المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[بل إنكار رسالته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعن في الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونسبته إِلَى الظلم والسفه، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحدٌ للرب بالكلية وإنكار.
وبيان ذلك: أنه إذا كَانَ مُحَمَّد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري عَلَى الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إِلَى أمر الله له به ومحبته له، والرب تَعَالَى يشاهده، وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة.
وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره، ويُعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم، فإنه لا أظلم ممن كذب عَلَى الله، وأبطل شرائع أنبيائه وبدَّلها، وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تَعَالَى يقره عَلَى ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.
فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كَانَ له مدبر قدير حكيم لأخذ عَلَى يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!
ولا ريب أن الله تَعَالَى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته، والشهادة له بالنبوة عَلَى رؤوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه.
هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى:((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) [الطور:30-31] أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل؛ بل لابد أن يجعله عبرة لعباده.
كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ)) [الشورى: 24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثُمَّ أخبر خبراً جازماً غير معلق: أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء)) [الأنعام:91] فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] إهـ.

الشرح:
استمرار دعوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دليل عظيم لمن تأمله وفطن إليه وفقهه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتفكر في حقيقة أمر النبوة، وأمر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، أياً كَانَ دينه، نقول هذا للمسلم ولغير المسلم.
ولنفترض أن هذا النبي -كما يقول الكاذبون والمرجفون- ليس موحاً إليه من عند الله، فكيف يأتي فيدعي النبوة وهي دعوى عظيمة، ثُمَّ يأتي فيستمر ثلاثاً وعشرين سنة وأمره مؤيد ظاهر؟
فيحارب الأعداء وينتصر عليهم، ويرفع يديه إِلَى السماء فتستجاب دعوته فيهم، ويستبيح نسائهم وأموالهم، يقتل كل مخالفيه، ثُمَّ يذهب في الأرض فيأتي إِلَى أهل الكتاب: فإما الجزية، وإما الإسلام، وإما السيف، ويأتي إِلَى الْمُشْرِكِينَ: فإما أن يسلموا، وإما السيف، أمور يفعلها، وهو مؤيد ظاهر، وترتفع المآذن في شرق الأرض وفي غربها أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ويخلُد ذكره، ويعظم أمره
.
  1. من طعن في نبوته أو كذبه أو سبه أذله الله وأخزاه

    ولا يعلم أن أحداً سبه أو طعن فيه أو كذبه إلا أذله الله وخذله، وهدم كبره، كل هذه الدلائل الواضحة البينة، ومع ذلك يكون هذا الرجل مفترياً عَلَى الله، ويقول هذا من عند الله وهو ليس من عند الله.
  2. وقفة مع منكري نبوات الأنبياء

    في الحقيقة الذي يطعن في نبوة النبي لا يطعن فيه بل يطعن في الله هذا ما يريد المُصنِّف أن يقوله، ويلزم من قوله: إما أن هذا الكون ليس له إله!
    وهذا لا يمكن؛ لأن أتباع الأَنْبِيَاء -على الأقل- جميعاً يؤمنون بأن الأَنْبِيَاء جاءوا من عند الله، وإما أن يكون هذا الرب لا حكمة له ولا تدبير، إنما هو ظالم، وهذا لا يليق بالله عَزَّ وَجَلَّ، فكل من يعلم شيئاً عن الله عز وجل لا ينسب الله تَعَالَى إِلَى الظلم؛ بل إن الكون يشهد بأن هذا الإله حكيم عدل.
    فكيف نقول: إنه ظالم؟ وإنه لا حكمة له ولا تدبير؟
    ولا يليق بالله أن يرفع المفتري عليه فوق العالمين، ويظهر سلطانه، ويرفع شأنه ويؤيده.
    ويقال أيضاً لمنكري نبوات الأنبياء: ألا تؤمنون أن هذا الإله قدير؟
    سيقولون: نعم هو قدير؛ لأنه خلق هذه النجوم والمجرات والكواكب العظيمة.
    فيقال لهم: هذا القدير ألا يقدر عَلَى بشر يفتري عليه؟!
    ولذلك قَالَ: ((فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ))[الشورى:24] ولو أن هذا الإِنسَان يفتري عَلَى الله، فإن الله يختم عَلَى قلبه ويميته فينتهي الأمر، ولهذا قالت قريش:((أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) [صّ: 6] وَقَالُوا:((شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))[الطور:30].
  3. قريش تتربص بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون

    تظن قريش أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مات انتهى أمره، لكن الأمر لم يكن كما كانوا يتوقعون، فالنبي مازال ينتصر ويظهر أمره، بل إِلَى الآن لا يوجد أحد يستطيع أن يطعن في دينه، أو يطعن في نبوته إلا ويذله الله تعالى، ويظهر التناقض من فمه، وفي كلامه، وفي رأيه. إذاً.. هذا لا يمكن إلا أن يكون حقاً نبياً من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومن طعن في نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما هو طاعن في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي حكمته، وفي عدله.
  4. في مسيلمة والعنسي عبرة ودلالة

    قد يقَالَ: إن بعض الكذابين ظهر لهم شأن، كـمسيلمة الكذاب والأسود العنسي فإنه قد تبعهما بعض الناس، وظهر لهما شيء من الأمر، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ خذلهم وأذلهم، ونصر جنده عليهم، ومن عرفهم علم أنهم عَلَى غير هدى، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينصرهم ولم يؤيدهم، وإنما فتنهم وفتن بهم ولكن هذا الرجل الذي جَاءَ من أمة أمية، ويأتي للعالمين بالنور وبالضياء المبين، وبالهدى والرشاد، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فمن كَانَ مؤمناً بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أي دين، ومن أي جنس فعليه أن يؤمن بأن هذا رسوله حقاً.
  5. هنا نقطة البداية

    وهذا الكلام هو نقطة البداية التي يمكن أن نتحدث بها إذا أراد أحدنا أن يدعو أحداً إِلَى دين الإسلام، أو يخاطبه عن الإسلام، فلا بد أن ينظر: فإن كَانَ يؤمن بالله، وأن الله حكيم، وأن الله عدل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لديه عَلَى الأقل ما يسمونه "حسن التصرف أو التدبير" فيخاطبه بمثل هذا الكلام، ويخاطبه بصحة هذا القُرْآن الذي بين أيدينا، ويسألة: لِمَ لَمْ يتغير منه حرف؟ ولا يطعن فيه أحد ويغير فيه إلا فضحه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العالمين؟ فهذا لا يمكن أن يكون إلا بتأييد من الله، وبهذا يصل معه إِلَى النتيجة المطلوبة.