأمره بالصبر، وأخبره أن وعده حق، وأمره أن يستغفر لذنبه.
    ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به- فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر -فالفتنة إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر- عند المعتدى عليهم والمتكلم فيهم، فتقع الفتنة والفرقة- فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور'' دعك من المفتري الظالم صاحب الهوى؛ لكن أنا أخاطبكم وأخاطب نفسي أن نكون من النوع الثاني، فليقل فينا من شاء ما شاء، وليفتري علينا من افترى، لكن يجب علينا أن نصبر، وإن لم نصبر نحن فقد عصينا الله، كما عصى أولئك بالبغي والظلم، فكانت الفتنة.
    وحتى أكون صريحاً معكم، فإني أتعجب أن بعض الناس من المتكلم فيهم يصبرون والباقين لا يصبرون -سبحان الله!- لا بد أن نصبر حتى نقضي على هذه الفتنة التي يريد الشيطان أن يرجف بها بين المؤمنين، فليبغ الباغون، وليعتد المعتدون، وليفتر المفترون، لكن أنت اصبر وتحمل.
    يوسف عليه السلام مكث في السجن سبع سنين نتيجة أنه افتري عليه أنه يريد أن يفعل الفاحشة، وهو الذي استعصم وأبى وهرب إلى الباب، وهو نبي من أنبياء الله، افتري عليه وظلم وسجن هذه المدة بظلم، ونحن الآن إذا قيلت فينا كلمة أو أوقف داعية، أو صار شيء علينا جزعنا وقنطنا، لكن هذه هي سنة الله ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)) [الفرقان:31] ولا شك أن الذي يحمل بعض الإخوان على الأذى والألم هو من باب قول الشاعر:
    وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً            على النفس من وقع الحسام المهند
    أي: إذا تكلمت -مثلاً- إذاعة صوت أمريكا، وقالت: المتطرفون.. الأصوليون، فنقول: هم كفار ولا يضيرنا كلامهم فينا، لكن عندما يأتي إخوان لك، وترى فيهم -إن شاء الله- دعوى الخير ومظهر الخير ومحبة الخير واعتقاد الخير، وتحسبهم كذلك والله حسيبهم، ولا تتوقع منهم إلا الخير، ثم يظلمونك! فإنك تتألم، هذا الذي يدفع ببعض الإخوان إلى ذلك.
    ومع هذا نقول كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله درءاً للفتنة: ''لا بد من الصبر على هؤلاء، كما لا بد من الكف من أولئك''
  7. خطأ المقصر في معرفة الحق من وجوهٍ ثلاثة

    يقول: ''وإن كان مجتهداً في معرفة الحق ولم يصبر، فليس هذا بوجه الحق مطلقاً، لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه، فينبغي أن يصبر عليه، وإن كان مقصراً في معرفة الحق -الطرف الآخر- فصار له ثلاثة الذنوب: أنه لم يجتهد في معرفة الحق'' وبعض الناس -مثلاً- قد يقع في أعراض العلماء والدعاة، فيجتمع له ثلاثة ذنوب.
    أنه لم يجتهد في معرفة الحق، بل وسمع كلاماً وأخذه على عواهله وردده ونشره.
    والثاني: أنه لم يصب الحق.
    والثالث: أنه لم يصبر.
    فوقع في ثلاثة ذنوب، والآخر قد يقع في ذنب واحد وهو ترك الصبر، ولكن ينبغي ألا يعصى الله لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، يقول: ''وأمور القلوب لها أسباب كثيرة، ولا يعرف كل أحدٍ حال غيره بإيذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤذى -إن كان مظلوماً لا ريب فيه- أن ذلك المؤذي محض باغٍ عليه، ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن''.
    أي من الخطأ أن يقول شخص: ما دام ظلمني فلان فإنني أدفع ظلمه بأي شيء، ليس كذلك! حتى الذي ظلمك، وأجاز الله لك أن تدفع سيئته بمثلها، أمرك الله كذلك بالصبر والعفو وأنه أفضل، وما أباح لك أن تدفعه بأي شيء أو تقول في حقه ما تريد، وهذه القواعد عظيمة في التعامل بين المؤمنين مهما اختلفوا ومهما أخطئوا، "والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24] وقال: ((وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:3]'' .
    ثم ذكر رحمه الله، أصلاً عظيما وهو:
    يقول: ''وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة - يظن أن الأمر متعارض- فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة'' يقول: لا أستطيع أن آمر أو أنهى إلا بفتنة، فيقول: ''فإما أن يؤمر بهما جميعاً'' أي: الله أمرني بالأمر والنهي وأمرني بالفتنة، وكيف أمرك بالفتنة؟ يقول: ما دام لا يمكن الأمر والنهي إلا بها، فأنا مأمور بالإثنين، وإن كانت فتنة لا بد أن آمر وأنهى، أو أسكت، فلا أقول الحق حتى لا تقع الفتنة، وهذا هو الخطأ، فيفهم أنه لا بد من الأمرين معاً نفياً أو إثباتاً، وينسى قول الله تعالى: ((وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)) [لقمان:17] فلا بد أن تأمر وتنهى وتصبر على ما أصابك من الفتن، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم الصبر وقول الحق في الغضب والرضا إنه سميع مجيب.